البحث عن إدارة التوحش | مقابلة مع الراس

 مشاهدة الراس والإستماع اليه تجربة شديدة الخصوصية. تؤخذ المستمعة بانفعالية أدائه وقدرته على بثّ حالات شعورية مختلفة من خلال إلقائه وحركته على المسرح، ويدفعها قوله السياسي إلى التشكيك في عددٍ من مفاهيمها الراسخة، فيما تراه يعيش لغتها في تآلف غير مسبوق. يستكشف هذا الحوار مع الراس المنطلقات الفكرية لـ “الأشياء الصوتية” التي ينتجها: فما معنى أن يرتكز اليوم إلى النص الديني الذي كان الخطاب الحداثي قد وُضع في مواجهته؟ لماذا يعود الى التراث وبماذا يعود منه؟ ما أهمية اللغة في عملية الاستعادة تلك؟ وأي هوية تتشكل من خلال ممارسته الفنية أداءً وانتاجاً؟

أرى في اختيار عناوين ألبوماتك كشف المحجوب وإدارة التوحش والحفلات كـ إنما المسوخ أخوة إستعادات لأدبيات سياسية ونصوص دينية تبدو للوهلة الأولى دخيلة على سياق الأداء. أي قول ينتج عن هذه الإستعادات؟

كشف المحجوب وإدارة التوحش عنوانان لكتابين أولهما للإمام الهجويري .متصوف فارسي. مؤلف كتاب كشف المحجوب ويعتبر مفصلاً في تاريخ التصوّف من حيث أنه كتب بصيغة موسوعة حتى قيل عنه “من لم يجد له شيخاً فهذا الكتاب شيخه”. أما إدارة التوحش فهو كتاب مؤلف من مجموعة مقالات نشرت على منتديات جهادية على الإنترنت بقلم كاتب مجهول الهوية باسم مستعار هو أبو بكر ناجي، وبصرف النظر عن الربط الذي يقام بين هذا الكتاب والحالة الداعشية فإنه كتاب ينظّر لتحولات جذرية في منهجية التنظيم والعمل الجهادي.

استعادتهما في هذا السياق الموسيقي الأدبي قد تكون صدى لكونهما نقطتي تحول كلاً في سياقه، ولكنها جاءت في الدرجة الأولى امتداداً للإشكاليات الأساسية المطروحة في هذين الكتابين والتي بدت لي بالغة الأهمية في إطار وجودي واهتماماتي بتقاطعاتها الفردية والجماعية.

فـ كشف المحجوب يُضيء على التصوّف كحبل ممتدّ عبر العصور تتنوع تجلياته ووجوهه وبل مقولاته بحسب تبدّل الظروف المحيطة مع ابقائه على ثوابت أخلاقية في العلاقة مع الآخر كما مع النفس، ومن هذا المنطلق أردت استعادته في ألبومي الذي حمل نفس الإسم. أي التموقع تحت السقف اللغوي والماورائي العام للإسلام، والإنطلاق من هذا الموقع للتصدّي للسرديات السلطوية السائدة في الإسلام نفسه. في مرحلة كتابة وتأليف الألبوم، كنت ميالاً إلى رؤية نفسي وإنتاجي ضمن سياق هذا التموقع، وهذا الحبل التاريخي للتصوّف الذي يسعى نوعاً ما إلى الحفاظ على مساحة متحررة من القالب السلطوي دون الخروج عن عضوية الفعل الثقافي والفكري.

بعد حوالي ٥ أعوام من ذلك، أصدرت ألبومي الثالث إدارة التوحش (وبينهما آدم داروين والبطريق)، لأن الكتاب الذي يحمل التسمية نفسها قد تمكّن برأيي من الصياغة المنطقية للسؤال الأول الذي يشغلني حالياً: كيف ندير التوحش؟ أي أن الكتاب، وقبل أن يطرح نهجه للإدارة، ينظّر لمفهوم “التوحش”. والتوحش هنا هو انهيار نظام الحكم ومعه العقود الاجتماعية والنظم الاقتصادية والعلاقاتية الأخلاقية، كنتيجة لدخول “الامبراطورية” في مرحلة الأفول بعد الذروة حيث يبدأ تراجعها في الأطراف التي أول ما تنهار حين يبدأ هذا الأفول. نحن اليوم في هذه الأطراف التي تنهار. وليس ذلك بالضرورة لأن امبراطورية النظام العالمي في طريقها للأفول، بل بالدرجة الأولى لأن معادلة القوى الامبراطورية في مساحتنا في طريقها إلى التحوّل. والفارق هنا بين القراءتين هو الفارق بين قراءة الامبراطورية ضمن سياق الدولة القومية (أميركا مثلاً)، وقراءتها ضمن سياق شبكة المصالح العالمية المؤسساتية المترابطة. أتبنى بعكس الكتاب القراءة الثانية لكن ذلك لا يمنعني من رؤية تركيز هذه الشبكة في الولايات المتحدة أو في ما يسمى بـ الغرب عموماً.

الكتاب يريد إدارة هذا التوحّش في اتجاه ايديولوجي محدد هو استنهاض “المجد الضائع” واستعادة المشروع الامبريالي الإسلامي المهزوم تاريخياً. أمّا أنا فأردت أن أبحث في نفسي عن توجهاتي القائمة أساساً في إدارة هذا التوحش. أي أن أقدم في إنتاجي صياغة ما لكيفية إدارتي أنا لتوحشي كفرد في مجتمعات منهارة، وأيضاً لتوحشي كجماعة مستعمَرة.

لذلك، فإن اختيار هاتين التسميتين كان أساساً تبنياً لصياغة المشكلة لا لطروحات الحلّ، وإلا لما كنت لأخالف محتوى الكتابين في كثير من المواقع. وأعي الآن، أنني انتقلت من مرحلة دفاعية نوعاً ما ترتكز على الموقع النقدي ومنطق الحفاظ على الحبل الممتد، إلى مرحلة أكثر هجومية ترتكز على محاولات الإجابة عن سؤال: كيف أدير وجودي واستمراريتي وتطلعاتي وعلاقاتي في ظل توحش المجتمعات وانهيار النظم؟ كيف أنتقي ما أريد الحفاظ عليه من الموروث وأبني ما أريد التوجه إليه وتوريثه؟ كيف أشكّل توجهي؟

أما تسمية عرض إنما المسوخ إخوة، فقد جاءت أكثر عفوية وإشارة إلى الرابط القوي بيننا كستة مسوخ. ربما لا يقلقنا أو يربكنا التناصّ مع القرآن كما يربك الدوائر الثقافية والأكاديمية السائدة، ولذلك أيضاً لا نتردّد في التعويل على البلاغة الأدبية والسلطان الاجتماعي والسيكولوجي العميق لهذا النصّ المؤسس.

“نسبي إليك في لغةٍ وخروجٍ على الظالم | نسبي إليك في امتحان توحيد العوالم | نسبي أن أكون في قومي كما أنت في قومك | بالمعنى لا بالصورة | أن أحتذي بالحكمة المأثورة لا أن أعبد الأسطورة”. أرى في كشغرة وأيضا منذ البدايات، في كشف المحجوب وصولاً الى إدارة التوحش، تفكيكاً لسرديات موروثة، تحديداً من خلال الغوص في إشكالية النسب. كيف تقرأ مفهوم النسب هذا في سياق كلامك السابق عن الحفاظ الانتقائي على الموروث؟ وهل إعادة ترسيم النسب شرط أساسي في عملية التأصيل التي تعنى بها في أعمالك؟

أعتقد أن مسألة النسب كانت في تجربتي من أول حوافز الخيال التاريخي. فقيل لنا مثلاً إننا من سبط الحسين حفيد الرسول ربطاً باسم عائلة السيد لأبي، وإننا من سلالة الناصر صلاح الدين ربطاً باسم عائلة الأيوبي لأمي. وكنا في الوقت عينه لا نشعر لا بالسيادة ولا بالنبوة ولا بالنصر ولا بالإمارة، بل غالباً بعكس كل ذلك. هوة عملاقة بين الخيال التاريخي والواقع المعاش، إلا أنها لم تحل دون توارث لغوي هوياتي معيّن لا يمتلك بالضرورة شرعية الواقعة التاريخية بقدر ما يمتلك شرعية المتوارث المتبنّى جماعياً أو فردياً.

هناك الكثير من المتخيّل في مسائل الهوية، فالواقع ليس كافياً لبناء المعنى فيما لم نعرف للتجربة البشرية مفراً من الحاجة له. وربما في هذه المساحة تكمن اللغة. في مساحة اشتقاق المعنى من الواقع. واللغة في كونها هوية، هي نسب أيضاً. ليس بالمعنى العام للبيئة الحضارية فحسب بل هي اختزال لمراحل التوارث الأصغر دائرةً كالعائلة والحيّ والمدينة. اللغة هي بذلك شبكة خاصة من الرموز الصوتية تحيل إلى شبكة خاصة من المفاهيم والقيم والفرضيات.

اليوم، أنا أريد أن أدير توحشي. لا بد إذن من أمرين: فهم تلك الشبكات المحيطة بوجودي، ومن ثم بناء تصوّر لموقعي وموقفي وعلاقتي بكل واحدة منها. من هذا الباب، تطرح مسألة النسب نفسها حتمياً. ولهذا أخالفك في استخدام مصطلح “تأصيل” لانه يحيل إلى فرضية: وجود أصول محدّدة، نحجّ إليها من ذواتنا اللا-أصلية كي نتطهر وندخل حرم الأصالة. أنا أسعى إلى شيء مختلف تماماً عن هذا. لا أراها تلك المحجّة. بل أرى شبكات متتالية من الأفكار والأحداث والشخصيات والجغرافيات، ينبغي عليّ أن أكشف الخفيّ في صفاتها لأدير صراعاتي ضمنه، نوع من “الأخذ بالأسباب”.

اللغة إذن مستقريّ الوحيد، وكلّ ما دونها نسب أنتقيه. لأنتقيه بحكمة عليه أن يكون متناغماً مع طبيعتي الماديّة والشعورية والعقلانية. وهكذا يتشكل الانتساب الفاعل بنظري. ليس هناك في الماضي ما يمتلك بذاته أحقية مطلقة تحتّم علينا الانتساب إليه، ولكن فينا من ذاك الماضي ما نحتاج إلى صياغته لاختراع أنسابنا في طريقنا إلى اختراع أنفسنا. لا أمتلك حنيناً لأي حقبة زمنية ولّت.unnamed (1)

تقول إن اللغة مستقرّك الوحيد. ولكن هناك الكثير من المتخيل في اللغة أيضاً، وهي كالهويات المتوارثة تخضع لأحكام سياقها المادي والايديولوجي (الحروب القومية على العاميات في القرن التاسع عشر وتحجّر اللغة على لسان المؤسسات الدينية المرتبطة بالسلطة وممارسات السلطة اللغوية) وقد تتحول أيضاً البلاغة الى أداة تقمع القول الهامشي حيث أن انعدامها يُذهب شرعية القول وأحقيته. فأي لغة تلك التي تقدم لك هذا الثبات؟

لم أقصد شكلاً محدداً للغة كمستقر لي. بل قصدت أن الانتساب الوحيد الذي أعدّه ثابتاً هو الانتساب اللغوي. من هنا هو انتساب للغة العربية، لا لشكل من أشكالها، بل بالعكس إن اعتبارها سياقاً ثابتاً يمكنني من رؤية المتحول فيها، وتفكيكه إلى تأثيرات سلطوية وتيارات تعبيرية بل أيضاً جغرافية وتاريخية وإلى ما هنالك من ظروف موضوعية تسهم في توجيه التعبير اللغوي إلى هنا أو هناك. إن اختيار اللغة كمستقرّ هو في جانب ما اختيار للمواجهة والتصارع في السياق اللغوي نفسه بدل ما أظنه هروباً، إلى سياقات لغوية أخرى مع كل ما يتأتى عن ذلك من انسلاخ عن مجالات التواصل الاجتماعية المنوطة بلغة بعينها. لا أريد للغتي أن تبقى منفصمة بين عامية يومية وفصحى أدبية شاعرية ولغات لاتينية أستعين بها في العلمي والفلسفي الخ… أريد لغة عربية لي أتحرك داخلها في كل اتجاه أريد.

أما في ما يتعلق بالبلاغة كاداة  قمعية للتعبير عامة واللغوي منه خاصة، فاعتقد أن التصدي لهذه الممارسة القمعية ينطلق دائماً من إعادة إختراع البلاغة. أي أن القمع في هذا المعنى ليس قمع البلاغة للقول الهامشي، بقدر ما هو قمع الجهة التي تفترض امتلاكها لمعايير بلاغية منتهية ومكتملة مانحة لنفسها المتن ولغيرها الهوامش. من أين يحصل أي قول مهما كان على شرعيته والأحقية؟ وهل الرقابة والحجب التاريخيان على القول يعودان في الدرجة الأولى إلى معايير بلاغية؟ لا بل أعتقد أن القول حين يريد التفلّت في مضمونه ودلالته من السائد القائم سيصطدم حتماً بما قد كرّسه هذا السائد سلطوياً أو حتى في الذوق العام على صعيد الشكليّة والبلاغة.

سيبقى هناك في اللغة توتر بين الفرد والجماعة، وهذا التوتر هو الذي يعنيني بالدرجة الأولى من حيث أنه يختزل الإشكالية الاجتماعية.

تعقيباً على إشكالية الإنتساب اللغوي في أعمالك، تقول في هبوط اضطراري “نحنا منعيد تشكيل ايتيمولوجيا العرب”. كيف تصف تلك الممارسة التصحيحية، تحديداً ما الذي قد أصاب تلك الإيتيمولوجيا التأثيل، علم البحث في أصول الكلمات وما هي آليات إعادة تشكيلها؟

حقيقة يتبدى أكثر المعنى المقصود بهذه العبارة مع باقي جملة “انت بتبيع بلندن اتنولوجيا”. فالمقابلة الأساسية بين الحالتين هي المقابلة بين فكرة الفعل اللغوي/الموسيقي الذي يخاطب الإشكاليات والمرجعيات الداخلية للذات الثقافية كسياق ديناميكي متواصل، ونظيره المعدّ لاختزال خصائص هذه الذات الثقافية ضمن حالة ستاتيكية ثابتة مشكّلة للتسويق المعولم. بمعنى آخر، هي مقابلة بين التجلي الفنّي الذي يخترق التكرار الثقافي والتمثّل الثقافي القائم على جعل الـ “فولكلور” مادة قابلة للاستهلاك في السياقات غير الفولكلورية وبالأخص في مركز الثقافة “العالمية” السائدة، أي في الغرب.

وما أسميه تجلياً فنياً هو في الحقيقة إعادة استملاك لكل الروافد التي تشكل المخزون الفكري والموسيقي واللغوي للفنان وردها إلى الآن والهنا، وهذا يعني حتماً إعادة بناء الروابط بين صورة الكلمات وأصواتها ودلالاتها، أي إعادة تشكيل منطق الاشتقاق الكلمي والبناء النصّي.

وأعتقد أنه من الضروري التطرق هنا إلى قضية الاستعمار، والعولمة كفلك سياسي واقتصادي وثقافي لهذا الاستعمار الما بعد كولونيالي إذا صحّ القول. نعم، نحن مستعمَرون. حتى أنّ معظم ما نظن امتلاكه في معرفة تواريخنا ومخزوناتنا الثقافية، هو حقيقة ما مضغه المركز الاستعماري وأعاد بيعنا إياه على أنه “نحن”. وليس ذلك من قبيل الخنوع في موقع الضحية، بل العكس تماماً. فالإدعاء بأنه بإمكاننا الحركة والانتاج والتواصل بغض النظر عن آليات التسلّط الاقتصادي والثقافي المحيطة بنا، أحسبه من السذاجة في أحسن الأحوال.

هذا ما حلّ بالاتيمولوجيا العربية، وبغيرها من سياقات معرفية فقدت تناغمها الداخلي الضروري بين: المعاش، والمقال، والمكنون. هذا التناغم، أو الاصطفاف، يمكنني باعتقادي من التفلّت من أي تصوّر جوهري إستشراقي لنفسي وجماعتي، ومن أي ارتداد “أصولي” يسعى إلى استنهاض ما سبق له أن فقد مقومات الوجود عضوياً، ما سبق له أن هُزم.

لغتي كجماعتي مهزومة، وأريد الانتقال بها إلى أن تكون جماعة منتصرة لا جماعة مَتْحَفيّة مقبولة لأنها قدمّت فروض الطاعة. ومن هنا تبرز أهمية الربط بين الماضي المتخيّل والحاضر المعاش، على أساس التملّك العميق للتقنيات والأدوات والمكنات المتاحة اليوم والبحث التفصيلي في الطيف الواسع من السرديات المهمّشة ضمن الموروث، لمقابلتها ببعضها ضمن أرضية التناغم أو الاصطفاف الذي أشرت إليه. هذا الربط هو الشرط المفقود للانتقال والمقارعة، والفارق بينه وبين القفز فوقه كالفارق بين التنقيب في الأهرامات وتعلّمها والاستغناء بها والاستنباط منها بالحس النقدي، وبين بيع مجسمات بلاستيكية عنها تحمل ساعة رقمية بمدارات الكترونية تضيء بالألوان.

نقدك للاستشراق واضح في عدد من أغنياتك كـ است/شراك وفي الجليد ووطوطة. لكن، وبما أنك معني بإعادة الاعتبار للسرديات الرافضة لمنطق الثنائيات، ألا ترى أن التمسّك غير المشروط بثنائية شرق/غرب قد يعتّم على بعض التجارب السياسية\الأخلاقية المتعلقة تحديداً بالحق والعدالة والتي تقع في صلب رؤيتك الفنية؟ أقصد أليس في الغرب تقاطعات عرقية وطبقية ودينية تعنيك وتلهمك كقضايا السود في أمريكا مثلا؟ ما الذي يقلقك في العمل مع توباك أو ورثته اليوم؟

لا اؤمن بالتضاد الجوهري بين شرق وغرب، ولا أتهم بالاستشراق كل ما هو غربي كما لا أتخذ موقفاً سلبياً (أو ايجابياً) من شيء لمجرد كونه شرقياً أو غربياً. ولكن ذلك لا يلغي ما ذكرته سابقاً عن المعادلة الاستعمارية “العالمية” وتركيز سلطتها الثقافية والسياسية والاقتصادية في الغرب عموماً. من هنا لا يمكن إغفال خطورة النهج الاستشراقي الذي يعيد دائماً سائر إشكالياتنا إلى القراءة الغربية المركز، فيجردنا من شرعية التفكير بواقعنا من خلال أدواتنا الخاصة. والنهج الاستشراقي هذا ليس حكراً على الذين يتخذون مواقف استعمارية أو عنصرية واضحة من “شرقيتنا” على أنها جوهر سلبي كامن فينا يعيقنا من الارتقاء إلى مصافهم. بل يكمن الاستشراق أيضاً في كثير من السرديات الأنتي-كولونيالية (كتاب جون هوبسون في هذا الصدد مفيد جداً). هذا الاستشراق ليس عنصراً هامشياً في صناعة واقعنا، بل هو نهج يحكم في المنظمات والأكاديميات ووسائل الإعلام وصولاً إلى النماذج الاقتصادية وأنماط الإنتاج.

فمثلاً أن تردّ صراعاتنا إلى صراعات الأفارقة-الأميركيين في الولايات المتحدة هو نوع آخر من التسطيح الاستشراقي، بحيث يترتب علينا أن نتشابه مع سردية نضالية داخل المركز الاستعماري كي تكون سرديتنا مقبولة عالمياً. علينا طبعاً أن نمدّ شبكة علاقات معرفية وعملانية مع كل مساحات التقاطع الفكري والميداني عالمياً، ولكن التماهي يلغينا، أكان مع الثورات الملونة في شرق أوروبا، أو مع صراع الأفارقة-الأميركيين كمواطنين يسعون إلى المساواة أمام الدولة الأميركية ومؤسساتها.

إذن لا يقلقني العمل مع هؤلاء لذاته، ولكن أشئنا أم أبينا فإن الهيب هوب مثلاً الذي نشأ كتيار أنتي-مؤسساتي في الولايات المتحدة قد أصبح جزءا من الدبلوماسية الأميركية، بل جزءاً من عملية الترويج للثقافة الاستهلاكية كحبل خلاص من أزمة الحداثة وما بعدها، والأهم من كل ذلك الترويج لفكرة الدونية إزاء ما هو آت من الغرب-المركز. أتقاطع في صنعة الراب مع تقاليد كلامية كثيرة منها الهيب هوب، كما أتقاطع من ناحية الأدوات مع تقاليد صوتية أخرى من عوالم متعددة بعضها الالكتروني وبعضها “الخشبي”. منفتح على التعاون مع سرديات هامش المركز ولكن لا أنسى أنني هامش العالم.

تعرفين، لم تكن سابقاً صفة الاستشراق مذمةً في العقل العربي والمشرقي تحديداً. فمثلاً كانت اليافطة على باب المنتدى القومي في حلب ترحب بـ “المستشرقين الكبيرين”، سايكس وبيكو اللذين ألقيا يومها خطاباً مزلزلاً عن وحدة الأمة العربية ووقوف العالم الحر إلى جانب المشروع القومي العربي بصيغته الأكثر مشرقية. هذا حصل في ١٩١٩ أي ٣ أعوام بعد وضع هذين خريطتهما الشهيرة، قسمة الرجل العثماني المريض. ولكن الخريطة كانت لا تزال خفية في جيوبهما. اكتشفنا الخريطة ولا زلنا لم نكتشف مفارقة الاستشراق في المعرفة التي نستهلكها من الغرب-السائد عن أنفسنا. حتى في تعلمنا لقواعد لغتنا نسقط مناهج تعلم لغات أخرى. يحضرني حديث هايدغرعن الفقدان المعرفي في الانتقال من الإغريقية إلى اللاتينية من نص أصل العمل الفني، عن العلاقة بين أصغر خصوصيات التعبير اللغوي والشبكة المفهومية التي تشكل حقيقة منشودة لجماعة ما. علينا أن ندرك أننا يتامى الحضارة، حينها سنتمكن من البناء بأنفسنا لأنفسنا.

تعقيباً على أهمية الربط، كما تقول، بين الماضي المتخيّل والحاضر المعاش، ألاحظ في أعمالك حركة أرشيفية مزدوجة: فمن جهة تعود الى الأرشيف الثقافي العربي لتحيلنا الى نصوصٍ تراثية مؤسسة، مثلاً في كلامك عن الغربة (من كوكب الفيحاء، معركتي، الأخ من وين؟) الذي قد يحاكي كثيراً مما كتب عن الغربة والمنفى وإلى أغراض شعرية متعددة كالفخر (أنا مش أنا) ورثاء المدن (بيروت خيبتنا) والهجاء (هبوط اضطراري) وغيرها. من جهة أخرى، تجعل الاغنية نفسها أرشيفاً للمرحلة (نحنا والزبل جيران، حضرة حرّة). إلى أي حد ترتبط الحساسية التاريخية والتأريخية تلك بمشروعك الأوسع؟

أعتقد أنك على حق في هذا التشخيص. فغياب ذاك الربط يؤدي بنا (أو ربما بي وحدي) إلى نوع من الذهان الزمني الذي يجعل من كل الماضي كامناً في لحظة الآن. وكأن العقل لا يتخلص من اللحظة إلا حين ينهي دورتها من ولادتها حتى موتها مروراً بذروتها. ولذلك فلا حاجة إلى افتعال حضور اللحظة التاريخية السابقة لأنها تتغلغل في كل حاضر محاولة الإفلات من البرزخ المعلّق، نحو الموت رحمة بنا وبحياتنا.

من جهة أخرى، لدي انتماء صلب لمشروع الشهود في هذه المرحلة التي أعاصر وأختبر. بل إني أرى نفسي مكلفاً باستنباط الشروط الأخلاقية والمنهجية الفكرية اللازمة لهذا الشهود. فهو يتطلب اتخاذ المسافة اللازمة من البراغماتية وبالتالي من كل القوى الكبرى الفاعلة في شبكة التسلط التي تحكم واقعنا. كما يتطلب انخراطاً مباشراً في الاجتهاد والخطأ والصواب، وتوازناً دقيقاً بين البوح والكتمان. على قواعد الشهود المستنبطة هذه، أعتقد أنه بإمكاننا بناء انتماءات ثقافية حيّة والتموقع الحقيقي في خرائط الصراعات. لا أخفيك أنني أرى في نهج الشهود هذا إحالة مباشرة إلى الطرح الفلسفي المحمدي للإسلام في بناء “الأمة الوسط” على انقاض الكتل الامبريالية والعقائدية والهوياتية في لحظة التأسيس. ولكن هذا حديث آخر.

قد لا نتمكن واقعياً من إحداث التغيرات العميقة التي نصبو إليها في واقعنا وجماعتنا. لكن بإمكاننا على الأقل ضمان استمرارية المقارعة للسرديات السلطوية الكبرى، عبر هذه الأشياء الصوتية التي ننتجها فتنتشر في أوعية الواقع، كإشارات كهربائية تتواجد في الآن ذاته داخل مئات آلاف الأجهزة والحاملات. بل تستطيع هذه الإشارات الكهربائية أن تقيم الرابط الحيوي بين الشهود والتموقع فتؤسس لتقاطعات نظرية وعملية تتشكل على أساسها الهوية كمصفوفة مشتركة منبثقة من التجربة لا مسقَطةَ مظلياً من فوق.

لنتكلّم إذا عن تلك التقاطعات النظرية والعملية التي تشير إليها وتحديداً عن خياراتك في الإنتاج. فإذا نظرنا الى شبكة الانتاج-الأداء في معظم أعمالك نرى خروجاً عن مركزية العواصم الثقافية في الانتاج والمضمون (ميناء حمص مثالاً). وإذا تمعنّا في تلك الشبكة التي تصل حمص والجليل والعين وطرابلس ورام الله أداءً وإنتاجاً (إدارة التوحش انتاج الناظر، انتاجك خارج التّلم لميسان حمدان) تتجلى لنا خارطة لجغرافيا جديدة، تحديداً مشرقية، تستحيل علينا اليوم لكل الاسباب التي نعرف. لأي حد تصح قراءة خيارات الانتاج تلك في سياق الهمّ النظري/العلمي الذي يربط بين الهوية والممارسة الموسيقية؟

لا أعتقد أننا كنا نقصد في بادئ الأمر تشكيل هذه الخريطة المشرقية الشامية عمداً، ولكن هذه الخصوصية تبلورت تلقائياً ضمن تطور الراب العربي ككّل. ويبقى البعد العربي الشامل قائماً لكن الرابطة الشامية هذه فرضت نفسها على مستويات عدة، موسيقىً ونصوصاً واستخداماً للأصوات. كما فرضت نفسها من ناحية تاريخية سياسية في علاقتها مع الأديان مثلاً أو مع الميثولوجيا، في خصوصية مسألة الاحتلال الصهيوني، ومسألة النظام السوري وتأثيرهما الكبير على المشرقيين بالدرجة الأولى.

وفي واقع الأمر، بدأنا نعي مؤخراً هذا المنحى الذي اتخذته الأمور وأميل شخصياً الآن إلى التكتّل العملياتي مشرقياً. في النهاية، نعيش في نظم اجتماعية استهلاكية يملي فيها السوق معايير الأحقية في الوجود والبقاء. أعني مثلاً، أن كتلاً ديموغرافية كبرى كمصر منذ زمن والخليج مؤخراً، تشكل ثقلاً استهلاكياً كبيراً يصنع مقابله تأثيراً كبيراً على مستوى الإنتاج نفسه. فنشهد مثلاً في البوب ظواهر غناء المشرقيين بالمصري أو بالخليجي، وهذا يعني بشكل أو بآخر طمس تمايزات المحليّ أو تعويم الصور النمطية المعدة للاستهلاك (في الخليج مثلاً).

هذه الصور النمطية التي تعوّمها الأسواق الكبرى تصبح صورة العواصم عموماً، مرآتها. في الوقت نفسه يطوّر أبناء الأطراف إحساساً منهجياً بالدونية إزاء صورة العاصمة، فيعيدون استهلاكها من بعيد وبالتالي يعيدون إنتاجها. وأعتقد أن الخريطة التي تشيرين إليها هي في غالبها خريطة لأبناء أطراف يعرفون العواصم من دواخلها، فهؤلاء لم تصنع جلودهم مشيئة الأسواق، ولم تخدعهم عاصمة رأوا بأمهات أعينهم عملية تصنيعها لصورتها النازلة من سماء رأس المال.

هكذا اعتقد أن الراب المشرقي أو على الأقل ذلك المتمحور بين مجموعة السالب واحد والمسوخ ولتلتة ودوائر أخرى في سوريا والأردن، قد سلك إلى الآن منحى إدراكه للتقاطع الهوياتي وصولاً من التجلي الموسيقي اللغوي وليس العكس، وربما سيعطيه ذلك في الفترة المقبلة قدرة على الجمع بين مقومات الاستدامة الإنتاجية والتجذر الثقافي المتمايز.

في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أنتجت الهوية المشرقية هذه خطاباً موسيقياً لم يتخلَّ عن حساسيته العلمانية رغم كل تحولاته وتمايزاته الأيدولوجية. أي أن الأغنية الملتزمة لم ترَ في النص الديني مصدراً لإشتقاق راديكالية سياسية. في المقابل، نرى في أعمالك، خصوصاً في إدارة التوحش، تحولاً جذرياَ في قراءتك للأرشيف الديني. ففي تما يقولوا عنّا مثلاً، ثمة إحالة الى التراث الاسلامي لإستخراج مفهوم الحق والعدالة. وفي إسلامي، تظهر منهجية ثابتة في الخروج عن الثنائيات فتتحول الأغنية الى ما يشبه مانيفستو سياسياً. سؤالي هنا مزدوج: بماذا تدين للأغنية الملتزمة كما عرفناها؟ وثانياً، كيف تتمايز أعمالك عن الأناشيد الإسلامية، الجهادية منها، التي تبحث أيضاً في النص الديني عن راديكالية مفقودة؟

أدين للأغنية الإسلامجية الملتزمة كما لنظيرتها العلمنجية بفكرة الموقع النقدي في الفعل الموسيقي، وبالوعي بمسألة الهوية داخله. أدين لهما أيضاً بالكثير من الملل والخيبة. لا شكّ في أنّ قياس المسافة الهائلة بين سرديات هذين النوعين وبين واقعي كما أعيشه وأجربه، كان أيضاً ذا فائدة في ما تسمّينه “الخروج عن الثنائيات”.

ولكنني لا أثق بالطرفين، لا في الموسيقى ولا في الأيديولوجيا ولا في السياسة ولا حتى في الذوق. الأناشيد الجهادية واليسارية مستلهمة من السوفيات، وكلا النوعين يقدم رؤى “استنهاضية للمجد الضائع”، مبنية على إسقاطات أيديولوجية فوق الواقع، من مصادر القوى التي تمسك بخيوط الإنتاج والتسويق. أكدوا لي إمكانية التمرّد، ولكنهم توقفوا عن كونهم تمرّداً منذ زمن طويل. ومن هذا المنطلق فإن الالتزام الفني بمعناه المتوارث من الستينيات إسلامجياً أو علمانجياً، لم يتجاوز مرحلة التعليب والبروباغاندا، ليحقق هدفه المعلن على الأقل في أن يكون فناً ثورياً أو راديكالياً إذا شئت.

ليست هناك راديكالية في القرية الفينيقية النموذجية، ولا في التنفيس المستمر بالاستهزاء العبثي، ولا بالترويج الطفولي لسردية قتالية غوغائية، ولا بالتغني بخالد ابن الوليد…الفنّ الراديكالي ليس دعاية لما تقدمه الايديولوجيا على أنه فعل راديكالي مباشر. بل الفنّ الثوري هو فعل ثوري مباشر، لا يمكن لثوريته في علاقته مع أدوات إنتاجه أن تقلّ أهمية عن الثورية المفترضة للفعل المباشر المرتبط به.

إذن قد أتقاطع مع الجهاديين في أنني أعود إلى النص، ولكنني أعود كما أشاء أنا وكما تقوم لي الحجّة، فهذا النص قد وجد لخدمتي ولم أخلق أنا لخدمته. وأتقاطع مع اليساريين مثلاً في مناهج التفكيك وسياقات الجدلية، ولكن لي تأويلي الخاص أيضاً لأدبيات هؤلاء وشبكات أفكارهم ومصطلحاتهم. وكذلك يحق لي القول في مدارس فكرية عديدة منها تيارات التصوف الكثيرة وفلسفات الشرق الآسيوي والوجودية إلخ.

راديكاليتي ليست مفقودة لأبحث عنها في النص أياً كان، لا معجزة في الأفق. بل هي عملية بناء تحتّم الغوص في أوسع طيف من الموارد. في تما يقولوا عنّا قصدت ربطاً ممتداً بين الفعلين الجنسي والاقتصادي وربما لسلّم من القيم يجمع بين أخلاقيات الفعلين، وربما في هذه الأغنية أكبر دليل على إمكانية المداعبة بين الموروث الإسلامي وكثير من عناصر “الحداثة” الفكرية. أما إسلامي فهي فعلاً أغنية انعتاقي التام من العبء التاريخي للإسلام وعودتي إلى نوع من سلفية قصوى في لحظة الوحي الأولى، في لحظة النسق الفلسفي الأول. وهنا أيضاً أستلهم معان لنهاية الأديان من “نهاية الفلسفة” و”نهاية التاريخ”، تتعايش مع إمكانية إقامة الحجّة من داخل الموروث النصي والحدثي للإسلام.

“لا يمكن لثوريته في علاقته مع أدوات إنتاجه أن تقلّ أهمية عن الثورية المفترضة للفعل المباشر المرتبط به”. ماذا تقصد هنا؟

أقصد ان ثورية الفنّ تكمن في أن يكون ثورة في الفن أيضاً لا مجرد فن عن الثورة. في أن يكتسب ثوريته من أدواته لا من موضوعاته. الثورة في الأدوات ستحيل حتماً إلى الموضوعات الثورية، أما العكس فليس صحيحاً وهذا ما شهدناه مع كثير من اغاني الالتزام تلك على ضفتي الشرخ الأيديولوجي.

في أغنياتك سعيٌ لتفكيك الأيقونات، الفنية والشعرية منها (ميم، نحنا والزبل جيران، بيروت خيبتنا) عبر الإشارة الى الشرخ بين قالبها الثوري وداخلها الخاوي. ماذا يقدّم لك الراب في عملية التفكيك هذه؟ وبماذا تستبدل أيقوناتك المفككة؟

عند إنتاج كل قطعة راب تكون أمامنا إمكانات اختراع اللغة من جديد، وإعادة سوق تدفقاتنا اللغوية فوق الموسيقى ومعها بأشكال مختلفة. هذه المساحة-الحرية في الشكل هي في الوقت عينه حريةٌ في الاصطدام بالموروث وحرية في بناء مفاصل جديدة تتحرك حولها أفكارنا، بل إعادة تعريف نهج ربط الأشياء ببعضها.

أعتقد أن كل شيء يحمل إمكانية أن يكون أيقونة في الراب، لذا يمكننا القول ألا أيقونة في الراب. بل هو نمط مختلف في العلاقة مع الشخصيات النموذجية حقيقية كانت أم خيالية. هذه الشخصيات تخرج في الراب من أطرها وتحطّ بيننا تخالطنا في حيواتنا اليومية وتسقط عليها عناصر واقعنا نحن كما نختبره ونراه. كما أن شخصيات أخرى لا تنتمي لأي تقليد تمجيدي، قد تتخذ صفة المقدّس (العابر) في الراب. حتى في العلاقة التي تسمينها تفكيكية مع الأيقونات الكلاسيكية إن صح القول، ليس ما نشهده مجرد قلب للأيقونة رأساً على عقب، بل اختطافها من أيقنتها إلى واقعي لتمتلئ به وتصبح فعلاً.

تتحدث عن تناغم العمل النقدي الفاعل مع أدوات انتاجه، لكن إذا عدنا الى تراث الأغنية الملتزمة نكاد لا نرى فيه أثراً لقولٍ نسوي وكأن الأغنية الملتزمة التزمت فقط بالمرأة كإستعارة للوطن والشرف والأرض الخ. وفي المقابل، من الملفت انّك والسيد درويش واجهتما في ثورت قضية العنف السياسي/الجنسي وبعدها انتجت لميسان حمدان أغنية خارج التّلم وهي من التجارب القليلة التي يبرز فيها صوت ناشطة سياسية في ساحة موسيقية ليس سراً أنّ طابعها ذكوري. سؤالي هنا، ما هي معالم الخطاب النسوي في ممارستك الموسيقية وما هي حدوده؟ بمعنى آخر، كيف توفّق بين أحقية القول النسوي وأحكام التموقع في حقل موسيقي تحدد شروطه سرديات ذكورية أداءً وإنتاجاً؟

أعدّ نفسي نسوياً بحدود كوني رجلاً لا امرأة. ولا أخفيك أنني نادراً ما أديت “ثورت” في عروض حيّة، لأنني أشعر أحياناً أنني تجاوزت تلك الحدود في ذلك النص. هل استطيع أن أسمح لنفسي باستعارة صوت امرأة أو أنثى عموماً؟ ليس الجواب واضحاً عندي بعد. لكنني مقتنع تماماً بأهمية الصراع من وجهة النظر النسوية، وعلى يقين بأن التحولات الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي أنشدها في مجتمعي ليست قابلة للتحقق دون تحقيق مكتسبات كبرى في المعركة النسوية.

أما عناصر الخطاب النسوي التي أرتاح لها فعلاً في أعمالي فهي من نوعين. النوع الأول في مخاطبة الإشكاليات التي تكتسي طابعاً نسوياً على كونها تصبّ في مصلحة المجتمع ككل وتعني كل أفراد المجتمع، فاستطيع مخاطبتها من موقعي كرجل. أما النوع الثاني، فهو حين أتمكن من اداء دور المسهّل أو الوسيط، حيث استثمر أي امتياز قد أكون قد اكتسبته في الحقل الموسيقي أو لكوني رجلاً في مجتمع ذكوريّ، لفائدة صوت نسائي نسوي دون ممارسة أي نوع من السلطة عليه.

في المقابل، لا أعتقد أن في الراب العربي ما يحتّم عليه سردية ذكورية. بل إن الآفاق الموسيقية التي يقرع أبوابها الراب العربي في مساحات أوسع من الهيب الهوب على أنواعه، تفتح مجالاً أغنى لإمكانية وجود سرديات نسوية وجماليات تتجاوز الكليشيهات الذكورية/الأنثوية. وأعتقد أن غياب هذا المجال سابقاً هو الذي نفّر معظم النساء من الراب (لا العكس)، فيما بدأ ظهوره في التحولات الأخيرة للراب العربي يجذب المزيد من النساء كمستمعات وبالتالي حتماً كمؤديات في الفترة المقبلة.

في  تراك إعجقها في إدارة التوحش تقول “ما بدّعي الفن الا بأدوات صبري | خلي السؤال للكفن والجواب لحجر قبري”. المذهل هنا أنك، وبعد وضع ما يشبه منهجاً شعرياً تتكلم فيه عن صنعتك، عن تلك “الاشياء الصوتية” التي تمارسها، تعود الى الشك وتتحول الى طيفٍ يحوم فوق الحاضر ويرى ذاته من خارجها.

حقاً أعود إلى الشك. طبعاً أعود إليه، ولكنه ليس شكّاً في صنعتي. هذه الأخيرة أصبحت بالفعل يقيني الوحيد. لدي شكوك كبرى، وفي هذا السياق أكبرها يدور حول مسألة الفنّ. هناك أشياء كثيرة في السياق الفنّي تنفّرني ولست معنياً البتة بالانخراط فيها. عندما يصبح الفنّ اختصاصاً في مجتمعات رأسمالية استهلاكية، تدخل عليه عناصر المنافسة السوقية والدعوة إلى النفس ويصبح العالم الفنّي وهماً جديداً تحركه هواجس ولدت من داخل هذا الاختصاص نفسه، ما الجدوى من أن أبتكر صنعة لتصبح هي نفسها موضوعها الأول ومحركها الأساسي؟

إذا كان الفنّ كذلك، فلا أريده لصنعتي أبداً، لا أريد لها أن تصبح أفعى تأكل ذيلها. صنعتي وجدت أصلاً لخدمة إنسانيتي، ولأنني لا أستطيع إيجاد أي معنى ينتهي عند فرديتي. صنعتي وجدت أصلاً لأن المجال الصوتي مجال عام، فكيف أرضى لها أن تصبح صدًى لنفسها؟ لمجرد هواجس بقائها والاستدامة؟

للأسف حلّ “تاريخ الفن” محلّ الفن (هايدغر مجدداً :))، فأصبحت الحتمية الفنّية حتميّة اندراج ضمن سياق إحدى السرديات الرائجة السائدة، لا حتمية اختراق السرديات. هذا فنّ لا أقبله، أما إذا كان الفنّ جواباً لحتمية إعادة اختراع الحياة فلن يُعرف إن كنت فيه أم لا، إلا حين يأتي الموت واختبار الذاكرة.


صورة الغلاف لـ أحمد الطرابلسي.