قوائم

لحظاتنا المفضلة من مهرجان لُ جِس هُو

پيتر هولسلن ۱۵/۱۲/۲۰۱۷

لم تبدُ لي بلدة أوترِخت الصغيرة في هولندا كمكانٍ قد أزوره على الإطلاق في حياتي، لكنني وجدت نفسي فيها بين التاسع والثاني عشر من تشرين الثاني / نوفمبر، حيث سافرت إلى هناك جوًا، مغادرًا منزلي في القاهرة، لأحضر مهرجانًا موسيقيًا استضافته البلدة لأربعة أيام، اسمه لُ جِس هُو؟

منذ تأسيسه عام ٢٠٠٧، أصبح لُ جِس هُو؟ خلال العقد الماضي موطنًا لطيفٍ واسع التنوع من الجاز التجريبي، الروك المستقل، وموسيقات من أماكن مختلفة من العالم. شهدت نسخة العام من المهرجان أداءاتٍ في أماكن مبعثرة في أرجاء المدينة، إلَّا أن معظم العروض قد تم استضافتها في الطوابق التسعة لمبنى تريڨولي-ڨرِدِنبرج فائق العصرية والواقع في مركز المدينة. متسكعًا من وإلى العروض الموسيقية المقامة في صالات التريڨولي العديدة، شعرت كما لو كنت تائهًا في برج بابل موسيقي من نوعٍ ما، بأساليب صوتية مختلفة، ولغات وسياقات مناطقية متراكمة فوق بعضها البعض لخلق تجربة مثيرة للذهول لكن مغنية. إليكم أبرز ما شاهدته في المهرجان:

أفضل فرقة ميتال من سايبيريا: يات-خا

غناء الحنجرة التوڨاني [Mtooltip description=” توڨان هي منطقة في جنوب سايبيريا في روسيا” /] هو تكنيك تصويت يتضمن قيام المغني بإنتاج تجاويد عميقة أزيزية، تمتلك أنغامًا عليا متجانسة معها. على مدى الأعوام، أصبح من المبتذل إلى مدىً ما استخدام هذا الأسلوب الصوتي العميق والرنَّان في الموسيقى الغربية، لكن صوت الثلاثي يات-خا جاء منعشًا عندما أدوا نسختهم من الميتال التوڨاني الثقيل في ليلة الخميس على منصِّة پاندورا في مبنى التريڨولي. كان الدرامر رجل متقدم بالعمر، صايع المظهر وذو شعر رمادي، لعب بطريقة تذكِّر بجون بونام، فيما كان عضو آخر في الفرقة يعزف جملًا موسيقية فلوكلورية على الكمان المنغولي التقليدي. ضرب عضو الفرقة الرئيسي آلبرت كوڨِزين بكورداته على جيتار جيبسون لِس بول الخاص به، عاثرًا على طريقه وسط أغانِ شعبية مزاجية ودخَّانية مؤداة بأسلوب الفولك روك، بينما استدعى أصواتٍ أزيزية وحشية من حنجرته كما لو كان ربَّ ميتالٍ جبلي.

أكثر أداء طرب معاصر تعبيري: ندى الشاذلي

أدت ندى الشاذلي عرضًا تقليلي الكادر على منصة كلاود ناين في مبنى التريڨولي مساء الأحد، فاتلةً قبضات التحكم بالصوت ومعتمدةً على حاسبها المحمول بينما كانت تؤدي أغاني من ألبومها الجديد، أهوار. لكن حتى مع هذه الاستعدادات التقليلية، قدمت ندى أداءً مؤثرًا من إحدى أبرز أغاني الألبوم، أنا عشقت، والتي هي اقتباس معاصر لأغنية الحب المريرة التي ألفها سيد درويش مطلع القرن العشرين. بعدما استحضرت مزاجًا غرائبيًا وشائكًا من الأصوات الإلكترونية والعينات، قبضت على المايكروفون بكلتا يديها وغنت القصيدة برسوخ وبامتلاك قوي لتكنيك الأداء الكلاسيكي. توقفت الموسيقى وأنهت الشاذلي الأغنية بغناء غير مرفوق بآلات لكلماتها الأخيرة، بينما ساد الصمت على جميع من في الصالة حين بلغت بصوتها ذروة عاطفية خاطفة للأنفاس.

أكثر أداء محتد: ماونت إيري

كانت الجاكوبايكر إحدى أكثر مساحات الأداء إبهارًا في المهرجان، كنيسة قوطية من القرن الثالث عشر بصالات عالية الصدى وحجرات خشبية، تقع في مركز أوترِخت. في يوم الجمعة، أحسن كاتب الأغاني الأمريكي فيل إلڨِروم – والذي يصدر أعماله تحت اسم ماونت إيري –استخدام هذه البيئة ذات القداسة ليؤدي أداءً محطمًا عاطفيًا لمجموعة أغانٍ كتبها لزوجته المتوفاة حديثًا، جِنِڨيڨ. عندما كان الناس يملؤون طلبات حضور هذا العرض المقتصر على أصحاب الحجوزات المسبقة، كنت أسمع أصوات الفرقعة الناتجة عن فتح علب بيرة جوپيتر وأصوات محادثاتهم المسترخية. لكن كل شيءٍ صمت عندما تم تخفيض الإنارة وظهر إلڨِروم على المنصة. بدا متماسكًا بينما عزف ونقر برفق أوتار جيتاره الهوائي، ثم تجوَّل عبر أوصاف ذاتية وعالية التفصيل لزوجته، ابنته، وحياته. بدا وكأنه يقرأ مذكراته الشخصية علنًا، ويشع بأكثر أفكاره ومشاعره وشكوكه شخصيةً للجمهور.

أفضل فنان مفاجأة: أمادو ومريم

خلال الأيام الأربعة للمهرجان، ضم الجدول بعض الأداءات التي استبدلت أسماء الفنانين فيها بإشارة استفهام. هذه الأداءات المفاجئة ضمت أسماءً ثقيلة، مثل الرابر النيويوركية پرينسِس نوكيا، وأساطير موسيقى ما بعد الحداثية ذ رِزيدِنتس. لكن المفاجأة الحقيقية والسارة قد أتت من الثنائي المالي أمادو ومريم. ظاهرين على مسرح جروتِه زول في نهاية ليلة خميس في مبنى التريڨولي، بدأ الموسيقيان الكفيفان – مدعومين بفرقة فانك – أداءهما بإيقاع مسترخٍ للغاية مع غناء بأسلوب الأخذ والرد، قبل أن تتصاعد حدة الأداء وترمي بتعويذة على معظم الحضور الآخذين بالاستسلام لنوبات من الرقص والاستمتاع. في مرحلةٍ ما من الأداء، قضى أمادو باجايوكو حوالي أغنية كاملة لا يلعب فيها سوى أداء جيتار منفرد – لحن دوري نقي يشق طريقة عبر الإيقاع باندفاعات لا يمكن إيقافها. درجة إضافية لزي أمادو، بدلة إفريقية صفراء لامعة وأحذية تشاك تايلرز.

أكثر موسيقي مسن جنونًا: سَن كيل مون

أثار كاتب الأغاني والعضو الرئيسي المعروف بخشونته في فرقة سن كيل مون، مارك كوزلِك، الكثير من الأقاويل في الولايات المتحدة بين عامي ٢٠١٤ – ٢٠١٥ بعد أن قال تعليقاتٍ متحيزة جنسيًا وغير لائقة حول صحفية في إحدى حفلات الفرقة، قبل أن يبدأ خلافٌ غريبٌ وأحادي الجانب مع فرقة ذ وور أون دراجز. تم التسامح مع هذه السلوكيات باعتبار مارك قد أصدر ألبومًا ممتازًا عام ٢٠١٤، بِنجي، تأمل حميمي في الموت يتجلى في سرد قائم على تداعي الأفكار والمشاعر بأسلوب ميَّال للبلوز. كانت شخصية كوزلِك المشاكسة حاضرة بشكل خجول في صالة جروتِه زول مساء الخميس. في بضع لحظات من الحفل، كان يبدو أنه يرتجل كلمات أغانيه أولًا بأول، بينما عزفت فرقته بغير هدىً وهو يؤدي أغانيَ مترنحة تحكي عن حيوان پوسوم ميِّت، أو صديق ميِّت يدعى بُتش. في لحظة أخرى من الحفل، كان يتلو قصة طويلة عديمة المغزى حول لقائه بفتاة في متجر كتب، دون أن يبتعد عن إشارات مرجعية إلى أغانٍ أو مشاكل أخرى خاصة به. رغم هذا، انتهى به الحفل بحالة عدم ثقة. “لم أستطع الجزم ما إن كنتم قد استمتعتم بالحفل حقًا أو أصاب الضجر آخر خلية في عقولكم” قال بينما اندفع الجمهور بالتصفيق.

أكثر أداء جيتارات متفوق: ١٢-آور درون

مساء الأحد، استقليت الباص في رحلة 15 دقيقة خارج مركز أوترِخت، ثم تابعت الطريق سيرًا على الأقدام تحت البرد والمطر قاطعًا شارعًا طويلًا وسلسلة من المنشآت الصناعية وصولًا إلى مستودع عتيد يعرف بـ پاستور فابريك، مساحة أداء تستضيف فعالية من يوم كامل تحت عنوان: ١٢ ساعة من الدرون، تركز على سلسلة أداءات لموسيقيي الدرون وموسيقى النويز التجريبية. تذكرني موسيقى الدرون بالفنون البصرية المعاصرة، حيث يتعلق الأمر بالنظر إلى ما وراء اللوحة وتقدير النبرة والنسيج اللذين يشكلان اللوحة نفسها، أعمل روثكو أو پولاك كمقابل لأعمال عصر النهضة. في المستودع، استلقيت على وسادة بطريقة مريحة، مستعدًا لتلقي أمواج الجيتار المشوه وأمطار الصنوج النحاسية، الأصوات الإلكترونية المتذبذبة والتأثيرات الأنبوبية، التوترات الصوتية الناشزة والنغمات العليا المعلَّمة بخفقات راعدة من آلات الإيقاع. لبضعة لحظات، بلغ بي الأمر أنني نسيت أنني في نفس المكان مع مائة شخص آخر. كنَّا أنا والدرون فقط.

أفضل مغني(ة): فريدة محمد علي

أحد الأسباب التي دفعتني للسفر على طول الطريق وصولًا إلى أوترِخت حيث مهرجان لُ جِس هُو؟ كان مشاهدة فريدة محمد علي، إحدى الأساطير النادرة في مجال المقام العراقي. مصحوبةً مع فرقة المقام العراقي على منصة الجاكوبايكرك، ملأت فريدة الصالة بصوتها العميق الواضح، وألحانها ذات البلاغة. في الذرى العاطفية لمقام الدشت، ارتعش صوتها باحتداد. لسوء الحظ، ضاعت بعض التفاصيل الدقيقة بسبب البيئة الصوتية للكنيسة، حيث طمست الأصداء الكهفية الارتعاشات المعدنية للسنطور.

أفضل وصلة دي جاي: جروزلم إين ماي هارت آند فرندز

أربعة أيام هو وقت طويل لمهرجان، وبحلول مساء السبت كانت طاقتي آخذةً بالاضمحلال. لكنني شحذت قواي في قبوٍ فاخر يدعى الـ ڨِنيو، حيث كان رضوان غازي مؤمنِة – الذي هو نصف الثنائي جروزلم إين ماي هارت، وأحد المنسقين العدة للمهرجان، قام باختيار فريدة وندى الشاذلي من بين آخرين للأداء – كان يتوسط حشدًا مهتمًا في البار، بينما لعب شركاؤه وصلة دي جاي معتمدة بالكامل على أقراص الڨاينِل لتسجيلات راي جزائري. اصطهجت وصلات الترومبِت التي عزفها مسعود بلمو برفقة صوت شب مامي في النادي، دافعةً الحشد للالتمام على أرضية الرقص بابتهاج.

https://www.youtube.com/watch?v=ziuFhi93anA

أكثر لحظة تثقيفية: پرينسِس نوكيا

ختمت الرابر النيويوركية الصاعدة پرينسِس نوكيا المهرجان بأداء مفاجئ ليلة الأحد، اعتلت المنصة مترديةً أكبر معطف فرو أبيض وأسود رأيته في حياتي، مؤديَّة جملًا موسيقية مضادة للرصاص في أغانٍ كـ بارت سيمبسون وآي بي سي أُف نيويورك. على كلٍ، بدلًا من أن تختار تهييج الحماس، فضَّلت الوقوف بثبات خلال غنائها، دافعةً الجمهور للتركيز على الشاعرية في كلماتها. بعدما انتهت من أغنية ماين، أوقفت الموسيقى وأعادت أداء المقطع الأول، رتَّلت كلماته ببطء وشرحت للجمهور أن كلمات الأغنية تعكس تنوع النساء ذوات ألوان البشرة المختلفة في مدينتها، والثقافة الغنية لصالونات الحلاقة وما يرتبط بها – خطاب قد يكون واعظًا بعض الشيء بالطبع، لكنه يغدو منطقيًا عندما تلاحظ أن معظم الحشد هم أوروبيون بيض البشرة.

https://www.youtube.com/watch?v=dnj_oYH-5QU

أكثر أداء ساكسوفون ملائكي: فارو ساندرز

لم أشهد سوى عشر دقائق من أداء فارو ساندرز الرئيسي ليلة السبت – أخبرني أحدهم معلومة خاطئة بأن پرينسِس نوكيا كانت ستؤدي مساء السبت عوضًا عن الأحد فضيَّعت معظم العرض. لكن هذه النظرة المختلسة كانت كافية للتشبع بعبقرية الجاز الروحاني الخاص بساندرز. في عمر السابعة والسبعين، لم يعد ساندرز يمتلك عنفوانه كما قبل، لكن عازف التِنور ساكسوفون لديه حيله، يولِّف أصواتًا خفيفة طافية مع رشَّة صغيرة من خشونة قصبية تتخللها هنا وهناك. في هذا العالم المليء بالنزاعات، صوته هو صوت يفلح بإرساء الهدوء في قلبي مباشرةً.

أفضل أداء على الإطلاق: سَن را آركِسترا

مات الموسيقي ما بعد الحداثي سَن را سنة ١٩٩٣، لكن الـ سَن را آركِسترا الخاصة به لا تزال ماضيةً بقوة تحت إشراف مايسترو الجاز ذي الثلاثة والتسعين عامًا مارشال آلِن. في ليلة الأحد، كان هناك على الأقل تسع فنانين مرافقين يشاطرونه المنصة – موسيقيين سود البشرة ارتدوا ملابس السحرة والحٌكَّام القادمين من كوكبٍ إفريقيٍ متخيل في المستقبل البعيد، يستدعون سبايس جاز غرائبي ومتأرجح. بدت كورداتهم في بعض اللحظات وكأنها تخطئ مفاتيحها، ناشزة بشكل غريب لكن متعمد، بينما شقلبوا جاز الفرق الكبيرة التقليدي والأساليب المعهودة للجاز بساكسوفون ذو أزيز، أداءات حرة على الناي، كوردات بيانو متداعية، والسٍّنث-ناي الهلوسي الخاص بآلِن. كان عازف البايس يضع تاجًا أزرقًا ضخمًا، ينقر آلته بعنفوان؛ أما على الطرف الآخر من المنصة، قضى موسيقي آخر الوصلة كلها بالدق على طبل أرضي فضي اللون. أخذ عازف البيانو استراحة من دغدغة بيانو البايبي جراند في لحظةٍ ما، لينتقل لتوليد أسطر بايس عميقة ومشوشة عبر سِنث المووج. لاحقًا، بدأ عازف الساكسوفون الذي كان يرتدي قميصًا أرجوانيًا ومعطفًا لامعًا بدون أكمام، بدأ بالاندفاع بالأرجاء والتشقلب وكأنه يشارك في رقصة طقوسية. “ذبذبات هذا المكان مختلفة بعض الشيء!” قالت المغنية في بداية الوصلة، امرأة ترتدي بدلة ذهبية ومعطفًا أحمر بلا أكمام. مستمرةً عبر العقود، ممتدةً على مدى المجرة، قدَّست هذه المجموعة أهمية الأفكار بقدر ما راعت القوة الناتجة عن التقديم الاستعراضي والفيَّاض بالروح.

https://www.youtube.com/watch?v=1qjiQwD7VCI

المزيـــد علــى معـــازف