وين الموال يا جورج؟

كتابةنور عز الدين - September 27, 2016

الوسوف حب المراهقة الموسيقية الأول

في سنوات مراهقتي كنت أستلقي ساعات طويلة بعد دوام المدرسة إلى جانب مسجلتي. كثيراً ما كنت أملّ من إذاعات الراديو الغارقة بأغاني فضل شاكر ومروان خوري ونجوى كرم كانت شركة روتانا المنتجة تكتسح السوق اللبناني الموسيقي بها في بداية الألفية الجديدة فأذهب إلى جارور مكتبتنا الموسيقية، أخرج كاسيت كتب عليه بالأحمر: مواويل نادرة، إلى جانب اسم مزركش بالأزرق: جورج وسوف، ليخرج إليّ صوت مراهق آخر يقارب عمري من الضفة الثانية، يدندن لي المواويل.

وقعت مسجلتي يوماً من مكان مرتفع، فأصبح صوتها أجشّاً مزعجاً. حاولت تحملها قليلاً، ثم استبدلتها بـ مشغل سي دي واستبدلت الراديو بالتلفاز والكليبات، لكنني أبقيت على الكاسيت الشاهد على حب المراهقة الموسيقي الأول.

في نهاية تلك المراهقة، وفي بداية عشريناتي، سنة ألفين وعشرة على ما أذكر، كنت أجلس في صالة فخمة، لا تشبهني أنا ورفاقي، أطالع زجاجات الويسكي المنتشرة حولنا وربطات العنق التي تراقب تعابير وجوهنا المتفاجئة، وأنتظر أن يطل ذاك الطفل الكبير بفارغ الصبر.

بعد ساعة من وصولنا ومن موعد الحفلة المقرر ظهرت فرقة من عشرة أشخاص على المسرح الضيّق الذي يتفرع منه ممر صغير مرتفع بين الطاولات. فجأة بدأت بالعزف، وتعالت الصيحات “أبو وديع .. أبو وديع”، ليظهر من بين الجموع بجسمه الضئيل.

اعتلى جورج وسوف خشبة المسرح المُصّغر أخيراً، قبّل  يديه ووضعهما على صدره ثم على رأسه، وسط هتاف الحضور الذي لم يتوقف لحوالي عشر دقائق. من شدة حماستي صعدت كرسيي الفخم، ضممت سبابتي وإبهامي في فمي، ورحت أصفر مع باقي الجمهور. كنت قد قضيت ذاك الشهر بنصف مرتب بعد أن اقتطعت نصفه الثاني لأدفع تذكرة هذه الليلة، لذا كان عليّ أن أشهر روحي وأفرح في حضرة السلطان، هكذا فكرت.

عندما بدأ الوسوف بالغناء تذكرت مسجلتي القديمة، لكن المفارقة القاسية هي أنني تذكرتها بعد سقوطها، وتأكدت أن أحدهم أوقع السلطان أيضاً من على هوة شاهقة وعطّل خامته الصوتية.

غنّى أبو وديع ما غنّاه. كان يتوقف في نصف الأغنية ليوّبخ الفرقة، أو يصدر بعض التعليمات على مسمع الجميع. يتجهّم فجأة ويحرك يديه بالهواء دون سبب، يتكلم مع الحضور ويفتح أحاديث جانبية وهو على المايكروفون، كأنه مرغم على الغناء سلف ودين.

بدأت موسيقى أغنية ترغلي. كانت عندها المفضلة لدي. قلتُ لنفسي لابأس، ستهدأ الموسيقى الآن ويرتفع صوته بموّال “ليلة وداعك بكيت النايات” الذي رافق الأغنية دائماً والتصق بها. لم تهدأ الموسيقى، وبالفعل بكت النايات. نسيَ أبو وديع الموّال، وبدأت الناس بالرقص على أنغام الترغلي وكأن شيئاً لم يكن، ولم يتجرأ أحد على سؤاله: “وين الموال يا جورج؟”

كاسيت موّال واحد كسّر الدنيا

قرر تاجر كاسيتات من حمص أن يقامر بما يملك من أشرطة فارغة على صوت طفل لم يتعدَّ الثالثة عشر من عمره. وقف يراقبه في حفلة غنائية، أخرج آلة تسجيله دون أن يعرف أحد، وقام  بتعبئة الأصوات المتفردة التي كانت تخرج من تلك الحبال الصوتية.

لم يعلم هذا التاجر أنه كان يقامر على حياة طفل سيصبح مصدر كلام الناس لسنوات عديدة. بيعت هذه النسخ بأعداد كبيرة وانتشر الكاسيت بموّال من أربعة أبيات، دون معرفة اسم المؤدي. أما الموال فاسمه حاصبيا مؤلف من أربعة أبيات، خرج بنبرة واثقة من صوت طفولي يشد أذن المتلقي من طرفها ويجبره على سماعه لأكثر من مرة.

في ١٩٧٤ بدأ اسم الطفل يلمع، فقرر أن يحمل بريقه ويغادر عائلته في عمر الرابعة عشر إلى دمشق، تاركاً أهله، ليبدأ مسيرته الغنائية الطويلة من مطعم دمشقي. من العتابا إلى الميجانا إلى كل ما كان يعثر عليه في ذاكرته من أشعار حفظها من والده الشاعر وديع وسوف، أو من جلسات الغناء التي كان يتسلل إليها طفلاً، ومن الموروثات السورية. فرد جورج صوته ليثبت مقدرته الفنيّة بتلك الخامة المميزة.

على الرغم من أن صباح فخري الذي كان في منتصف السبعينات رئيس نقابة الفنانين السوريين لم يعره أي اهتمام، لا بل طلب منه العودة إلى منزله، ولم يحركه صوت جورج أبداً، إلا أن الأخير رفض العودة، بل أصرّ على التقدم، وراح يتنقل بين الملاهي الليلية والفنادق، وهكذا كانت الانطلاقة، على جناح موّال في علبة بلاستيكية.

بعد حوالي عشرين سنة من علبة الشهرة تلك، جلس أبو وديع بزهو الطاووس مرتدياَ قميص جينز خفيف بين مجموعة صحافيين يحاورونه عن مسيرته الفنية العظيمة، وجاوب عن سؤال وجّه إليه عن ابتعاده عن غناء المواويل، حرفياً :”هالسيستيم من الغنا ماعاش غنيتو أنا”.

في حديثه عن حفلاته في أميركا قال إنه رفض مرّة في سهرة أن يغني موّال أنا مسافر يما ودعيني، معللاً أنه موّال حزين جداً سيُبكي الجميع، وهو قد أتى ليغني وينشر السعادة. قرر طبيب القلوب أن المواويل لن تداوي حرقة القلوب في الغربة، هو الذي حوّل الأوجاع إلى قوالب موسيقية.

طفل يغني كبار الملحنين ويرفث دخان سجائره

“خود الجواب من عينيا” يقترب المصوّر من عينيه زوم إن ويبتعد قليلاً، يغمض الطفل الجميل عينيه، ويسترسل بالغناء وكأنه يغني لنفسه. ثلاثة دقائق متواصلة أخرج فيها أنغام محمد عبدالوهاب من حنجرة لم يتعدَّ عمرها التسعة عشر عاماً.

انتشر هذا الفيديو في السنوات الماضية على يوتيوب، وبدأ تداوله بشكل كثيف نظراً لصغر عمر الوسوف ونقاء الصوت والصورة. عندما وجدته أرسلته لأحد رفاقي الذين رافقوني في تلك الحفلة وقلت له: ليك، الله ظهر بهيدا الطفل.

الواضح أنه كان يجلس في استوديو قديم، وأنه بدّل قميصه ليسجل أغاني أخرى، متطلبات الفيديو كليب طبعاً، ثم صرخ بطرب شديد: حيرانة ليهْ، أغنية من روائع ليلى مراد. في منتصف الدقيقة الخامسة، ينفث دخان سيجارته، يتذمر من عدم وجود موسيقى ويقول بثقة اسم أغنية نور العيون وكأنه ينطق اسم قصيدة تعلمها في الابتدائية، لا اسم أغنية طربية من ألحان محمد الأمين لا يعرفها سوى من كان يهوى الطرب في ذاك الوقت. يدندنها ليلتقط طرف اللحن، ثم يخرجها بصلابة في الصوت والأداء.

ينتقل بعدها ليغني حلاوة الدنيا التي كتبها ولحنها الثنائي بيرم التونسي وزكريا أحمد، ثم ينتهي بموشح صعب المنال يا غزال من كلمات شفيق المغربي الذي غنى من كلماته لاحقاً ترغلي، يا ومولدني وحلف القمر.

إثنا عشر دقيقة ونصف، أخرج جورج خلالها أجمل الألحان الطربية من حنجرته، وقد زاد جمالها رغم تذمره من عدم وجود الموسيقى. من يحتاج لآلة موسيقية بوجود هذا الصوت أصلاً؟ هذا الفيديو شاهد على أن ثقافته الموسيقية تأثرت بكبارالكُتّاب والملحنين في فترة الخمسينات والستينات، خاصة المصريين، مثل زكريا أحمد ومحمد عبدالوهاب، بل استطاعت خامة صوته أن تحاكي هذه الألحان براحة شديدة، وكأنها خلقت لتؤديها.

الثقافة الطربية، أو يمكننا أن نسميها المعرفة الموسيقية، بأصعب أغاني الخمسينات والستينات الطربية، رغم صغر سنه بالإضافة إلى قوة صوته في بداية الثمانينات، حيث كانت مقدرته الغنائية تتلاعب بأي نغم أو لحن بسهولة شديدة، من أبرز الدوافع لدخوله معترك الأغنية الطربية المعاصرة، إن كان على صعيد الكلمات أم على صعيد اللحن.

سنة ١٩٨٤ أطلق الوسوف أول ألبوم غنائي الهوى سلطان من إنتاج شركة ريلاكس إن لتبدأ مرحلة بلوغه الموسيقية. تعتبر أغنية حلف القمر التي كتبها شفيق المغربي ولحنها نور الملاح في الألبوم نفسه الأساس في تشكيل إنطلاقته الجماهيرية، فكانت من أسباب منحه لقب سلطان الطرب، ودخوله السوق الجماهيري بقوة.

تبدأ الكامنجات بإخراج اللحن، لتتوقف بعد ثلاثين ثانية ويرتفع عزف الآلات الإيقاعية، ثم تعود الكامنجات لتلعب دورها في ضبط الإيقاع بطريقة طربية، بعد دقيقة وحوالي عشرين ثانية، يدخل أبو وديع بصوته الرخيم الذي بدى عليه البلوغ في هذه الأغنية، ليلاغي الموسيقى، وكإنه يعطيها سبباً لتكمل التلوّن بتلك الإيقاعات.

خمسة أغاني، اختارها جورج مع حرصه الشديد على أن تكون جميعها طربية معاصرة للحقبة الفنية الجديدة، فابتعد تماماً عن أداء أي موال فيها، ولكنه استمر في غناء المواويل في حفلاته، سانداً يده على كتفها ليخرج جمال صوته، حتى بداية التسعينات.

أم كلثوم، غواية أبو وديع الكبرى

طوال سنوات الإبداع التي قدم فيها الوسوف أعظم ما يمكن أن يقدمه فنان جماهيري، ساعدته خامة صوته النادرة على التفرد بأداء أغاني أم كلثوم، حيث أدى أصعب أغانيها مباشرة على المسرح مثل الأطلال، أنا في إنتظارك، سيرة الحب، بعيد عنك، وغيرها. لا بل استعان معظم ذويقة الطرب بشرائط تحمل أداءه المبهر لأغانيها.

هنا نستطيع القول إن جورج كان ابن أم كلثوم البار وأكثر من أتقن غناءها، فهل كانت هي أكثر من أغواه بالتخلي عن المواويل لصالح الأغاني الطربية؟

يقف بكامل زهوه حاملاً عوده، يضع رجلاً على كرسي أمامه وكأنه الرجل الوحيد على المسرح، لا وجود لأحد سواه، يجاري نفسه والفرقة الموسيقية تجاري رخامة صوته، التي كانت تصيب اللحن المطلوب لأغنية ليست بالسهلة على طفل بعمر السابعة عشر كما يبدو عليه، لتعلو الهتافات عندما يصرخ: أنت عمري، متقمصاُ أداء أم كلثوم لثوانٍ قليلة.

إذاً، لقد تجلى بوضوح إرتباط الوسوف بأغاني أم كلثوم في جميع حفلاته، لكن شخصيته التي بدأت تأخذ طابعاً نرجسياً، بعد منتصف الثمانينات ونجاح ألبومه الأول، لم تسمح له أن يبقَ طويلاً تحت عباءة الست، فقرر تفصيل عباءة أخرى تستطيع أن تعطيه الطابع الكلثومي، ولكنها تعاصر حقبة التسعينات، حيث بدأت الأغنية السريعة تأخذ مكانها وقتها.

في ألبومه الرسمي الثاني روح الروح عام ١٩٩٢،  بدأ أبو وديع بالعمل مع الملحن المصري شاكر الموجي، الذي رافقه لاحقاً طوال مسيرته الفنيّة ولحن له أجمل أغانيه التي طورت أداءه.

شاكر الذي غيّر لقبه من شعيشع إلى الموجي تيمناً بخاله الملحن الكبير محمد الموجي، سطع نجمه في بداية التسعينات، ووضع لمساته على عدد كبير من أغاني هذه الحقبة. وطبعاً كونه من الملحنين المصريين، فكان عليه أن يحذو حذو بليغ حمدي ورياض السنباطي وغيرهم من الملحنين الذين سبقوه وكانوا قدوة للملحنين القادمين بعدهم.

وفعلاً استطاع الموجي العمل مع العديد من المغنين مثل أحمد عدوية وميادة الحناوي، ولكنه كان يبحث عن ضالته، عن مطرب يرتبط إسمه بألحانه ويستطيع إعطاؤه تلك الميزة التي أعطتها أم كلثوم لهؤلاء الملحنين، وأثناء بحثه عن كوكب جديد، وجد ضالته في جورج وسوف، وهكذا أكملا الحلقة سوية.

ارتبط إسم الثنائي  بالعديد من الأعمال، وقد لحن الموجي ستة أغاني من أصل سبعة في ألبوم الوسوف الثاني، تمكنت ألحانه من تسريع الإيقاع ليواكب سرعة موسيقى أغاني هذه الفترة، مستخدماً الأورغ الكهربائي وغيره من الآلات الموسيقية التي بدأت بالإنتشار.

ربما كان أكثر أعمال هذا الثنائي سطوعاً أغنية  لو نويت التي كانت من أجمل ألحان الموجي المرافقة لصوت أبو وديع، في بداية انطلاقهما.

السلطان الذي رقّص جيلاً كاملاً على أوجاعه

حافظ أبو وديع على مواضيع الهجرة واللوعة في أغانيه، ولكن ماذا يفعل أمام جيل منهك من الحروب والبكاء والنويح، إن كان في سوريا أو لبنان، حتى مصر، هل يغني له مواويل؟ مواويل ذات إيقاع بطيئ، تصيب السكارى بالحزن، وطالبي الفرح بجوع أكبر؟ طبعاً هنا لازلنا نتكلم عن مرحلة التسعينات، عندما كان لا يزال صوت أبو وديع في حالة جيدة.

كان الوسوف  مطرباً جماهيرياً، يتبع ذوق الجمهور، هذا ما قاله أكثر من مرة، لذا كان عليه أن يراعي ظروف جمهوره الإجتماعية ، فقد كانت هذه الحقبة فترة الخروج من الحروب، إن كان في سوريا أو في لبنان، وباقي الدول العربية، وكان هذا الجيل يبحث عمّا يزيح الهموم عن قلبه، أو يهوّنها عليه.

كان جيل التسعينات بحاجة للخروج من المواويل والذهاب الى الرقص على أنغام الحزن، وهذا ما فعله أبو وديع، فهو ّرقص جيلاً كاملاً على ايقاع حزين. جعلهم يتمايلون على أنغام طربية، وإيقاعات سريعة، فقد عرف كيف يختار كلمات أغانيه، يساعده فيها كبار ملحني تلك الحقبة إلى جانب الموجي، مثل  نور الملاح،  أمجد عاطفي وصلاح الشرنوبي.

في نهاية التسعينات، أطلق الوسوف ألبوم طبيب جراح، الذي نال شهرة ساحقة. تناوب على تلحين أغاني هذا الألبوم الموجي وعاطفي، لاشك أن الموسيقى كانت تواكب تطور هذا الجيل، ولكن الفضل الأول لنجاحه هو توافق الموسيقى مع الكلمات. لانه كان يقصد اللعب على مشاعر الناس، كان يلعب على فكرة أوجاعهم، بدمج الكلام الحزين مع موسيقى تحرك رغبة الرقص في أجسادهم.

بعد نهاية التسعينات، بدأ جورج يتعرض لوعكات صحية قوية، مما أثّر سلباً على صوته، والجميع يعرف تماماً كيف تحول صوت الطفل الذي غنى لوحوش الموسيقى بثقة، إلى صوت رديء، وهذا سبب آخر وحتمي أبعده تماماً عن غناء المواويل، ولم يتبق لنا سوى ذاك الكاسيت، وما نجده من بقايا ذكريات تلك الخامة الصوتية المرعبة.

خسر السلطان رهانه، وتحوّل إلى رجل هزلي، نرضى بأن يغني لنا لأننا لا نستطيع إبعاد شبح صبي المواويل، فنجلس ونراقبه بصمت.