بوصلة شمالُها الصخب | عن هجرة مانو تشاو المعاكسة

قبعة شمسية تتوسطها نجمة حمراء، جيتار على الكتف وآلة تسجيل صوتية. تلك هي أغراض مانو تشاو وهو يجوب شوارع العالم مترحلًا بين موسيقات البلدان البعيدة وأصوات مدنها. يمكن أن تجده برفقة أناسٍ التقاهم صدفةً تحت أحد الجدران في شوارع ريو دي جانيرو أو باريس وهو بصدد أداء أغنية ما، وسيعترضك كذلك في حانات هاڨانا وبرلين، يلعب البايبي فوت ويصيح كمراهق عشريني إثر خسارةٍ مرّة يتجرع بعدها البيرة، غير عابئ باقتراب موعد حفلته.

دون كيشوت موسيقيًا

منذ أواسط الثمانينات، بدأ الروك البديل بالتوطّن داخل المشهد الموسيقي بفرنسا. تميزت تلك الحقبة بالإيقاعات العنيفة المتسارعة مع صعود فرق متنوعة تزاحمت فيما بينها على إنتاج أصوات أشد صخبًا. من قلب تلك الرحى، ظهرت فرقة مانو نيغرا سنة ١٩٨٧ على يد مؤسسها مانو تشاو، والذي استلهم التسمية من مجموعة أناركية إسبانية في الأندلس نشطت في ١٨٨٠ إثر الأزمة الإقتصادية التي ضربت المنطقة وقامت بالسطو على المخابز ومعاصر الزيتون بمعية الفلاحين الفقراء، نفس التسمية أيضًا اعتمدتها مجموعة من المغيرين في أمريكا الجنوبية.

حمل الألبوم الأول للفرقة اسم باتشناكا، وهو الاسم الذي أطلقه مانو تشاو على انفجارات الپانك للدلالة على اللوثة الصوتية والإيقاعية الصاخبة، أو الفوضى، وأصبح فيما بعد مستخدمًا للدلالة على فلسفة مانو نيغرا القائمة على مزج الروك البديل بالموسيقى اللاتينية كالسالسا والفلامنكو والرومبا، متأثرين بفرقة ذ كلاش وألبومهم سادينيستا الذي افتتح الثمانينيات بمزجٍ واسع صهر أصنافًا عدّة كالبلوز والجاز والريجي والراپ والسول.

أفرطت مانو نيغرا بالباتشانكا حتَّى أصبحت في كثيرٍ من الأحيان تقارب السذاجة والحماسة الزائدة في أدائها الركحي. من جهةٍ أخرى، لم يكتفِ مانو وفرقته بمزج الروك وموسيقات أمريكا اللاتينية، فأظهر تأثره بثقافة الريجي عبر استحضاره لمعجم الراستا، كاستعمال كلمة بابيلون (التي تشير رمزيًّا إلى السيستِم في ثقافة الراستا) في كلمات الأغاني وتسميات الألبومات (مثل Casa Babylon). امتد التأثر موسيقيًا فيما بعد عبر استعمال مانو لملامح الريجي في العديد من أغانيه مثل o minhagalera التي ظهرت في ألبوم كلاندِستينو، والتي تقترب كثيرًا من أغنية ستاير إِت أَب لبوب مارلي.

بعد سبع سنوات من سيطرة اليد السوداء (الترجمة الحرفية لمانو نيغرا) على تلك الحقبة، انحلت الفرقة. لكن مانو تشاو قد حافظ نسبيًا على ملامح الفرقة، فاعتمد على بعض أعضاء المجموعة القديمة معه في فرقة مساندة جديدة أسماها راديو بِمبا Radio Bemba. ارتبطت التسمية بالمصطلح الذي اعتمده الثوار الكوبيون للإشارة إلى أساليب التواصل البدائية من الفم إلى الأذن تفاديًا للتشويش ومحاولات التنصّت. تُظهر أغنية كينغ أُف ذَ بامبو التي أدّاها مانو مع مانو نيغرا، وراديو بامبا من بعد، اختلاف توليفة الأصوات الجديدة التي اعتمد عليها. مع مانو نيغرا كانت الباتشانكا حاضرة عبر مزيج من الپانك والروك البديل إلى جانب أداء يقترب إلى الراب.

لكن في ألبوم كلاندِستينو، وهو أول ألبوم فردي لمانو، انسحب ذلك الصخب الذي ميّز الأغنية مع مانو نيغرا لصالح إيقاعات الروك ستيدي والريجي الهادئة التي تبرز انتقال تشاو إلى مرحلة جديدة. خلافًا لـ كِنغ أف ذ بابمو، حافظت أغانٍ أخرى عند مانو تشاو على نفس معالم الهوية الصوتية التي اشتهر بها مع مانو نيغرا، كما في أغنية سيدي حبيبي التي تعود إلى الفنانة المغربية زهرة الفاسية رغم اقتران الانتشار الأكبر لها مع سليم الهلالي. مع مانو نيغرا، كانت سيدي حبيبي تأصيلاً للباتشانكا عبر الانفجارات الإيقاعية وصخب البانك. يُحسب للفرقة أنّها استعادت الأغنية في شكلٍ مختلفٍ فيه الكثير من الجرأة، بعيدًا عن محاولات الاستشراق المَرَضية التي تستعمل أصوات مُشرّقة مع بنية غربية.

في حفلٍ أقيم سنة ٢٠٠٨ في فرنسا مع تشكيلة راديو بامبا، حافظت الأغنية على بنيتها الأصلية، فيما ظهر في الخلفية صوت خطيب يتكلم بالإسبانية بالإضافة إلى أصوات سيارات الإسعاف وهتافات أخرى. يتكلم مانو في أول الأغنية ليثقلها بحمولة سياسية: “هذه الأغنية مهداة إلى الشعب الصحراوي”، فيما يظهر علم البوليساريو على الركح. ينطلق فيما بعد عازف الإيقاع فيليب تيبول مغنيًّا بنفس الديناميكية والعنف الذين ميّزا موسيقى مانو نيغرا في بداياتها.

استمرت ملامح التجربة الشخصية لمانو تشاو بالاتضاح بعد نهاية مانو نيغرا، حيث وفّق في الجمع بين الالتزام السياسي والتجريب الموسيقي. يمكن القول بأنّ أغنية الزاباتيستا هي أكثر أعماله الفردية تجريبيةً واكتمالًا، فقد تغاضى عن استعمال صوته واعتمد بشكلٍ كامل على خطاب القائد ماركوس لجيش الزاباتيستا بشياباس في المكسيك، مع مرافقة من الجيتار وإيقاع ريجي، مضيفًا إلى ذلك صخب الحياة اليومية في الخلفية.

قطار الجليد والنار

كان مانو تشاو شديد التأثر بجده من الأم توماس أورتيغا الذي عاصر الحرب الأهلية في إسبانيا وحارب ضد فرانكو، كما قام إلى جانب رفاقه الشيوعيين بأعمال التخريب وشنّ حرب الأغوار ضد مواليي فرانكو. استقرت عائلة أورتيغا في الجزائر بعد هروبها من إسبانيا، بينما استقرت جدة مانو من الأب في كوبا وأنجبت هنالك والده رامون، الذي ترك البيانو واحترف الكتابة ليتشبّع بالروح الكاريبية وينقلها إلى ابنه مانو. بعد انتقالها إلى إسبانيا، كان منزل عائلة مانو في برشلونة ملتقىً لكتَّاب أمريكا الجنوبية أمثال غبريال غارسيا ماركيز وكارلوس أويمتي. وأصبح أبوه كاتبًا وصحفيًا معروفًا، حدث أن أصدر كتاب قطار الجليد والنار الذي وثّق فيه جولة مانو نيغرا في كولومبيا سنة ١٩٩٣. شاركت الفرقة حينها في إعادة ترميم القطار المتهالك الذي قطع مسافة الألف كيلومتر بين مناطق كولومبيا مع مجموعةٍ أخرى من الموسيقيين، وقدموا عروضًا مجانية في القرى والمدن والمحطات. أثرت الرحلة عميقًا على مانو تشاو، حيث عاين عن قرب البؤس الذي ترزح تحته القارة الجنوبية واقترب أكثر من أصوات الحياة اليومية في تلك المناطق.

من جهةٍ أخرى، ساهم قطار الجليد والنار في إنهاء تجربة مانو نيغرا كفرقة حسب رأي الناقدة فيرونيك مورتاين (التي ألفت كتابًا حول مانو تشاو)، إذ اعتبرتها ضربًا من المغامرة غير محسوبة العواقب، وهو ما انعكس سلبًا على الحياة الشخصية لبعض أعضاء الفرقة وأضر بتماسك المجموعة. انتهت مانو نيغرا إثر ذلك، وانتقل مانو تشاو أواخر التسعينات إلى مرحلة جديدة قوامها التجريب متخلّيًا عن إرث النيغرا تدريجيًا. في ألبومه الفردي الأول كلاندستينو، كانت آثار جولة قطار الجليد والنار لا تزال عالقة بموسيقى مانو تشاو، حيث جمع قصاصات صوتية كان قد سجّلها خلال الجولة ليُسكنها موسيقاه ويطعّم بها إيقاعاته. أكثر الأغاني التي حملت بصمات تلك الحقبة كانت مي جوستا التي يتغنى فيها بالحياة اليومية في أمريكا الجنوبية، مترحّلَا بين الأرصفة والشوارع من نيكارغوا إلى السلفادور وهافانا.

الاستكشاف الثاني للعالم اللاتيني

كان مانو تشاو مهووسًا بمارادونا، إذ وجد فيه اكتمالاً لصورة كرة القدم المعزوفة التي اشتُهرت بها أمريكا الجنوبية وافتقدتها مدارس أوروبا التي أدمنت خطط الدفاع والانضباط التكتيكي. وهب مارادونا كرة القدم ملحمية إغريقية حديثة، فهو الذي “لعب وفاز وتبوّل وخسر” على لسان الكاتب الأوروغواني إدواردو غاليانو. عندما أتى إلى ناپولي في ١٩٨٧ كان الفريق حينها مغمورًا، يبحث بالكاد عن انتصار على ملعبه ويجالد من أجل تفادي النزول إلى الدرجة الثانية. قاد مارادونا فريق المدينة إلى الفوز بالسكوديتو (لقب دوري كرة القدم الإيطالي) وأصبح قديسًا لدى سكان ناپولي ليلقبوه بسانتا مارادونا. في غمرة الفرح التي عمّت شوارع ناپولي حينها، تسلل أحدهم إلى المقبرة ليلاً وكتب على حائط سورها الداخلي متوجهًا إلى الموتى: “لو تعلمون ماذا فاتكم!”

حمل شغف مانو بمارادونا المخرج الصربي إمير كوستاريكا إلى دعوته للمشاركة بأغنية في فيلمٍ وثائقي عن الأيقونة الأرجنتينية. تحدث مانو تشاو عن خلفية تأليفه للأغنية: “عندما عدت إلى ناپولي لملاقاة دييغو، كتبت هذه الأغنية لأنّ حياة مارادونا هي ضرب من اليانصيب. في الغيتو الذي ولد فيه، نشأ مارادونا لكي يصبح ما هو عليه الآن، وعاش حياة مضطربة وحافلة بكل ما فيها من الأمور الجيدة والسيئة. هنالك الكثير ممّن يرفعونه إلى مقام الإله، آخرون يعتبرونه سليل الشيطان. الكثير من اللغو حوله، والكثير من الحب أيضًا. ظللت أتساءل إذا كنت مكان مارادونا، فماذا أنا فاعل؟ هل سأقوم بتلك الأشياء أحسن منه أم لا؟ الإجابة ليست حتمًا سهلة”. يظهر مارادونا في الفيلم وهو يعض على شفتيه ويمانع الدموع أمام مانو تشاو وصديقه عازف الجيتار مجيد فاهم في المقطع الذي يقول فيه: “لو كنت مكان مارادونا، فسأصرخ في وجه الفيفا قائلاً: أنتم السارقون!”. أراد مانو من أغنية الحياة يانصيب أن تكون تجسيدًا لفصول حياة دييغو الحافلة والمتقلبة.

في ١٩٩٤، أشعلت فرقة مانو نيغرا حماس الكثيرين بأغنيتها سانتا مارادونا التي صدرت قبل كأس العالم  في إيطاليا ذلك العام. كانت تلك أول أغنية لمانو وفرقته عن مارادونا، ونزلت في آخر ألبوم لهم كازا بابيلون الذي حافظ على جماليات الباتشانكا. تضج الخلفية بأصوات محطات الراديو والأهازيج والصرخات المتداخلة لجمهور استادات كرة القدم لإضفاء مسحة من الواقعية، أبرزها تقطعات الحبال الصوتية للمعلق الأرجنتيني فيكتور هوغو موراليس وهو يصرخ “جووول”.

إلى جانب مارادونا، عايش مانو أسطورة لاتينية أخرى هي راديو الكوليفاتا. بدأت التجربة بمبادرة من أحد المختصين النفسانيين من بوينس آيرس، ألفريدو أوليفرا، حيث جمع حوله مجموعة من المرضى من المستشفى النفسي بوردا في المدينة، ومنحهم الميكروفون ليتكلموا عن مشاكلهم ويومياتهم في المشفى. تحوّلت الفكرة إلى راديو مستقل في إطار تجربة تعاونية وتشاركية سميت فيما بعد براديو الكوليفاتا.

ارتباط تاريخ الجنون في أمريكا الجنوبية بالإبداع يمتد لأكثر من الكوليفاتا، ففي رواية المتخلف العقلي الكبير للكاتب البرايزلي فرناندو سابينو، كان بطل القصة جيرالدو الجوال منعوتًا بالجنون، وتمكّن من جمع المجانين من حوله بالإضافة إلى عددٍ من الحيوانات الأليفة ليشنوا ثورةً على المجتمع العاقل. أسوةً بجيرالدو الجوال، تمكّن مجانين بوردا من مساءلة المجتمع العاقل حول الجنون، ومن جلب العديد من المستمعين، ليكسبوا فيما بعد اهتمامًا محليًا وعالميًا ساهم في تصدير التجربة التي أصبحت رائدة في مجال الصحة النفسية، ممّا جعل مخرج ثلاثية العراب فرنسيس فورد كوبولا يهتم بهذه التجربة الفريدة ويصوّر وثائقياً عنها.

كان مانو تشاو من أكبر الداعمين لهذه التجربة، وأصدر ألبومًا حول الكوليفاتا التقط فيه أصوات أصدقائه من المستشفى وصخب يومياتهم بعد أن عايشهم عن قربٍ في زيارته للأرجنتين سنة ٢٠٠٧. وصف مانو الألبوم بأنه أحد أهم الألبومات في حياته. اعتمد فيه على أحاديث المرضى النفسانيين، حيث اقتطع حكاياتهم وأجزاء مطوّلة من منوعات الإذاعة التي يبثونها كل يوم سبت، وقام فيما بعد بموسَقة ذلك الخليط من الأحاديث السريالية متابعًا نُهُج التجريب المختلفة.

لم يكن ألبوم الكوليفاتا الوحيد الذي تعامل من خلاله مانو تشاو مع أصدقائه من المستشفى، سبقه إلى ذلك ألبومه راديوليتا من خلال الأغنية الأولى رايننج إن بارادايز التي قام بإنتاجها وتصويرها مع البعض من أبطال بوردا.

إلى جانب مجانين بوردا المبدعين، غنى مانو لبائعات الهوى والمتحولين جنسيًّا الذين صادفهم في شوارع مدريد وبرشلونة، ووصف تشاو تفاصيل الحياة اليومية لبائعات الهوى في شارع Calle deldesangano  في مدريد. ارتبطت الأغنية بفيلم برينسيساس الإسباني الذي يروي قصة بائعتي هوى إحداهما تدعى Cayé التي يتشابه نطق اسمها مع لفظ الشارع بالإسبانية calle. يتلاعب مانو تشاو باللغة في هذه الأغنية، ليشير في نفس الوقت إلى كايي، بائعة الهوى والشارع، مماهيًا بينهما: “يسمونني الشارع \ كايي، أنا التي أجوب الأرصفة متمردة وهائمة على وجهي”. في فيديو آخر لنفس الأغنية يعيد مانو تمثيل قصة الفيلم في حانة تطل على شارع تملؤه بائعات الهوى اللواتي يتراقصن ويتمايلن على وقع جيتار مانو وصديقه الجزائري الأصل مجيد فاهم.

تقف موسيقى مانو تشاو على النقيض من رحلة كولومبس إلى أمريكا، إنها طريق الصوت المعاكس التي تكون فيها أمريكا الجنوبية نقطة الانطلاق نحو العالم. حمل مانو موسيقات المكان وأصواته ليؤلف منها صوته الخاص، كبصمة جينية تحيل إلى شخصيته المركبة. اختفى ذلك الصوت تدريجياً مع تخلي مانو عن التجريب وجنوحه نحو موسيقى المزج. لا يعطي مانو تشاو خلال هذه الإنتاجات انطباعًا بأنه ذات الموسيقي الذي كان عليه منذ سنوات. لا الباتشانكا الصاخبة التي انتهت معها حقبة مانو نيغرا، ولا التجريب الملفت الذي اعتمدته بداياته الفردية، ولا حتى هوية جديدة يمر عبرها إلى مراحل مختلفة عن سابقاتها، وكأن دون كيشوت قد توقف عن المغامرة وتخلص من حمولة الخيال والأصوات.