في مدينة أم كلثوم

تبدو لي أم كلثوم كمدينة بحارات كثيرة، وطبقات اجتماعيّة تتناغم حيناً وتتضارب حيناً آخر. بل مدينة وريفها، وما بينهما من ذهاب وإياب. لذلك، أرى علاقتي مع أم كلثوم، ومع ذلك المشهد الصوتي الواسع، علاقةً مع مدينة سكنتُها طويلاً وبكثافة عالية ثم خرجت منها. فأعود إليها بين الوقت والآخر، حاملاً ذاكرةً عن مساحات ألفتُها وأخرى منفّرة، عن لحظات بعينها رفعتني وأخرى خذلتني.

بلا أي نيّة نقديّة، أعرض هنا لأغاني أم كلثوم الخمس المفضلة لديّ، محاولاً أن أعبّر باقتضاب عن علاقتي مع كلّ واحدة في كليّتها وبعض جزئياتها. وأعترف مسبقاً بأنني منحاز في ذوقي لألحان زكريا أحمد من بين كل أعمال الست.

دور إيمتى الهوى

هو المفضل لديّ من بين كل مخزون الأدوار المصري. تنطق كلمات حسن صبحي البسيطة بلهجة الشكوى العاطفيّة أمام عدلٍ مفترض من الحبيب المحيّر وملاعباته. أما زكريا أحمد، فبدأ الدور بمقدمة موسيقيّة غير اعتيادية، تطلق بعدها أم كلثوم آهات إيقاعيّة متصاعدة لتسترسل مباشرةً إلى الجملة النصيّة الأولى وسؤال: “إيمتى الهوى ييجي سوا”.

الأغنية على مقام “الهٌزام”، وهو مقامً مؤلّف من جنسي “السّيكا” و”الحجاز” اللذين يتلاقيان فيعطيان المقام حركيّةً إحساسيّة متناسقة مع موضوع النصّ وشكواه المتصاعدة. بحيث يعبّر السيكا، برقّته واستقراره الهشّ، عن ضعف المجني عليه، متحرّكاً نحو أبعاد الحجاز الطويلة- محمّلاً إيّاها هنا تصعيداً اتهاميّاً في التوجه إلى الجاني، وتنويعاً في الطيف الإحساسي: من جواب اللوم بالشفقة على الذات، إلى جوابه باللوم المضاد ورغبة الانقطاع.

ثم تصل القطعة إلى إحدى ذرواتها مع سؤال “ليه؟” الممدودة، حين تتجلّى فرادة الأداء التصويري لأم كلثوم التي تكثّف إحساس الأغنية كلها في هذه الكلمة الواحدة، قائلة معظمها على علامة موسيقيّة واحدة مشحونة بالتعبير.

في مدينة أم كلثوم، “إيمتى الهوى” حانةُ شعبية أغلب روّادها من أبناء الأرياف الوافدين.

فات الميعاد

كانت هذه الأغنية مدخلي إلى “مدينة” أم كلثوم. أذكر جيداً أنني سمعتها على “الترانزيستور” في قريتنا “سير الضنيّة” خلال ليلة بلا كهرباء، وعلى أمواج الـAM. وكانت المرة الأولى التي أتذوق فيها غناءً مقاميّاً غيّر ديني. خرجت من ساعة السّماع مردداً جملة “وتفيد بإيه يا ندم”، عازماً على تكريس الاكتشاف والنشوة.

اليوم، لا أميل إلى ألحان بليغ حمدي بشكل عام، مع إدراكي لمقدار التجديد الذي أدخله، وخاصّة في مجال التوزيع. لكنّني أرى في “فات الميعاد” أفضل ما أنتجه حمدي باختياره لمقام السّيكا وألوانه الشعبيّة المصريّة. كما أشعر بأنّ عزف سمير سرور للساكسفون شكّل محطة أساسية في تعريب هذه الآلة وأدائها للحساسيّات المقاميّة المصريّة بشكل خاص.

نجح حمدي في التقاط شيء من المزاج الشعبي السّائد لحظة إطلاق الأغنية بعد نكسة الـ67. إلّا أن كلمات مرسي جميل عزيز عن فوات الميعاد وتحوّل النار إلى رماد وانعدام فائدة الندم والعتاب هي أيضاً شابهت الواقع السياسي والاقتصادي المحبط في مصر حينها.

في مدينة أم كلثوم، فات الميعاد مقهى تتوزّع طاولاته بين النقاشات السياسيّة وعتابات العشاق وصمت المنتظرين مرور اليوم.

حلم

اكتشفت هذه الأغنية من خلال البحث عن أعمال المقرئ محمد عمران الذي يمتلك قدرات صوتيّة وتصويريّة مذهلة في تلاواته القرآنيّة وابتهالاته الدينيّة. فوجدت على منتديات الانترنت مقاطع رفعت لاحقاً لجلسة منزليّة تجمع الشيخ عمران بالشيخ ممدوح عبد الجليل وعازف عود هو على الأرجح أحمد مصطفى، وهم يرتجلون على أساس أغنية “حلم”.

تصف الأغنية، وهي من كلمات بيرم التونسي، مناماً يرى فيه العاشق اجتماعه بالحبيب. وتركّز على حواريّة متخيّلة تفضي إلى الاطمئنان التام. وهنا نجح زكريا أحمد في تطويع مقام “الراست سوزناك” (كلمة سوزناك تفيد الألم بالفارسيّة) لخدمة مزاج القصيدة. فالمقام هذا أيضاً، كما “الهزام” في “إيمتى الهوى”، يبدو لي حمّالاً للدراميّة والتوتّر الذي يخلقه زكريا بين جنسي “الراست” والحجاز في أجواء ضبابيّة تشبه الذاكرة البصريّة عن المنامات، ويبقى المستمع متراوحاً بين لذة أحداث الحلم نفسه ولوعة الإدراك بأنه مجرد حلم.

في مدينة أم كلثوم، “حلم” خلوة قارب صغير فوق تيّار بحري متوسط القوة.

الأولى في الغرام

الثنائي بيرم التونسي-زكريا أحمد مجدّداً. تتجلّى هنا، برأيي، الخصوصيّة الإيقاعيّة لتلحين زكريا أحمد، حيث يبدو الوزن مبطّناً يحمل في سكتاته الكثير. كما تظهر الأغنية بأكملها وكأنها تفريدة متواصلة لأم كلثوم، وبالأخص في المساحات الواسعة التي يتركها التوزيع لنمنمات الستّ على مقام الحجاز وعربها الصوتية التي قلّما أظهرتها أغانٍ أخرى بهذه القوة والخصوصيّة.

في هذه الأغنية شيء من الطرب الخالص، والذي يحيل إلى حركة لولبيّة تدور وتتصاعد في آن، مع الذهاب بعيداً في التكرار المتنوع نغميّاً للكلمات التي تتفتّح أكثر مع كل تفريدة نغميّة. تستدعي “الأولى في الغرام” انغماساً تاماً ومحاكاة للشوق الذي تعبّر عنه القصيدة إزاء محبوب مسافر.

في مدينة أم كلثوم، “الأولى في الغرام” هي غرفتي ومساحة وحدتي الأكثر حميميّة.

القلب يعشق كل جميل

لولا مقام البياتي الذي أفضّله من بين المقامات، والايقاع الجارف في المقدمة الموسيقيّة، والنصّ الفريد من نوعه، لحلّت “الأولى في الغرام” في قائمتي محل هذه الأغنية التي كتبها بيرم التونسي ولحّنها رياض السنباطي بعد وفاة الشاعر بعقد من الزمن. وكان زكريا أحمد قد لحّن القصيدة قبل ذلك ولم تغنّها أم كلثوم.

ما يميّز الأغنية قصيدةً وموسيقى أنّها تجمع بين السياقين الديني والعاطفي: فيستخدم بيرم وصف تجربته في الحجّ ليعبّر عن حالة تنتمي إلى الطيف الصوفي من العلاقة الدينيّة مع الربّ الذي “يتجلّى” لبيرم في الحرم ويقول له “أنا” في قصيدته، والذي يتخذ صفات الرحمة والغفران والتقبّل أكثر من صفات القسوة والعقاب.

أما في نهاية القصيدة التي تشير ضمنيّاً إلى رؤية للجنة، فيدعو بيرم لأحبته بنول “ما نال” في جملة تتزاوج مع بيت سابق في القصيدة يقول فيه الله للشاعر “ما لك حبيب غيري قبلي ولا بعدي”.

ونجح السنباطي في أن يعكس خصوصيّة المعادلة النصيّة للقصيدة بلحن يصل فيه مقام البياتي بين الإجلال والرهبة من جهة وبهجة المحبة من جهة أخرى.

في مدينة أم كلثوم، “القلب يعشق كل جميل” حرمٌ غير الحرم، كعبة يتّصل حولها الإيمان الفردي بأنس الجماعة ومحبّة الناس.