عربي جديد

في الأغنية العراقية المعاصرة

علي عبد الأمير ۲۳/۱۱/۲۰۱٤

ينفتح الحديث هنا، على أفاق بحث، يمتزج فيها التاريخي بالاجتماعي بالفني. فليس اعتباطاً أن نضع عام 1921 بداية لاستعراض ملامح الموسيقى العراقية: فهو العام الذي بدأ فيه تشكيل الدولة العراقيّة المعاصرة، وانطلاقاً منه راحت طرقات التحديث تضرب بقوة على وقائع روحيّة ساكنة ومادية خابية ميّزت عقود السيطرة العثمانيّة على العراق.

ومن تلك الوقائع الروحيّة كانت الموسيقى، والتي لم تكن تنتظم في تشكيل موحّد، انطلاقاً من عناصر تنوع عدّة، أولها: عنصر التنوّع البيئي، فثمة الجبال والسهول وثمة البوادي والصحراء، وثمة المسطحات المائيّة الواسعة (الأهوار)، وثمة الأنهار، وإطلالة ما على البحر. وضمن كل محيط بيئي، كانت تنتظم جماعة إثنيّة (قوميّاً ودينيّاً)، ولكل منها استجابات تميّزها موسيقيّاً.

هذا التنوع البيئي والاثني، أثرى أشكال الموسيقى العراقية، فموسيقى الجبال وسكانها (الكرد) كصياغات مقامية لحنيّة وطبيعة إشاد صوتي وآلات موسيقية، هي ليست تلك التي تنتشر في منطقة، لا تكاد تبتعد عنها غير عشرات الكيلومترات، وهي منطقة أعالي البادية الغربية للعراق، حيث نمط الحياة البدوية وأنغامها الخاصة التي قد تبدو متشابهة مع باقي امتدادات البادية العراقية، ولكنها ليست متماثلة تماما بالذات حين يخترق نهر الفرات جزءاً منها، لتغدو الأنغام، تركيبية، وتنسحب الرتابة النغمية المنفتحة على أفق ساكن متشابه، هو أفق الصحراء .

نغم أقرب الى النواح والندب منه إلى الغناء بوصفه شدواً

هنا كانت الاستجابة الاولى، فبداية كهذه تقود إلى الحديث عن التنوع النغمي بحسب البيئات الأخرى، فالأنهار في العراق لم تكن سبباً موضوعيّاً لقيام المدن فحسب، بل ولتنشيط حياة زراعيّة انتظمت في مجتمع الريف الذي أنتج صياغاته الروحيّة موسيقيّاً، وصولاً إلى منطقة مائية شديدة الخصوصية هي منطقة الأهوار لها أطوارها الموسيقية الغنائية على وجه الخصوص، والتي لا تبدو أنها منفصلة كثيراً عن طبيعة المنطقة طوبوغرافيّاً واجتماعيّاً، وتتميّز بالصعوبة والضنك، مما أنتج غناءً في تفصيلاته النصية والأدائيّة هو أقرب الى النواح والندب منه إلى الغناء بوصفه شدواً.



ولو وصلنا مناطق أقصى جنوب العراق، لأمكننا تحسّس بنى إيقاعيّة في أنغام تنفتح على أصول أفريقيّة تارة، وهنديّة تارة أخرى، شأنها في ذلك انفتاحها على البحر، وهو ما سائد في البلدان المطلة على الخليج.



وحين نصل إلى الحديث عن الحياة الموسيقية في المدن العراقية، ستكون موروثات الحياة البغدادية في مقدمتها، فقد ورثت الحياة البغدادية القديمة تقاليد حملتها إليها السيطرة العثمانية، ومنها تلك الفسحة التي توفرها الأنغام والموسيقى. فقد كانت الموسيقى التركية لفترة طويلة تمثل نقطة أساسية ومحورية في ما عرف عندنا اصطلاحاً بـالموسيقى الشرقيّة“. ولعدم وجود نمط متعارف عليه لتقديم تلك الفعاليات الموسيقية – الغنائية، كانت بيوت وصالونات استقبال عوائل النخبة الاجتماعية تشهد تلك الأمسيات وتجتذب إليها جمهرة واسعة من الناس، حتى أصبح الإنشاد في تلك الأمسيات ميزة، تنالها عيّنة خاصة من المنشدين المجيدين، وتتفاعل تلك الأمسيات في مناسبات أكثر حفاوة، وبالذات في ما هو متعلق بالاجتماعي من حياة العائلات الموسورة، التي كانت تجد في الغناء والعزف على آلالات نمطاً من أنماط الرفعة الروحية، في الوقت الذي كان الغناء فيه مخدشاً للحياء عند عامة الناس والفقراء تحديداً.

وما إن تطورت الحياة في بغداد مع اتضاح معالم الدولة العراقية الحديثة في أوائل عشرينيّات هذا القرن، بدأت الصياغات اللحنية والموسيقية تنشط في أماكن أكثر انفتاحاً من صالونات البيوت ومناسباتها الشخصية، فثمة الأناشيد في المدارس والمحاولات الأولية في المسرح الغنائي، ثم الملاهي لاحقاً والتي صارت مع وجود فرقة موسيقية بسيطة هي المكان الأول للظهور الموسيقي والغنائي لأسماء عدة.

وازدهر الغناء البغدادي مع دخول عالم الاسطوانات وصناعتها الى العراق، فأصبحت شركات الإنتاج الغنائي تتسابق على تسجيل أغنيات كثيرة، وهذا ما شجع التطوير ومحاولات الاجتهاد في تقديم ألوان غنائية عديدة: الريفية إلى جانب المدينيّة وأبرزها المقام العراقي“.



الموسيقى العراقية: من شفاهيّة فطريّة إلى معرفة مدروسة

الانفتاح السياسي والاجتماعيالثقافي، والحداثة (المتمثّلة في شركات الانتاج)، هما الإسهام الأبرز في خلق أجواء تطور الأشكال الفنية في الموسيقى، وهذا لا يلغي دوراً أساسيّاً للدولة، فقد كان الانتقال الأبرز في الحياة الموسيقية العراقية ما تمثّل بوصول الشريف محي الدين حيدر وإشرافه، بطلب من الحكومة العراقية، على أول معهد موسيقي رسمي في بغداد العام 1936، والذي وضع فعليّاً أسس نقل الموسيقى في العراق من عمل شفاهي فطري إلى عمل معرفي مدروس. ليحدد برصانة للمعهد مهمات من نوع:

طريقة قبول الطلاب ودراستهم في المعهد للنظريات وللآلات الموسيقيّة .

الموسيقى الوطنية وكيفية تنشيطها.

إحياء النشيد الموسيقى في المدارس الابتدائية، كأول اتصال للأجيال الجديدة مع النغم الرفيع.

رفع مستوى الموسيقى ودورها في تهذيب النفوس جماعيّاً.

وليس من باب الصدفة أن يكون من تلامذة الشريف محي الدين حيدر، أبرز موسيقيي العراق المعاصرين، تأليفاً أو مهارات في العزف على الآلات الموسيقية، وفي مقدمتها العود وهم: جميل بشير، سلمان شكر، منير بشير، غانم حداد وغيرهم.

وكان الشريف محي الدين حيدر يؤكد على ضرورة إظهار الملامح الخاصة في أعمال الموهوبين موسيقيّاً، فقد أتاح نهجه في جعل التقاسيم على آلة العود قادراً على تخطي الحدود التطريبية إلى آفاق التعبير الراقي. فقد انقسم الفنانون الأربعة إلى فريقين: واصل أحدهما العزف منفرداً بطريقته الخاصة مثل الفنان سلمان شكر الذي حافظ على أسلوبه وطريقة تفكير أستاذه. أما الفريق الثاني، والمتمثل بجميل بشير على وجه الخصوص، فقد اتجه إلى دراسة ما لم توفره لهم مدرسة أستاذهم، وتقربوا إلى محيطهم الموسيقي المتمثل بالمقامات العراقية والألوان الريفية والبستاتالعراقية – أي اللوازم الغنائية الشعبية، ودفعها إلى مصاف التعبير الراقي بعد إعادة تقديمها وتوزيعها.





ضياع المبادرة الفرديّة المبدعة

ولأنّنا بدأنا الحديث مع تحول اجتماعي – سياسي مهم ( تشكيل الدولة العراقية المعاصرة)، لذا لا بد من مواصلته مع حدث آخر لا يقل أهمية. فبانهيار التراتب الاجتماعي، وبالتالي التراتب القيمي والفكري للمجتمع العراقي بعد 14 تموز/ يوليو 1958، وبوصول الرموز الشعبيةللسلطة، اختلطت الأشكال الروحيّة لتضيع ملامحها في فوضى الوضع الاجتماعي. فأصبح مع غياب التنافس بين شركات الإنتاج الخاص في الوسط الفني. وتحوّلت الفنون والثقافة إلى سيطرة الدولة واستخدام الموسيقى في الدعاية الوطنية، بإمكان المسؤول الأميذوقيّاً، أن يحدد شكل الغناء والموسيقى الذي تسمعه الجماهيراعتماداً على مسؤوليته الوظيفية المطلقة التي كرستها لا الكفاءة وإنما الولاء للسلطة: وإزاء سيطرة الدولة على مرافق الإنتاج الفكري والفني، ضاعت المبادرة الفردية المبدعة، لتنضوي في مهمات تجميل الخطاب السياسي وتصبح تابعا ذليلاً له.

في مثل هذه الأجواء ضاع الشكل المديني للأداء، وضاعت الملامح بين موجات الهجرة إلى المدينة من الريف، وضاعت الأغنية البغدادية في الستينيات، وأصبح ابن المدينة يسمع أغنيات لا تخفي لهجتها الريفية أو البدوية في الوقت ذاته الذي بدأت الأصول الفلاحية والبدوية تتحكم في نمط حياة المجتمع والبلد ككل.

وإذا كان هذا المشهد يتأسّس في مجال الغناء الشعبي، إلا أن مجالات الموسيقى الرصينة ظلت عصية بعض الشيء على فوضى التحولاتالاجتماعية والذوقية: أولاً لقوة مراس فنانيها، وثانياً لرسوخ الأصالة اللحنية لأشكال موسيقية كالمقام العراقي مثلاً، وثالثا للتركيبة الاجتماعية التي لم تتمكن موجات العنف والإجبار القسري الثورات الوطنية، من زعزعة انتظامها كليّاً، وإن بدت أنّها تمكنت من ذلك بعض الشي. فظلت في العراق أشكال أساسية تنتج الموسيقى والألوان الغنائية وفقها، ظلت مدارس المقام العراقي“: محمد القبانجي، يوسف عمر، وناظم الغزالي الذي أعطى المقام طابع الأغنية الراقية، مثلما قدّم المقام بصورة عصرية أنيقة غيّرت الصورة التقليدية لمؤدي المقام شبه الأميين ثقافيّاً وحياتيّاً والمعتمدين على قوة الموهبة الفطرية.





لكن القول بأن التحول بعد تموز/ يوليو 1958 سبب لـانحدار فنيفي الموسيقى العراقيّة لم يمنع تلمّس تواصل اتجاهات حداثة قويّة. فإلى جانب هذا الملمح الموسيقي التقليدي (المقام والغناء بألوانهما)، كانت النخبة العراقيّة تحافظ على وجود الفرقة السيمفونيّة الوطنيّة العراقيّة، وإلى جانب وجود عازفين بارزين فيها، كان موسيقيون عراقيون، يكتبون وفق أشكال تناسب الأوركسترا السيمفوني، مثل: منذر جميل حافظ، عبد الأمير الصرّاف، عبد الرزاق العزاوي، ولاحقاً محمد عثمان صديق، إلى جانب من برز في هذا الاتجاه ولكنه توقف عنه، مثل فريد الله ويردي. هذا غربيّاً، أمّا شرقيّاً، فقد كان هناك اتجاه تأليفي للآلات: العود، القانون، والناي، عبر مقطوعات وأعمال موسيقيّة كتبها الفنانون سالم حسين (قانون)، جميل بشير، سلمان شاكر، سالم عبد الكريم، وعلي الإمام (عود). وهناك أيضاً من كتب وفق القطعة الموسيقيّةضمن روحيّة الموسيقى العربيّة والشرقية، وإن استعان بالأوركسترا الغربية لتنفيذها كما عند جميل بشير، غانم حداد، سالم عبد الكريم وحسين قدوري.

تظلّ الموسيقى الصرفة (الآلية) بمجمل أشكالها: غربية أم شرقية، حتى وإن وقعّها فنانون عراقيون، نخبويّة في تأثيرها: فهي لم تستطع أن تقف إزاء موجات الانحطاط الذوقي التي مثّلتها التحولات في الأغنية، والتي هي الأكثر وصولاً للناس من الموسيقى الصرفة. ولأن التردي القيمي فكرياً واجتماعياً هو السائد، فإن تردي الذائقة غنائيّاً يبدو أمراً طبيعيّاً. لكن الطبيعة الفرديّة للإنجاز العراقي تجعلنا نلحظ حضوراً لافتاً لموسيقيين عراقيين، أكان ذلك في العزف أم في التأليف. كذلك علينا أن ننتبه إلى أن حضورهم يتحقق في غالبيته خارج وطنهم الذي عانى من ويلات الحروب وكوارثها .

أول أغنية حب في التاريخ سومريّة

[Mtooltip description=” علي عبد الأمير- صحيفة ‘الرأي’ الاردنية العام 1999″ /]ثمة عازفون ومطربون عراقيون يشكّل كل منهم ظاهرة موسيقية لوحده، لا لآلته الموسيقة فحسب، بل حين يغامرون في جعلها قطعاً لمجموعة من الآلات فهم يدخلون وبثقة إلى أشكال نغمية كثيرة، تأليفاً وأداءً. حاضرون في مهرجانات فنية عالية المستوى ولهم حتى مراكزهم الموسيقية الخاصة ومعاهدهم أيضاً، فضلاً عن كونهم في حال تجوال لا تهدأ بين القارات صحيح أنهم يعرضون فيها مواهبهم الفردية، لكن بلادهم وما عاشه ويعيشه مجتمعها من أهوال لتبدو دائماً بأمس الحاجة اليهم. بلادهم التي تفخر جامعات العالم بتقديمها على أنّها موطن أول أغنية عرفها التاريخ الإنساني.

ويكشف عازف القانون والمؤلف والباحث الموسيقي العراقي سالم حسين الأمير، عبر محاضرة، تخللتها فقرات سماعيّة على آلة القانون في دارة الفنون التابعة لمؤسسة خالد شومان أواخر تسعينيّات القرن الماضي، وقدّم خلالها تمهيداً نظرياَ عن الموسيقى في بلاد الرافدين وعبر مراحل حضارتها السومرية والأكدية والبابلية، كشف عن نص غنائي اعتبره أول أغنية حب في التاريخ، تولّت ترجمته وغناءه وعزفه على القيثارة السومرية البروفسورة آن كيلمر الأستاذة في جامعة شيكاغو“.

ويشير الأمير الذي عرف مؤلفاَ موسيقياَ لعمل استمد مؤثراته من تاريخ العراق القديم وحمل عنوان جلجامشوجاء على أربع حركات، وسجّله على القانون بمصاحبة الأوركسترا، إلى جهود كيلمر التي أمضت وقتاَ طويلاَ في تعلم النوطة الموسيقية المعاصرة لمقارنتها بالنوطة الموسيقية المكتوبة بالحروف المسمارية. كذلك تعلمها العزف على آلة القيثارة السومرية صنعت كيلمر مثيلتها وبحجمها وأوتارها وغنت بصوتها أغنية، هي أول أغنية حب في التاريخ-.

وفي قراءة لأثر الموسيقى في تاريخ العراق القديم، ينوّه الأمير إلى أن الموسيقى كانت جزءاً من عبادة سكان العراق القدامى وطقوسهم الدينية المختلفة كما أثبتت ذلك الكتابات المسمارية المدونة على الرقوم الطينية والمنحوتات على الآثار الجدارية، والتي تقول أن الموسيقى دخلت جداول الدروس في المدارس الدينيّة الخاصة بالكهنة ورجال الدين لتخريج موسيقين متخصصين في الموسيقى الدينية، وهو ما تسير عليه الكنيسة في العصر الحاضر“.

وذكر أن الملوك عنوا بالموسيقى وأهلها، ووضعوا مناهج لدراستها من قبل الأمراء والأميرات في مدارس موسيقية لم تكن خالية من النظريات الموسيقية التي عثر على بعض مدوناتها في أوروآشورفي نصوص الكتابات المسماريّة، كما عثر على نصوص رياضيّة تتعلق بالسلم الموسيقي لبلاد ما بين النهرين“.

وفي هذا الصدد، يشير سالم حسين الأمير إلى أن المنقبين الآثاريين والباحثين من ألمان وإنكليز وأميركيين وفرنسيين اتفقوا على أن السلم الذي عثروا عليه كان سباعيّاً، وأن أصل السلم الفيثاغورييرجع إلى البابليين الذين وضعوه قبل الإغريق، وهناك نصوص مسمارية تتضمن نوطات موسيقية ونصوصاً غنائيّة“.

واللافت في حرص سالم حسين الأمير على هذا الجانب الموسيقي التاريخي تعلمه للغة الأكدية والأشورية كي يتعمق في فهم النصوص الموسيقية والغنائية، وصولاً إلى كتابة رؤى موسيقية خاصة به تحاكي الامتداد التاريخي والإنساني في حضارة وادي الرافدين.

وفي محاضرته، قدم سالم حسين الأمير، الذي عرف ملحناً للعديد من الأسماء الغنائية العراقية والعربية، مقطوعات موسيقية على آلة القانون ثم أسمع الحاضرين أول اغنية حب في التاريخوالتي تقول كلماتها:

أيها العريس، حبيب أنت إلى قلبي

وسيم أنت جميل، حلو كالعسل

أيها الأسد، حبيب أنت إلى قلبي

وسيم أنت جميل، حلو كالعسل

لقد ملكتني فدعني أقف أمامك واجفة

أيها العريس هلّا حملتني معك إلى المخدع

أيها العريس دعني أضمك إليّ

دعنا نتمتع بهذه الوسامة الحلوة

أيها العريس لقد تمتعت وابتهجت معي

فأخبر أمي وستقدم لك الطيبات

وأبي سيغدق عليك الهبات

روحك، أنا أدري كيف أبهج روحك

قلبك، أنا أدري كيف أبهج قلبك

أيها العريس اغفِ في بيتنا حتى الفجر

مادمت تحبني – يا شورس –

الذي ملأ قلب إيليل غبطة

ضمني إليك

وبلاد أغنية الحزنأيضاً

يحيل باحثون وأكاديميون سلطة التراجيديا وسمات الحزن التعبيريةفي الموروث النغمي العراقي إلى واقع من الأحداث المأساوية التي عادة ما كانت تضرب البلاد من كوارث الفيضانات ونوازل الزمن والغزوات الأجنبية منذ سومر وبابل ودولة بني العباس وما تلاها. ولم يكن بأيدي أهلها حلولاً لتلك المشكلات والمصائب، أو لم يجدوا من يهتم بمعالجة الآثار بجدية تنعكس على البسطاء، فراحت أغانيهم تعبِّر عن آلامهم وعن حالة إغفال وجودهم وإهمال مطالبهم“.

وهكذا قرأ الباحث د. تيسير الألوسي[Mtooltip description=” تيسير عبدالجبار الآلوسي- موقع الحوار المتمدن 19-10-2004″ /] الأغنية بوصفها مرآة لـمشاعر العراقي السومري والبابلي والأكدي والكلداني والآشوري في ردِّه على آلام الحروب وأوصاب يومه العادي، وقرأت أحاسيسه الجياشة انفعالا تجاه ضحايا تلك الوقائع الفاجعة، وتجاه انعكاسها في حالات الرحيل والهجرة، ومن ثمَّ الغربة المتولِّدة عنهما، بل انعكاس الاغتراب في محيط أهمل تقديم العون للفرد البسيط “.

وفي سياق هذه القراءة الاجتماعيّةالتاريخيّة القائمة بحسب مفهوم: السلطة (قمع) حيال الإنسان الفرد (مظلوم)، يذهب الآلوسي إلى أنه ظلت المؤسسة الاجتماعية الكبرى، ممثلة في دولة المدينة والدول الامبراطورية التالية بعيدة عن الاهتمام به وبحاجاته، ومن الطبيعي أنْ نجد الاغتراب حتى عن المحيط المباشر للعراقي، أي في وطنه وفي حواضر أهله ولكن المستلبة منه سلطتها لصالح حفنة من المستغلين. ألم يكن العراقي يحيا حياة الغريب في وطنه طوال الأجيال الثلاثة الأخيرة؟

وفي مقال لافت العنوان والمحتوى لجهة القراءة الاجتماعية للأغنية العراقية هي دراسة عن المغني والأغنية: الحزن عراقي بامتياز“[Mtooltip description=” دراسة عن المغني والأغنية: الحزن عراقي بامتياز- الكاتب مجهول – موقع  عينكاوة – المنتدى الثقافي” /]، ثمة إحاطة بالتركيب النفسيالاجتماعي للغناء العراقي منذ ان بدا رافدينيّاً، وهو التركيب الذي صار حقيقة مسلّم بها: الحزن.

في المقال الذي شاء صاحبه (المجهول) أن يسميه دراسة، ثمة تعقب لمسار الحزن الرافديني وبواعثه الأسطورية والواقعيّة، فـالثقافة الشعبيّة السائدة، كثيراً ما كانت تؤصِّل لتلك الحالة في الأغنية العراقية من جهة تراجيديا أو جهة النهايات المأساوية لأبطالهم ومقاتلهم: فمن ديموزي أو تموز وطقوس انتظار عودته حيّاً، ومروراً بطقوس المقتل الحسيني وحتى شهداء زمننا من قادة وبسطاء من أبناء الفقر وضحاياه ذوي إرادات العدل والحقوق، كل هؤلاء شكلوا مخزوناً مهولاً من الأنين من متاعب الزمن“.

وفي الحالة العراقيّة، فإن المساحة التاريخية ليست منبسطة، وإنما هي متشابكة إلى حد كبير من التعقيد، وبالتالي فإن تراكمات الأحزان شكلت مزيجاً عضويّاً مع الطين النازل بتشكيلات فنية خلاقة في بلاد ما بين النهرين. ففي الأساطير، ثمة تموز (ديموزي)، وقد عانى مر العذاب على يد قوى شريرة متمثلة بشياطين العالم السفلي الذين أحاطوا به وانهالوا عليه ضرباً بشتى أنواع الأسلحة حتى أجهزوا عليه. هذه الصورة لم تكن منعزلة عن المجتمع، فقد استمرت طقوس الغناء والبكاء على تموز في موسم القحط والجفاف بحثاً عن أشلائه الممزقة والمبعثرة في الوديان وضفاف الأنهر والصحارى، وهي الصورة السنوية التي رافقتها ابتكارات في التعبير عن الحزن، منها تجمّع النسوة في مواجهة الشمس وهن ينثرن شعورهن في حركة إيقاعيّة منتظمة يساراً ويميناً (هذه الحركة موجودة حتى اليوم في أجواء الرقص الاحتفالي المصاحب للغناء أو العزاء) وهي أيضا ذات الصورة الثابتة في عاشوراء.

وعلى صعيد الملاحم، حين نتمثل مشهد جلجامش وهو يبطش بالفلاحين والنساء والتجار، أو وهو يخوض معركة مع أنكيدو بعد أن بعثت له الآلهة ندّاً يوقف سطوته الأحادية، ثم وهو يقاتل مع أنكيدو الوحش خمبابا حتى ينتهي باكياً مفجوعاً بموت صديقه، ليرحل وحيداً في أعماق البحار بحثاً عن نبتة الخلود.

ليست هذه مجرد رؤى عابرة” ( لصاحب المقالة المجهول)، بقدر ما هي تراكمات ثقافية تشكل مفاصل أساسية سوف تكون مرجعية لبشر يتوارثونها عبر عصور متعاقبة. كما أنها ليست حادثة واحدة وينتهي الأمر في طيات الزمن، فعلى صعيد آخر حين نقترب تاريخيّاً لنتمثل مأساة انتقال السلطة بشكل دموي في العصر العباسي وانعكاساتها على المجتمع وصولاً إلى الوقوع في صراع الأقطاب الخارجية بين السلاجقة والبويهيين وحتى الهيمنة العثمانية المطلقة. ولهذه الفترة ذات الأربعمائة سنة حكاية في غاية التعقيد أنتجت مجتمعا غريباً له خصوصية معقدة، من ملامحها نشوء مفهوم شعري غنائي يسمى باللهجة العراقية الحسجة“: والجيم هنا تلفظ على الطريقة الفارسية ومعناها التورية والتلغيز حيث لا يستطيع المطرب أو الشاعر الشعبي أن يعبر بوضوح عما يريد قوله خوفاً من الإفصاح الذي حتما سيقوده إلى الهلاك على يد السلطات العثمانيّة. وحين نصل إلى بدايات القرن العشرين، فإن التقلبات المعروفة للجميع كرست كل ذلك التاريخ المأسوي الدموي وزادت عليه ما لا يوصف وصولاً إلى الجمهورية التي أنتجت من المقابر الجماعية أكثر بعشرات المرات ما أنتجته من المدارس والمسارح والحدائق العامة.

ويلاحظ الكاتب (المجهول)، أن مرحلة النظام الإقطاعي، أنتجت مطربين هاربين من سطوته، فسادت أغانيهم وأسست ألواناً وأطواراً من الغناء بقيت حتى اليوم، ولم يكن أمام المطرب سوى أن ينوح ويبتكر قوالب شعرية وإيقاعية لنواحه، فجاءت الأبوذية والزهيري والدارمي وغيرها من القوالب الشعرية الأخرى، لذلك فإن المطرب لم يكن مطرباً بالمعنى المجرد وإنما هو حالة حزن، وشخصاً محروماً ومستلباً يعيش في داخله ومحيطه الخارجي“. وليزيد على هذا بالقول: “في الخمسينيّات وما تلاها ظهرت تجربة ناظم الغزالي، وعلى الرغم من شكله الأنيق ولغته الموسيقية الحديثة وأسفاره العربية بين بيروت والقاهرة والكويت ودمشق فإنه بقي وفيّاً لحزنه“.



خصّ الناقد العراقي علي عبد الأمير معازف بنشر الفصل الأول من كتاب قيد الطبع بعنوان في سوسيولوجيا الاّغنيةسبعة عقود من النغم العراقي المعاصر بوصفه ملمحاً اجتماعيّاً“.

المزيـــد علــى معـــازف