مهرجانات وليس إلكترو شعبي | مقابلة مع في البطيخ

إبان وبعد الثورات العربية، تهافت مصورو الأفلام والجهات المانحة والإعلام والمنصات الفنية الغربية على رصد الحراك الثقافي والموسيقي كما لو كان فقط وليد الثورة ولم يكن موجودًا من قبل. أخذت موسيقى المهرجانات حيزاً كبيراً من هذه التغطية كونها الأكثر انتشارًا بين الشباب، وحرصت الأغلبية بشكل واع أو غير واع على طرح روايات مشوهة لها. جاء الاحتفاء بثقافة فناني المهرجانات بشكل غرائبي، تم فيه التركيز على بيئتهم الفقيرة وإظهارهم كفئة مقهورة والمبالغة في ذلك، كما حاول الكثيرون التركيز على ربط المهرجانات بالثورة، وإقحام رابط بينها وبين الأحداث السياسية، وتصويرها كحركة مقاومة، بل وصل الأمر إلى اختراع مصطلح جديد لا دور لفناني المهرجانات في اصطلاحه، يعكس طابعًا استشراقيًا، وهو الـ إلكترو شعبي.

على خلفية هذه التحفظات التقيت بالدي جاي السويسري في البطيخ، أحد المعنيين بموسيقى المهرجانات وثقافتها ممن يقدمون صورة مغايرة عنها. أجريت المقابلة بالإنجليزية وترجمتها أميرة المصري.

كيف تعرّف في البطيخ كمشروع؟

نظرًا لأني طالما عملت بشكل أساسي في صناعة شرائط الكوكتيلات وكـ دي جاي، أجد أن لقب دي جاي يفرض نفسه.

أنت إذًا دي جاي مهرجانات بالأساس، وهذا الصنف الموسيقي مرتبط بسياق ثقافة فرعية محددة جدًا. كيف تعرفت على هذا الصنف؟

كان أول احتكاكي به عام ٢٠١٢ عندما جئت إلى القاهرة للمرة الأولى. جئت لأدرس العربية ودراسات الشرق الأوسط. كما كنت أعمل وقتها صحافيًا موسيقيًا، ولذلك كنت شديد الرغبة في الاطلاع على ما يحدث في مجال الموسيقى. وجدت من ناحية مشهدًا مثير جدًا للاهتمام يضم فنانين مثل زولي وحسين الشربيني ومجموعة كيك كلها. ومن ناحية أخرى كانت المهرجانات حاضرة بقوة في المشهد العام. ترك حس موسيقى المهرجانات أثرًا كبيرًا علي، لكني لم أبدأ مشروع في البطيخ سوى بعد عام ونصف، لأني أخذت بعض الوقت في الاستماع إليها والتقرب منها والتفكير فيها. في أثناء هذه الفترة كنت أتردد على القاهرة في وقت فراغي، وهكذا أصبحت جزءًا كبيرًا من حياتي الشخصية. كنت أسعى إلى الانسجام مع الصوت والجماليات حتى وأنا بعيد عن القاهرة، وأدركت أن الطريق الوحيدة الممكنة لذلك في أوروبا هي أن ألعب الموسيقى بنفسي.

كيف كانت أولى تجاربك كدي جاي مهرجانات في أوروبا؟

مررت بمراحل تأمل في مفهوم الدي جاي بشكل عام قبل أن أبدأ المشروع فعليًا. عندما تفكر في مصطلح  الدِسك جوكي تدرك أن فناني الدي جاي كانوا يحملون معهم اسطوانات ڨاينِل حقيقية. فبسبب صعوبة تجميع مجموعة من اسطوانات التسجيلات لم تكن الموسيقى متاحة لغير القادرين على ذلك. يمكننا القول إن فناني الدي جاي كانوا بمثابة حراس على بوابة تسمح بدخول هؤلاء الناس إلى عالم أصوات بعينها. أرى أن الأمر مشابه في حالة دي جاي المهرجانات في أوروبا، لأن هذا النوع غير متاح تقريبًا هناك، وهناك أيضًا الحاجز اللغوي كما في موقع مثل مطبعة، وهو باللغة العربية فقط. هذا هو الهدف من تقديم هذا النوع الموسيقي في أوروبا كـ دي جاي. عندما بدأت العمل كـ دي جاي كنت أقابل أيضًا الـ إم سيز، فقابلت مثلًا فيفتي عندما كان في سويسرا وأيضًا في مدينة السلام بضع مرات. في تلك الأثناء أصبحنا أصدقاءً مقربين. كما تعرفت على سادات وفيجو، وأيضًا المدفعجية وقد دعوتهم إلى سويسرا في مرة ليلعبوا كجزء من المهرجان.

بصفتك دي جاي من سويسرا، كيف ترى المهرجانات كصنف موسيقي؟ هل هي متاحة بشكل كافٍ ليشغلها فنانو الدي جاي في أي نادٍ خارج مصر؟

المهرجانات بالنسبة لي ثقافة فرعية أكثر من كونها صنفًا موسيقيًا، وما يجذبني إليها هو سعة طيف هذه الثقافة الفرعية، وأنا أريد أن أجد مكانًا لي داخل هذه الثقافة. لقد تحقق ذلك بشكل ما، قد نطلق عليه نجاح أو فشل، فبالرغم من أني كنت أقدم عروضي في سويسرا وبلاد أوروبية أخرى، كان معظم المتابعين على الإنترنت من مصر. لذلك فهو نجاح لأني وصلت إلى الناس الذين يقدرون هذه الموسيقى لمعرفتهم بهذه الثقافة الفرعية. في نفس الوقت لم يكن نجاحًا باهرًا لأن موقعي لم يتواصل مع هذه الموسيقى تواصلًا قويًا بعد. ومع ذلك ستجد اهتمامًا كبيرًا إن كنت تعلم أين تبحث عنه، وهذا ما مكنني من اللعب في أماكن مثل مهرجان فيوجن أو مهرجان نيغه نيغه (أوغندا)  في العام الماضي.

كثيرون من الأوروبيون يتعاملون مع المهرجانات كشيء غرائبي، على الأقل هذا هو الانطباع الذي يصلني من التغطية الإعلامية. بصفتك فنان من خارج القاهرة ويلعب هذه الموسيقى في أوروبا، إلى أي مدى تتفق مع هذا الرأي؟

اتفق معك مائة بالمائة على أن الغرائبية تلعب دورًا في الاحتفاء بالمهرجانات خارج المشهد أو الثقافة الفرعية أو أيما سميناها. مشكلة الغرائبية في أنها تحصر المهرجانات في شكل من أشكال المستحدثات الشرقية. كثيرًا ما نلاحظ هوسًا ما بالفقر والقمع في الصحافة الثقافية الأوروبية التي قد تصل إلى أن تفبرك بعضها مظاهر قمع على هذا الصنف الموسيقي في كتاباتها، وأبلغ مثال على ذلك ما قرأناه كثيرًا عن أن المهرجانات انعكاس لخلع مبارك. عليّ أن أتعامل مع أشياء كهذه، فحتى في النوادي يميل الفنانون والمروجون تلقائيًا إلى إسقاط رؤيتهم الاستشراقية على هذه الموسيقى. يظنون أنه لا بأس من الإشارة إلى ألف ليلة وليلة ولا يرون مشكلة في هذا النوع من الفيتيشية السياسية الاجتماعية أو المتمحورة حول العرق.

هل ترى أن روايات كتلك تضر هذه الموسيقى؟

هي بلا شك لا أساس لها في الواقع. لقد ساعدت الموسيقى في جذب الاهتمام لفترة قصيرة، لكن هذا الأسلوب لا يمكن الاعتماد عليه بشكل مستدام. المهرجانات في رأيي لديها قدرة على الفوز بمكانة في المشهد الموسيقي العالمي، كمكانة موسيقى الريجي دانس هول، لكن إذا نظرنا إليها نظرة جادة. ذلك مع أن حتى موسيقى الدانس هول محاطة بالكثير من الاحتفاء الغرائبي.

ما مدى شهرة المهرجانات في أوروبا؟

كما هي الحال في أي سوق فنية، القوة الدافعة لانتشار المهرجانات هي الضجة المحيطة بها.  نتجت هذه الضجة عن مشاركين رئيسيين في المشهد مثل الصحافة الثقافية وكيانات مثل ١٠٠ نسخة التي طرحت إصدارات وساعدت على ترويج الفنانين في أوروبا. جزء كبير من الحفاوة جاء طبعًا بفضل فيلم هند مدب إلكتروشعبي أو إصدار جينيرشين بيس، وهو بالمناسبة إصدار المهرجانات الوحيد المتاح على موقع سبوتيفاي. لكن ينبغي لنا أن نذكر أن انتشار المهرجانات قد تضاءل في الحقيقة خلال العام ونصف العام الأخيرين، لأنه لا يوجد سوى عدد صغير وأشخاص محددين يعملون على ذلك. يظن كثيرون في مصر أن فناني المهرجانات واسعي الانتشار في أوروبا، لكن هذا غير صحيح على الإطلاق. قد يكون هناك نحو ١٠٠ شخص في أوروبا يستمعون بانتظام إلى موسيقى المهرجانات. إن حضور ما يمكن أن نطلق عليه الموسيقى المصرية في أوروبا خلال العامين الماضيين كان يتلخص في إسلام شيبسي. وهو فنان مثير للاهتمام في رأيي، لكنه لا يقدم موسيقى المهرجانات، وإن كان قد تأثر بها بالتأكيد. لم يلعب السادات ولا فيفتي في أوروبا منذ فترة. الانتشار الأولي لم يستمر مع الأسف.

كيف ترى مستقبل المهرجانات في أوروبا وما إمكانياته؟

أرى أن المهرجانات بإمكانها تأسيس نفسها كثقافة فرعية، لكن هذا لن يحدث إلا إذا مُثّلت على نحو لائق. في ما عدا ذلك ستبقى منغلقة على جماعة صغيرة قد يحتويها بعض الفنانين التجريببين من حين لآخر.

عودة إلى دورك كـ دي جاي، هل تتمحور كل أنشطة مشروع في البطيخ حول المهرجانات؟

الشخصية ذات وجه البطيخ التي خلقتها، في البطيخ، تقتصر على المهرجانات وحسب. لم يكن لدي مشروع دي جاي قبل في البطيخ. لقد بدأت هذا العمل تحديدًا لكي ألعب موسيقى المهرجانات. وإن كنت أشغل أحيانًا أغنية لمحمد منير أو أبيوسف، إلا أني متردد بشأن تشغيل موسيقي فنانين مصريين آخرين، لأن ذلك قد يوحي بأنها مرتبطة بالمهرجانات بشكل ما، وهذا صحيح من ناحية البلد واللغة، لكن ليس من ناحية المفهوم. أتردد لأن هناك مشكلة كبيرة يواجهها كثير من الفنانين المصريين في أوروبا: مع هوجة المهرجانات أصبح هناك ربط تلقائي بين أي فنان من مصر وما يطلق عليه موسيقى إلكترو شعبي، وعندما أتواصل مع النوادي والمروجين تجدهم يحاولون الربط حتى ما بين مشروع كيك والمهرجانات.

كيف تتعامل إذًا مع المهرجانات بحيث لا تقع في فخ الغرائبية؟ نرى بالفعل فناني دي جاي يلعبون المهرجانات في حفلات تحت عنوان يورابيا، يرتدي فيها الناس مناشف على رأسهم ليحاكوا العرب ويوظفون الرقص البلدي في غير سياقه.

أسلوبي بسيط للغاية: أنا ألعب الموسيقى وحسب. ألعب الأغاني كما هي أو أمزجها كما يحلو لي، كما يحق لأي شخص أن يفعل. لكن عندما يحتل المنظور المنحرف للعنصر العرقي مساحة أكبر مما ينبغي في تقديم الفنان للنوع الموسيقي، يصبح الأمر مبتذلًا. إن الإشارة إلى الفروق الظاهرة بشكل عام غريب بعض الشيء. حتى إذا قلت” انظروا، إنهم يبدون مثلنا نحن الأوروبيين بالضبط، ويحبون الاحتفال أيضًا،” فأنت تمارس نوع عبثي من صنع “الآخر”. ما أفعله شخصيًا لا يتعدى إعادة إنتاج حس الموسيقى كما عايشتها في المشهد نفسه ومن خلال ما تعلمته من أصدقائي مثل فيفتي والمدفعجية.

هذا النوع الموسيقى اسمه في مصر مهرجانات وحسب، لكن الغريب أننا نجد له أسماءً أخرى في أوروبا مثل إلكترو شعبي. وأنت نفسك أطلقت عليه شعبي تون في إحدى مقالاتك. لماذا لا نلتزم ببساطة بالاسم الأصلي؟

لم أكن لأطلق عليه شعبي تون أبدًا لو لم يكن مصطلح إلكترو شعبي موجودًا بالفعل. سبب اختراعي مصطلع شعبي تون هو الانقلاب على مصطلح إلكترو شعبي من خلال زيادة المصطلحات. أفهم أن هذه الفكرة ليست واضحة للجميع، لكن المقصود من شعبي تون في الحقيقة السخرية من كل هذه الروايات المزيفة والتي تهدف فقط إلى تقديم المهرجانات بشكل مستساغ أكثر. ولقد حاولت مستخدمًا هذا الاستراتيجية في مواجهة هذه الموجة الرائجة أن أطبق أفكار منظرين ثقافيين مثل ميشيل دو سيرتو أو توماس ديولو في كتابه الاختراق الثقافي، والغرض النهائي من ذلك أن يعود مصطلح مهرجانات ليميز نفسه. وهكذا فإن مشروع في البطيخ مشروع دي جاي من ناحية، لكنه أيضًا مشروع مفاهيمي للغاية من ناحية أخرى، لأن عليه أن يخوض وحده عبر المفاهيم الخاطئة عن هذه الموسيقى.

حدثنا قليلًا عن المزيج الذي تقدمه لنا؟

يبدأ المزيج بأغنية لـ أبو سهر، وهو منتج موسيقي ومغني من الصعيد، على الأرجح واحد من أكثر الفنانين المصريين شغفًا. وهو أيضًا فنان لا يحظى بالتقدير الذي يستحقه على الإطلاق. وستجد المجموعة المعتادة مثل المدفعجية وفيلو وسادات وفيجو، لكنك ستجد أيضًا مزيجًا صنعه دي جاي پليد من أستراليا ومقطوعة لـ فراس بيتس من ألمانيا في النهاية. كما ستجد العديد من الفنانين الآخرين أيضًا، وهو أمر مفرح أن نرى المشهد يتطور موسيقيًا.