دراسات

يا ليتني في باب صنعا | موسيقى الشرق في إسرائيل

عروبة أيوب عثمان ۱۱/۱۰/۲۰۱۷

عادةً ما تعبّر الموسيقى عن مكنون إثني وثقافي بعينه، بل إنّها لطالما اعتبرت ساحةً للتفريغ الإثني وشرعنته من واقع الصدام مع ثقافات أخرى في مجتمعات ذات فسيفساء اجتماعية وإثنية متنوّعة.[Mtooltip description=” Philip Bohlman, “Musicology as a Political Act,” The Journal of Musicology 11:4 (1993): 411-436″ /] على سبيل المثال، يمكن اعتبار الموسيقى المزراحية تأجيجًا حثيثًا لهوّية اليهود الشرقيين الذين وفدوا إلى “إسرائيل”، والذين وجدوا فيها صيغة هوياتية شعبيّة تميّزهم عن نظرائهم الأشكناز، خاصةً بعدما امتثلت الصهيونية لنفي الثقافة الشتاتية والمنفوية لليهود، حتى على صعيد الموسيقى، وشكّلت اليهودي الجديد، الإسرائيلي، الذي لم يكن ليكون شخصًا من أصول عربية أو شرق أوسطية.

تذهب بنا الموسيقى المزراحية فورًا إلى معنى الغيرية، باعتبار أن ذراعيها مفتوحتان لألوان إثنية مختلفة عن الحيّز السائد، فهي تضم المغربي، اليمني، الكردي، الفارسي، اليوناني والتركي وغيرها. لذلك، حصرتها سلطة المعرفة الصهيونية في الثقافة غير الإسرائيلية ما قبل النصف الثاني من عقد الثمانينات، بل ونحَتَت الإجابة على ذلك بتعريفها كثقافة كاسيت/ شريط، مشيحةً الثقافة الرسمية بنظرها عنها، لتسعى إلى إضفاء الشرعية على ذاتها من خلال حفلات غير رسمية وفي البارات والمقاهي والأعراس الشعبية وحفلات الحناء والطهور. اعتبرت الموسيقى المزراحية وليدة أعراس الحيّ، كما وصفت بـ ثقافة محطة الحافلات المركزية، في إشارة إلى تمثيلها للقاع والطبقات السفلى في المجتمع الإسرائيلي؛ لكنها في الآن نفسه محاولة من الشرقيين للاستئناف على تلك الصورة، وكسر التصنيفات المطهّرة مثل الحداثة والعصرنة مقابل التقليد، الشرق مقابل الغرب.

دومًا ما تسعى “إسرائيل” إلى غسل نفسها ممّا تعتبره “وصمة” وجودها في منطقة الشرق الأوسط، فإن كانت الجغرافيا مسألة يصعب تغييرها، إلا أنه يمكن – من وجهة نظرها – التحايل عليها وتخفيف أثرها عبر التنصّل من أي لمحة ثقافية تمت بصلةٍ لثقافة الشرق الأوسط أو قمع صوتها، وهو ما يفسّر النَفَس الفوقي الإسرائيلي إزاء الموسيقى المزراحية لسنوات طويلة. إلا أن “مهاجري بلاد الشام تابعوا مسار الثقافة الموسيقية الخاصة بهم، لكن من بعيد، في أروقة الأسواق المفتوحة، محطات الحافلات، والأكشاك الواهية. غالبية اليهود العرب لا يزالون رهائنَ لتراتبية الدولة. حين يهمهم المرء بألحان أم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب لدقيقة واحدة، يصبح الآخر بمثابة المحقّق. إنه استمرارٌ للاحتلال وتشويه للذاكرة وتأليف تاريخ جديد”.[Mtooltip description=” Regev, Motti and Seroussi, Edwin ,Ibd. PP 253- 254″ /] بذلك، تحول اليهود العرب إلى عيدوت همزراح، وهي فئة تدل على جماعة إثنية يهودية داخلية، في الوقت الذي بقي فيه اليهود الأوروبيون فئة لها هويتها الشرقية.[Mtooltip description=” شنهاف، يهودا. ٢٠١٦، ‘اليهود العرب: قراءة ما بعد كولونيالية في القومية والديانة والإثنية’، ترجمة ياسمين السيد، رام الله: مدار، ص ٢٤٣” /] ترك ذاك المصطلح أثرًا تقييديًا في سياق الهوّية الإسرائيلية، لأنه ينزع السمة السياسية عن الإثنية، وكأنه يصبح معادلًا موضوعيًا للقبيلة؛ أي أنّ اليهود الشرقيين يستحيلون مجرّد خلفية فلكلورية أو متحفية، لا يحقّ لهم التعبير عن موقف سياسي أو تنظيم حراك سياسي، مع عدم الاعتراف من جهة السلطة السائدة آنذاك بأن هذه الإثنية هي صنيعة أيديولوجيا سياسية وقومية في نهاية المطاف.

كانت الصهيونية قد نفت طور حياة اليهود غير الطبيعي في الجيتو، وطبّعت النمط الحياتي لليهودي الجديد، حتى من مدخل الرمز والنشيد القومي. تلك “العبرنة” كانت محفوفة بتهجينات مختلفة من الهوية الإسرائيلية، كان أبرزها ما يطلق عليها موطي ريغيف “الإسرائيلية المعولمة”، التي رافعتها السمة الأشكنازية مع انعكاسات من الثقافة المعولمة الغربية. أمّا “الإسرائيلية الشرقية”، فجُبلت في “إسرائيل” على النمط الذي ينازع وجوده الهجيني والبيني بين مفهومي الشرق والغرب، الغرائبية والأصالة، فعلًا ورمزًا. نزع السمة السياسة عن الإثنية، وتذريرها إلى طائفة.

لذلك، كان على الموسيقى الشرقية أن تشقّ طريقها من الأسفل إلى الأعلى كي تصبح معروفة، على عكس أنواع الموسيقى الأخرى التي حققت شعبيتها عبر وسائل الإعلام. اعتبرت الموسيقى الشرقية تهديدًا لطموحهم، فخوّلت الثقافة المهيمنة نفسها لتشذيب وتهذيب الشرقيين كي يحدثوا قطعًا مع ماضيهم وتراثهم وذكرياتهم بلا رجعة. لذلك، اعتبرت موسيقى الكاسيت محاكاة زائفة وهشّة للروك، وأحيانًا تهديداً له، ولم تُعَدّ ظاهرة ثقافية إسرائيلية أصليّة، علمًا أن تلك الموسيقى ازدهرت مع اختراع الكاسيت للتسجيل من قبل شركة فيليبس، وشبكة توزيع الكاسيت التجارية في محطة قطار تل أبيب، وهو ما سمح للسكان المزراحيين بتأليف وتوزيع الموسيقى الخاصة بهم داخل مجتمعاتهم، تحديدًا في الأعراس وحفلاتهم الشعبية.

لكن الصورة بدأت تتبدّل في النصف الثاني من الثمانينيات، لتشهد ردّتها العنيفة في عقد التسعينيات، بعدما أيقن البعض أن النمط الشرقي الخالص مرادف للاغتراب عن الثقافة المهيمنة، وستظلّ الأغنية المزراحية بفعله على الهامش وفي الذيل. لذلك، وقفت على منتصف المسافة بين النمطين المزراحي والإسرائيلي، وكأنّ هنا ثمّة اعترافًا مضمرًا بأنّ كليهما لا يستويان مع بعضهما تمامًا، لكن هذا الانفلات من عقال الهوّية الشرقية تدريجيًا فرّغ عنوان الموسيقى الشرقية من معناه. فماذا يعني أن أجعل من موسيقاي مرآة للثقافة الإسرائيلية الأشكنازية، وأرمي تدريجًا مقابلها نواة موسيقاي الشرقية، وأظلّ أتمسّك بذاك المفهوم؟ يمكننا ملاحظة ذلك في فرقتي تي پاكس، وإثنيك.

قد لا يكون الأمر كذلك تمامًا، إذ جاء القبوع على التماس كردّ فعل على نظرة الثقافة الإسرائيلية المهيمنة لتلك الثقافة على أنها مجرّد تلوث سمعي وبصري. لكن، ورغم بدء التصالح مع هكذا موسيقى؛ إلّا أنّ بثّها على الإذاعة كان متصالحًا مع زاوية خاصة وصورة احتكارية عن ذاك الجيتو الشرقي وتجسيداته المنفوّية[Mtooltip description=” Regev, Motti, “The musical rounds cape as a contest area: Oriental Music and Israeli Popular music”, Tel Aviv University, PP. 353″ /]، إذ كانت البرامج تحمل عناوين مثل قلبي في الشرق، ومزيج حوض البحر المتوسّط، أو نوستالجيا البحر المتوسط. يستدعي ذلك التعاطي معها بمنطق إكزوتيكي الدهشة والاستغراب من ذاك الشرق البعيد وسجونه، وذلك رغم أن أوروبا لطالما مثّلت ذروة اضطهاد اليهودي، وليس الشرق. اللافت هنا أن اليهودي حينما قرر أن يصير صهيونيًا، حاكى من كان يعتبره جلاده وتقمّصه، ليصبح أوروبيًا فقط حين حزم أمتعته وغادر أوروبا إلى “إسرائيل”، ويمتصّ اليهودي الشرقي بالمقابل كلّ شوائب “المنفى” تلك. ترتبط هذه المسألة بتطويع سلطة الخطاب الإسرائيلية الموسيقى المزراحية إلى قضايا نظرية، مثل التصوّرات حول الهوية الثقافية، والحدود الاجتماعية للمنتجين والجمهور، فضلًا عن المواجهة بين المركز والأطراف، بل وصراع الطبقات ودور الجماهير في مجتمع متعدد الثقافات.

تتفرّع الموسيقى المزراحية إلى عدّة أنماط؛ وهي الديوان اليمني، أيّ نصوص ذات سياق مقدّس كتبها الحاخام شلوم شابازي على أنغام يهودية تقليدية، أو من أنغام يمنية إسلامية مستعارة. أمّا العبرية اليمنية، فهي نصوص عبرية محمولة على أنغام إسلامية يمنية أو يهودية تقليدية، لكن في سياق علماني. ثمّة نصوص مشرقية أو شمال أفريقية مع أنغام يهودية أو عربية، فضلًا عمّا تعرف بـ Piyyutim، فهي مجبولة على نغمة يهودية أو شمال أفريقية إسلامية في سياق مقدّس. كما أن ثمّة أغانيّ إسبانية، وإيطالية، ويونانية، وتركية كذلك، لكن مع محتوى عبري يعقد تناصًا مع المحتوى الأصل، عدا عن أنّ هناك تكيّفًا مزراحيًا مع “أغاني أرض إسرائيل”، ذات أنغام روسية أصيلة أو شرق أوروبية.[Mtooltip description=” Horowitz, Amy. 2010, “Mediterranean Israeli Music and the Politics of the Aesthetic”, Detroit: Wayne State University Press, PP. 61″ /]

يقاوم الشرق محاولات تجميده وجعله رتيبًا سهلًا للدراسة. هو ذو هوّية سيولية، يُفتتن به أحيانًا باعتباره رمزًا للأصالة والعبق العتيق والانعتاق الحتمي من تكلفة الحداثة والتجديد، ويُرمى خارج المكان والزمان أحيانًا أخرى، باعتباره الوعاء الأيديولوجي الذي يحتمل كل سرديات التخلّف والرجعية. هكذا، افتتن المستشرقون الأوروبيون بالموسيقى الشرقية في فترة اليشوف ما قبل بناء “الدولة”، وتحديدًا الأغنية اليهودية اليمنية. نظر أولئك المستشرقون إلى المغنية اليهودية اليمنية زيفيرا، آنذاك، بأنّها تجسيد للنبيل الأصلي الذي لم يكن في حلٍّ من مهد الحضارة اليهودية القديمة. سعى الموسيقيون الأوروبيون إلى صوغ توليفة تجمع بين الشرق والغرب في ثقافةٍ إسرائيلية طارئة، غير أن هذه السردية الكبرى عادةً ما تكون غائبة عن سردية الموسيقى الإسرائيلية. سار على درب زيفيرا كثيرون، مثل سارة ليفي تناي، حنا أهروني، شوشانا دماري، واستير جامليليت في فترة اليشوف، ولاحقًا أهوفا أوزيري وOfra Hza في عقد السبعينات.[Mtooltip description=” Regev, Motti and Seroussi, Edwin. 2004, “Popualr Music and National Culture in Israel”, PP. 196″ /] صعدت الأغنية اليهودية اليمنية مع البولندي موشيه فيلينسكي الذي حطّت أقدامه أرض فلسطين عام ١٩٣٢، ليؤلّف أغانيَ حملت عنوان كروم عنب اليمن ومريم ابنة المعجزات، والبساط السحري التي جاءت للاحتفاء بهجرة اليهود اليمنيين عام ١٩٥٠.[Mtooltip description=” Ammon Shiloah, Erik Cohen, “The Dynamics of Change in Jewish Oriental Ethnic Music in Israel”, Society of Ethnomusicology, University of Illonis Press, May 1983, PP.229″ /]

رغم بروز العراقي عزرا أهارون، والمغاربي رحاميم عمار كأيقونات موسيقية شرقية في اليشوف، إلا أنّ الثقافة اليمنية كانت الأكثر جاذبية وطغيانًا. يعزى الأمر، بحسب موطي ريجيف، إلى أن النخبة الصهيونية الأشكنازية تفاعلت مع هذه الثقافة باعتبارها الرمز القبلي والجيني اليهودي، بل وتحمل بين يديها عناصر توراتية هائلة لا يمكن أن تلوّثها أيّ تأثيرات عربية. بمعنى آخر، تم رمسنة هذه الثقافة، والتعامل معها بشكل متحفي وفلكلوري، بل وكرنفالي بحت. ينظر إلى هؤلاء اليهود في الخطاب الصهيوني بوصفهم عنصرًا أصيلًا من المجتمع القومي، وبوصفهم تعبيرًا عن أسسه البدائية الأولانية. كانوا يخضعون، من جانب آخر لنظرية معرفية كولونيالية، جرت شرقنتهم وعرقنتهم ضمنها.

في نفس الوقت، تمتلئ القريحة الشعبية اليمنية بأغان تعبّر، على نحو تلقائي، عن ثيمة الوطن، فلا تزال صنعاء حاضرة في أغاني اليهود اليمنيين في “إسرائيل” حتى يومنا هذا؛ ومن بين تلك الأغاني[Mtooltip description=” شعبان، محمد. ١٦. ٩. ٢٠١٦، (رغم هجرتهم الجماعية إلى إسرائيل، يهود اليمن يحيون تراثهم الغنائي)، رصيف ٢٢” /]:

يا ليتني في باب صنعا داخلي

واشل محبوبي يسلي خاطري

والله القسم هالنجمة ما تنفعك

وما ينفعوك أهلك

ولا دولة تقوم في حجتك

وارجم بروحي فوق روحك

حتى على الله ما نعدمك

ومن أغاني الغربة والحنين إلى الوطن، التي لم تستطع الثقافة الإسرائيلية إلى الآن إلغاءها من وعي يهود اليمن، هذه الأغنية:

يا ريتني طيروا

وأهلي للباب وا

يا طير سارح سلم على الأهل

أمّا في الخمسينات، فكتمت البرمجة الإذاعية الإسرائيلية صدى الموسيقى الشرقية، أو كان يتم استحضاره حصرًا في برامج الفلكلور الإسرائيلية الإذاعية، لكن كان جو عمّار المغني المغاربي الأكثر شهرة في ذاك الوقت في أغانيه، مثل سلامٌ لابن عمي، وأغنية السُكْر، وليالي الصيف. مع ذلك بقيت هذه الأغاني في اتجاه واحد؛ مرسل ومتلقٍ من نفس الطائفة الشرقية، ولم يكن قد تمّ بعد أيّ اختراق حقيقي لهذه الثقافة الموسيقية إلا على يد اليوناني أريز سان الذي جلب معه موسيقى الريبتكو واللايكو (نسخة منقحة عن الريبتكو)، وغيرها من الألحان الشرقيّة. يرجع ذلك إلى أن “علاقات سان ونفوذه المتنامي في الأوساط الفنية أيضًا سمحت له باتخاذ خطوة أكثر جرأةً وأهمية، وهي إدخال ألحان وإيقاعات شرقية صريحة في مقطوعاته وأغانيه، بل والوصول بها إلى أجهزة الإعلام الرسمية والتلفاز والإذاعة وشركات الإنتاج واسعة الانتشار. بعيدًا عن لغز حياة وموت سان، ما هو مؤكد هو كونه قد “لعب دورًا جوهريًا، دون قصد غالبًا، في ولوج موسيقى اليهود من أصول شرقية إلى الحيز الإسرائيلي العام. يبدو أن جاهزية سان الاستثنائية للعب ذلك الدور ترجع لكونه ليس يهوديًا، وبالأخص ليس شرقيًا. بالطبع كانت هناك عوامل سياسية واجتماعية أكبر وأعم. استقرار المشروع الصهيوني وتوسّعه خاصة بعد النكسة، ولاحقًا باتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية، ثم مسارات السلام مع الفلسطينيين، منح النخب الإسرائيلية شعورًا بالأمان، لطّف من حساسيتها الأيديولوجية تجاه التأثيرات الشرقية، وعزز من ثقتها في قدرتها على احتواء موسيقى وثقافة التشريق. عبر إذابتها ثم تسليعها وترويجها، بدلًا من منعها ومحاصرتها كما في السابق.”

إن مصطلح موسيقى المتوسط الذي تم صكّه لهذه الموسيقى المنبوذة، من أجل تخفيف وطأة نسبتها إلى الشرق، فيه من الواقع بقدر ما فيه من المجاز. هو مجاز عن الإدراك المتنقّل للذات، تدمير الهوّيات الحادّة، وتحدٍ لسلسة الرموز الصارمة.[Mtooltip description=” Edwin Seroussi, “Yam tikhoniyut: Transformations of the Mediterranean in Israeli Music,” in Mediterranean Mosaic: Popular Music and Global Sounds, ed. Goffredo Plastino (New York and London: Routledge, 2003 (Perspectives on Global Pop)): 179-198; idem, “‘Mediterraneanism’ in Israeli Music: An Idea and its Permutations,” Music and Anthropology 7 (2002), at http://www.levi.provincia.venezia.it/ma/index.htm” /] لكن هذا الغموض في المصطلحات، والتحفّظ، والإعاقة تعكس برمتها عنصر الإزاحة للحدود نفسها، فاللغة في الحقيقة ليست جاهزة بعد لهكذا تغييرات اجتماعية.

المعبروت في وجه المدينة

اعترت ازدواجية فجّة الموسيقى المزراحية بحدّ ذاتها، فهي من جهة كانت تنازع على شرعية هوّيتها الخاصة بين النحن والهُم، ومن جهة أخرى كانت تحاول الانعتاق نحو حلم النظر إليها على أنّها موسيقى إسرائيلية. بذلك، يرى ريجيف أنها كثيرًا ما استحالت غربية، لكنها كانت مكسوَة برموز وألوان عرقية، إذ كانت تقع شرقيّتها على الحياد.[Mtooltip description=” Regev, Motti and Seroussi, Edwin. 2004, “Popualr Music and National Culture in Israel”, PP. 201″ /]

اتبع الموسيقيون من اليهود الشرقيين استراتيجيتين متوازيتين؛ أولهما بدء شكنزة الأغنية المزراحية، بمعنى تغريبها عن بيئتها، والتي تمّت على يدي حاييم موشيه، وثانيهما الإبقاء على هذا الصوت الشرقي، والذي صعد مع زوهر أرجوف. الحيلة الأولى مردّها إلى لعبة الاستيعاب والإقصاء التي جعلت من الشرقي شخصًا يعود ولا يعود إلى الإسرائيلية في آن، كواحد منا لكن ليس مثلنا. في هكذا موقف، حاولت المزراحية بناء سياسات من الدمج.[Mtooltip description=” Ibd, PP. 209″ /]

مع اليمني حاييم موشيه، برزت ثيمات منوطة برموز المجموعة الشرقية، مثل الأم، الحيّ، الشعب اليهودي، بل لدرجة أنّه انفتق ثمّة تداخل مع ما تعرف بـ “أغاني أرض إسرائيل“، التي اعتبرت بوجه الموسيقى المزراحية ما تسميه الباحثة حدودًا ثقافية متنازعًا عليها. اتجه موشيه نحو البوب الإسرائيلي السائد في الثمانينات، بعدما كان محمّلًا بهوّية شرقية غنائية محض عام ١٩٨٣، تحديدًا في أغنيتي ليندا ليندا بصيغتها اللبنانية، وحبّ حياتي المخضبّة باليمنية. يقول ريجيف إن ذاك الانفتاح على الآخر مكّنه من إحياء حفلات متلفزة، وفي الكيبوتسات، وحتى “يوم الاستقلال” ١٩٩٠، بل إنّه قدّم أغانيَ شرقيةً محايدة رمادية، وطلب من أشكناز تلحين بعض من أغانيه. كلّ ذلك حدا ببعض الصحف إلى عنونة مقالاتها بـ “من فريد الأطرش إلى نعومي شمير“، “حاييم موشيه غيّر الاتجاه”، و”حاييم موشيه بين الأبيض والأسود”، و”جمهور موشيه يتهمه بشكنزة نفسه، وخيانة جزئه الأصليّ”.[17]

يرى الباحث إدوين سيروسي أنّ الأغنية المزراحية في مرحلة دائمة من إعادة التكوين، وهو ما يفسّر وصمها بالمرحلة الأولى بـالموسيقى الإثنية الإسرائيلية، لتستحيل في المرحلة الثانية موسيقى المتوسّط الإسرائيلية، بيد أنّ هذا التوتّر على تخوم الموسيقى المزراحية، حيث العبور المتكرر لهذه الحدود لم تفشل فحسب في تحديها، بل كّرستها وعقلنت واقعها.[Mtooltip description=” Seroussi, Edwin, “Music in Israel at Sixty: Processes and Experiences”, Lecture, Hebrew University of Jerusalem, PP. 4″ /]

فيما رقصت المغنية اليمنية مارجليت تصنعاني – التي تؤدّي أغانيَ مثل حبيب زكريا وأب شمعون – بين خطوط “إسرائيل” الإثنية وتقسيماتها الطبقية. غرست تصنعاني أقدامها في الدائرة الأشكنازية دون أن تفسخ علاقتها مع جذورها العربية اليمنية. بمعنى آخر أكثر تكثيفًا، تناوبت على ارتداء القناع وإخفائه دون أن تحسم أمرها في أي صِنافية، إذ إنها حينما دعيت لبرنامج على التلفزيون الإسرائيلي، وقتما كانت تشقّ طريقها إلى النجومية، حاولت المذيعة ريفكا ميخائيلي “تعريفها بلغة حذرة، تتحلّى باللباقة السياسية، إلّا أن تصنعاني قطعتها وعرّفت نفسها بأنّها “مغنية أعراس مستعدة للغناء في كل مكان: الأعراس وأمسيات البارميتسفاه، الطهور، الحناء، الحفلات، دون تمييز. المهم من يدفع“، بل عمدت للقول باللغة العربية “أشكرا خبر”، مُردفةً ذلك بالقول: “أنا مغنية أعراس، ولا أشعر بالعار.” هنا، يتضّح كيف أن منظومة اللغة الرسمية محكومة بغسل يدها وصورتها من أيّ عنصرية قد تُلحق بها، ورغم أنّها تعبّر حقيقةً عن سلطة المعرفة الاستعمارية، إلّا أنّ القلق كان يساورها في الآن ذاته في موضعة مارجليت وأمثالها في قالب هوياتي محدّد. رغم أن تصنعاني أدّت ٣٦ أغنيّة تصنّف ضمن التيار السائد، فضلًا عن أغانٍ أخرى تتحاور مع التوراة، مثل اسمعي يا شمسي التي انفتحت بها على سفر الأمثال، إلّا أنّ اللافت أنها ظلّت بريئة من تهمة الشكنزة التي لحقت بنظيرها حاييم موشيه. تقترح الباحثة آمي هورويتز أسبابًا عدّة وراء ذلك؛[Mtooltip description=” Horowitz, Amy. 2010, “Mediterranean Israeli Music and the Politics of the Aesthetic”, Detroit: Wayne State University Press, PP. 81″ /] أهمّها أنّ المرأة أكثر قدرةً على امتطاء الحدود وفسخها، بل وعبورها دون تهديد الوضع الراهن، وربما أيضًا فقدان الرهان عامةً على النساء لقبوعهن في وضع اجتماعي أدنى. تختزل الباحثة ما سبق بقولها أن موشيه وتصنعاني تمكّنا من العبور لكن لن يتمكنا أبدًا من الدخول، حسب وصفها، ما يربك التصنيفات الظاهرة المرئية، ويخلق حيزًا ثالثًا.[Mtooltip description=” Ibd. PP. 82″ /]

في المقابل، كانت الصورة لدى اليمنيين زوهر أرجوف وأفنير قداسي تكشف عن أسرارٍ مختلفة تمامًا عمّا سبق. خرج كلٌ منهما إلى الضوء الدنيوي في المعبروت وأحياء التطوير. المعبروت هي المخيمات التي أقامتها “إسرائيل” لاستيعاب اليهود القادمين الجدد إليها، خاصةً من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والناجين من المحرقة في أوروبا. عومل هؤلاء اليهود بازدراء وقسوة في هذه المخيمات من قبل الأشكناز.

اضطر أرجوف للعمل في سن الثالثة عشر كعامل بناء لإعالة أسرته المكوّنة من عشرة أفراد. هذا الغبن التاريخي حدا به إلى العضّ بنواجزه على النمط الموسيقي المزراحي وعدم الجنوح نحو التعديل عليه أو تذويبه في البوب والروك الإسرائيليين، إذ اعتنق الوصمة نفسها. فكان أبًا روحيًا وشرعيًا لما يطلق عليه Heavy Oriental (شرقي ثقيل)، مفعمة بثيمات اللوعة والهجران وكسر القلوب والموت، وحتى فلسفة الحياة[Mtooltip description=” Israeli Music and Israeli Oriental Music”, 17 August 2015, http://funhebrew.com/2015/08/17/israeli-music-and-israeli-oriental-music/” /]. لا يمكن إغفال أن المعبروت خلقت طبقة إثنية متجانسة، منغلقة على ذاتها، إذ إن استيعاب اليهود الشرقيين فيها خلق فيما بينهم صيغة موسيقية مشتركة ترجع إلى جذورهم، وتتشارك الهمّ ذاته. وضعت هذه المسألة الحجر الأساس للائتلاف بين الجمال والسياسة، على اعتبار أن ما سُميت بسياسة الجمال لموسيقى شرق المتوسط نابعة من حقيقة أن النقد والمستمعين يمتلكون نطاقًا مختلفًا لقياس ما الذي يمكن أن يجعل شيئًا ما صنافية بعينها.[Mtooltip description=” Horowitz, Amy. Ibd, PP 82″ /] تعيد سياسة الجمال التفكير في العلاقة بين الفن والسياسة، وتستعيد كذلك الجمال من الحدود الضيقة. تُكشف بذلك الصلة الجوهرية بين الأمرين بتبيان القواسم المشتركة، وترسيم حدود مرئية وغير مرئية، المسموع وغير المسموع، ما يمكن تصوره وما لا يمكن تصوره، الممكن والمستحيل.

صحيح أن عمر أرجوف الفني كان قصيرًا (١٩٨٠-١٩٨٧) إلا أنه كان زاخرًا وعنيفًا في آن، إذ ما ميّزه وعيه النشط بعدم التطلّع إلى اكتساب شرعيته من وسط الجمهور المهيمن، والاعتراف به، إذ إن سياسة الهوّية هنا محصورة في الاعتراف بالذات ليس إلّا. لكن بطبيعة الحال لا يعني ذلك صراعًا ضد التمثيل الصهيوني والإسرائيلي في الموسيقى، بل تنازعًا عليه في الأحقية والجدارة، وبناءً على سرديات أخرى أنثروبولوجية. حقّق أرجوف نجاحًا كبيرًا في أغنيته الوردة في حديقتي، لتكرّ المسبحة بعد ذلك ويعيد النجاح في أغانِ مثل يوم يوم، وتمرّ السنون، ووحيد، وأن أكون إنسانًا، وأجلس لوحدي، لِمَ لا؟

لم يعبر نجاح أرجوف من الأسفل إلى الأعلى، بلّ ظلّ وفيًا لجمهوره الشرقي. قال في إحدى مقابلاته: “ماذا ينقصني؟ دفء! ها أنا أعيش لوحدي في تل أبيب. ليس لديّ أصدقاء. لدي مرسيدس وشقّة مع (جاكوزي). أحيانًا أوقف سيارتي عند إشارة المرور، لتبدأ الناس تصدح بوجهي ’أنت كبير الآن، فعلتها.’ أريد أن أجزم أن روحي لم تتغيّر”.[Mtooltip description=” Regev, Motti and Seroussi, Edwin. 2004, “Popualr Music and National Culture in Israel”, PP. 219″ /] صحيح أن أغانيه حققت شهرة واسعة، وكسب ماديًا من وراء ذلك، وانتقل للعيش في تل أبيب، لكنه لم يتنازل عن الأغنية الشرقية أو يدمجها مع البوب أو الروك، ليستحق بذلك لقب ملك الغناء المزراحي. أغمض أرجوف جفونه وأسدلت الستار على حياته في السجن، إذ انتحر بعدما اتهم بتعاطي المخدرات، لتصبح تلك اللحظة بمثابة لحظة وعي وطني بموسيقى أرجوف، بل بات الاستماع إلى موسيقاه ضربًا من الموضة حتى من قبل الجمهور الأشكنازي نفسه الذي لم يعره الاهتمام وهو على قيد الحياة، إذ أحيت فرق الروك الإسرائيلي بعضًا من أغانيه فقط بعد موته. ربما كان هذا الموقف نابعًا من صورة تعاطفية بحتة مع نهاية أرجوف التراجيدية، وليس منح أغانيه شرعية حقيقية.

عادةً ما يُصوّر الباحثون الإسرائيليون من المؤسسة المهيمنة فترة التسعينيات على أنها الفترة الذهبية لبدء صعود الأغنية الشرقية، لكن التقاط صورة بانورامية لتلك الفترة يبيّن لفظًا نسبيًا لتلك الموسيقى أنفاسها، إذ تمّ تسخيفها وتحويلها لعروض مثيرة للسخرية، بوب تجاري مع قليل من النكهة الشرقية، إذ إنّ أيّ انفصال بين المستوى الثقافي والمستوى الاجتماعي/ السياسي ومحاولة تجميل المستوى الأول والتخفيف من الشروط التي تبقيه لاشرعيًا بنظر الخطاب المهيمن، هو بالضرورة ليس إلا استمرارًا لبنية القمع، مثل نجوم الهيب هوب السود الأمريكيين الذين لم يمنع انتشارهم الثقافي ومحاكاتهم موسيقيًا من أن تخترق رصاصات رجال الشرطة صدورهم. تنسحب هذه المسألة على المغنين من اليهود الشرقيين، الذين حاولوا اللحاق بركب الإسرائيلية المعولمة على الصعيد الموسيقي، لكن ذلك لم يغيّر كثيرًا من موقعهم الطبقي، ولم يمنحهم شرعية سياسية إضافية داخل المنظومة الصهيونية، ليتضح أنّ الصراع الأساسي بين اليهود الشرقيين والغربيين هو صراع على الصهيونية وأهلية تمثيلها، وليس صراعًا ضدها بالمطلق أو اتخاذ موقف جذري إزاءها.

تعاملت النخبة اليمينية الجديدة مع الشرقيين وموسيقاهم من خلال ذاك الانفصال وسياسات الهوّية. لم يكن المغني الشرقي إيال جولان الوحيد الذي عبر إلى البوب والروك الإسرائيلي والتيار السائد، بل عمير بنيون وسيريت حداد أيضًا، علمًا أن حداد تغنّي باللغة العربية أيضًا. هذه المسألة أسماها موطى ريجيف عبور حدود “Rockization, Popization”، والاستحواذ على الموسيقى الشرقية من قبل الإسرائيلية المهيمنة.[Mtooltip description=” Regev, Motti and Seroussi, Edwin. 2004, “Popualr Music and National Culture in Israel”, PP. 233″ /] اعتبر ذلك أحيانًا مكيدة سياسية ضد نزع الإثنية، وتفكيك الموسيقى المزراحية.

الذاكرة اليهودية على ضفاف دجلة

للمطربة العراقية الراحلة سليمة مراد أغانٍ تقع على تخوم بغداد، بل يمكن القول إن الذاكرة العراقية ومآلاتها غير منفصمة عن أغنياتها. إن الطابع الغنائي الشجي لصوت سليمة مراد التي أرّخت بأغنياتها لحقبة من حياة بغداد، خصوصًا في أغنياتها ذات الوزن الإيقاعي العراقي (الجورجينه) مثل مو إنصاف منك، أو الهجر مو عادة غريبة أو قلبك صخر جلمود وغيرها،[Mtooltip description=” Iraqi Traditional Music Revisited in a War Era, Al- Jadid, Fall, Vol (10), No (49),2005″ /] التي تشكل وثيقة لحقبة زمنية قريبة توشك الحروب على اقتلاعها من الذاكرة؛ حقبة حياة الطرب العراقي، وحياة الليل وجماليات التعبير الأدائي قبل وبعد انتصاف القرن العشرين. هذا النوع من الأغنيات الذي عبَّر يومًا عن هموم معاصرة وواقع وبيئة، باجتماع التعبير الغنائي والشعري واللحني في آن، يعطينا تصويرًا مفصلًا عن التسلسل التاريخي للحياة البغدادية بشكل خاص، وعن التطور الأدائي للأغنية العراقية المتنوعة في حياتها المدينية (كباريهات ونوادٍ ليلية وحانات وسواها) ودلالات هذه الأنواع وتلك الأماكن.

يذهب بنا المقام البغدادي بإيقاعه الجورجينه إلى سبيكة عراقية بحتة، وكأنّ الفطرة العراقية تصهر المركّب الأدائي والتأليفي والتلحيني للأغنية. يمكن القول إن مراد ضرب الحظ معها موعدًا، إذ إن أغنياتها لم تصبح طي النسيان كما حدث مع كثير من مغنين وملحنين عراقيين يهود حاكوا بأناملهم وحناجرهم معنى العراق في الفترة بين ١٩٣٠- ١٩٥٠. يتحدث الناقد العراقي حسين السكاف عن عقد لجنة فحص التراث الموسيقي عام ١٩٧٣. كلّف صدام حسين الذي كان يشغل منصب نائب مجلس قيادة الثورة، الموسيقار منير بشير ومحمد سعيد الصحاف الذي كان يشغل منصب مدير الإذاعة والتلفزيون بـضرورة جردهم للأرشيف الموسيقي والغنائي للإذاعة والتلفزيون، والاحتفاظ بالجيد، وحرق الرديء. كان السبب سياسيًا بحتًا، لكنه حمل في داخله طبقات قمعية تنكر الذات اليهودية، بل وتشوّه هويتها الموسيقية وتضعها تحت خزين فلكلوري وتراث مقامي مجهول الهوّية، لمحوّ أيّ وجود فعلي ورمزي لعمالقة موسيقيين يهود لحّنوا أغاني مراد، مثل الأخوين صالح الكويتي وداود الكويتي، يوسف زعرور الكبير، سليم زبلي (النور)، كما لحّنوا لزكية جورج، ومنيرة الهوزوز، وسلطانة يوسف، وبدرية أنور.

مراد التي كانت تعتبر إحدى قمم الغناء العراقي آنذاك، لدرجة أنها أول امرأة اكتسبت لقب باشا، سلمت من محو أغانيها، لأنها انتقلت إلى مصافي الهويّة الإسلامية بعد زواجها من ناظم الغزالي. بجانب ذلك، لم تغادر مراد العراق فترة هجرة اليهود العراقيين إلى “إسرائيل”، حينما كانت حيلة إسقاط الجنسية العراقية عن اليهود مطية لإجبار يهود العراق إلى الرحيل هناك. نكون بذلك أمام سيرورتين متتاليتين لنفي هذه الهويّة اليهودية المشرقية على صعيد الموسيقى والثقافة؛ أوّلهما على يد الصهيونية الأوروبية، وثانيهما على يد دولة عربية؛ يصبح العراقي اليهودي فيها ممزّق الهوّية وهجين الظلّ حتى، وهو ما عبّر عنه صحافي في هآرتس بالقول: “صالح الكويتي من ملك القصر في بغداد إلى الجيتو في الموسيقى المزراحية”، وإنّ “الرفض كان داخليًا وخارجيًا، إذ كان يؤلم الشقيقين الكويتيين محوُ بصمتهما الفردية واسميهما من الأغاني التي لحّناها على الشاشات العربية.”

البادية بعيون زهافا بن

يقول جيل إيال إن التعبيرات الأكثر إيجابية كانت استشراقية أيضًا، بالمعنى المتداول للاستشراق لدى سعيد: أي نمطية، وجوهرانية، واستعلائية تنسب إلى شرق متخيّل رومانسي أكثر من انتسابها إلى واقع ثقافي ملموس، أو إلى طموحات حقيقة لساكنيه.[Mtooltip description=” إيال، غيل. ٢٠٠٩، ‘نزع السحر عن الشرق’، ترجمة حسن خضر، رام الله: مدار، ص ٥٦” /] تكوّنت التجربة الصهيونية في الشرق من أضداد في وقت واحد: ماهية وعدمها، ركود وتدفق دائم، أبهة قديمة وكينونة تافهة وعابرة، هوية واضحة وفوضى شاملة.

كانت المحاكاة اليهودية لثقافة البادية نوعًا من ترميم الروح، وكنقيض للحياة اليهودية في الدياسبورا، على اعتبار أن البادية هي الروح الشرقية الآخروية الخالصة، والصورة الجذرية التي لا تنطفئ مع الزمن، بل اغتسالًا للذات من شوائب المنفى. كانت محاكاة هشّة وزائفة كوسيلة للتطهير، لطمأنة الذات الصهيونية إلى أصالتها. ما يدلّل على ذلك هو أن “إسرائيل” بعثت بمن ترى فيه مشروع مُستعرِب إلى الصحراء، بهدف تحويله من عبء يهودي غير منتج في الشتات إلى آخر أكثر اتكالية على ذاته، على اعتبار أنه سيكون للبادية وما تحمله من ثقافة الشقاء والنحت في الصخر أثر إيجابي على تقويم سلوك ذاك اليهودي الآتي من الخارج، وفي حوزته مشروع مستعرب.

نرى كثيرًا من ذلك في كليب أغنية إنت عمري لأم كلثوم، التي أعادت اليهودية المغربية، زهافا بن، غناءها. تجلس بن في خيمتها في البادية العربية، مرتديةً لباسًا بدويًا تقليديًا من رأسها حتى أخمص قدميها، وتغنّي “رجعوني عينيك لأيامي اللي راحوا.” في الأغنية خلفية بصرية نسائية سوريالية نوعًا ما، إذ تعزف جوقة من النساء على الجيتار، وهي ترتدي الخمار، وتؤدّي واحدة منهن حركات راقصة فوضوية. في الخلفية أيضًا جِمال وأراضٍ شاسعة ورجال يعتمر بعضهم الكوفية الفلسطينية، وآخرون يرتدون اللباس البدوي المتعارف عليه. تتبادل بن من تحت القناع (البرقع) نظرات الحبّ مع شاب بدويّ، وحين يهمّ بالكشف عن وجهها وتقبيلها، يراه كلّ من شقيق بن ووالدها الذي سرعان ما يحمل السلاح ويقتله.

اللافت في هذه الأغنية أنّ بن استنسخت المفهوم الصهيوني للاستشراق، والذي لطالما كسر القلب الشرقي نفسه، ليدل ذلك على أن الثنائية بين العربي واليهودي رجعت لتحمل توقيع اليهودي الشرقي نفسه. ذهبت بن إلى أسوأ صورة يمكن إسقاطها على الشرق، واحتكار الأخير كمنبع للعصبية القبلية والتخلّف والقتل. صورة تتماهى تمامًا مع بعض من أفلام هوليوود الاستشراقية، الرجل الذي لا يزال يمتطي جملًا في القرن الواحد والعشرين، العالق في طبقات الماضي البعيدة والكثّة. ما فعلته بن هو أن شرقنت وعرقنت نفسها ضمن ذات النظرية المعرفيّة الكولونيالية. لا يمكن أن نعتبر الكليب مذهبًا رومنطيقيًا أو نوستالجيًا بالحنين إلى الماضي العربي، كون الحنين دومًا ما يشترط استلهامًا إيجابيًا من الماضي.

أطلقت بن التي لُقبت بـ أم كلثوم إسرائيل ألبومًا يحمل عنوان زهافا بن تغني بالعربي عام ١٩٩٦، والذي ضمّ أغانٍ لفيروز وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ووردة ووديع الصافي وفريد الأطرش وعمرو دياب ونجوى كرم، وصُوّر على أنه يهدف لتجسير المسافة بين “إسرائيل” والشرق الأوسط تحديدًا في فترة التسوية في التسعينيات. تعبّر الباحثة لورا لوهمان[Mtooltip description=” Lohman, Lura. 2010, “Um Kulthum: Artistic Agency and the Shaping of an Arab legend 1967- 2007”, Middletown, Connecticut, Wesleyan University Press, PP 163″ /] عن تعاطي بن مع تلك الفكرة، بالقول: “زهافا مزراحية، كما أم كلثوم مزراحية. ليست مصرية أو مغربية أو سورية”، وكأنّ الانتماء هنا إلى شرق هلامي، منزوعٍ من بيئته ومكانه.

أنا فريخة

قد تكون كلمة فريحة مستمّدة من الكلمة العربية التي تعني الفرحة، إذ تُمنح في الغالب للمرأة المغربية، بمعنى أن هذه الأخيرة تستحيل أداة للفرح المجاني وعنصرًا معوّلًا عليه في اقتصاد الترفيه. تم توظيفها في “إسرائيل” في حقبة السبعينات، وقد جاءت تسمّ علامات وصفات ثقافية محددة: نساء شابات، همجيّات وغوغاء، كلام غير منمق، ملابس رخيصة، سلوك متوهّج، تساهل جنسي، تفكير تبسيطي، ولغة جسد مميّزة ومغرية.[Mtooltip description=” Bliboim, Rivka. Paper “I have no head for long words” The Linguistics representation of the Frecho in the Israel Media”, PP 280 31″ /]

في السنوات الأخيرة، خاطب كلّ من الكتاب والشعراء والمسرحيين والرسامين صورة الفريخة، كما تمّ ترجمة المبدأ في الإعلام الإسرائيلي بطريقة فريدة، إذ حتى على صعيد النكتة المتلفزة كانت الفريخة البضاعة الأكثر رواجًا،[Mtooltip description=” Shifman, Limor. The Ars, the Frecha, and the Polish Mother: Discussing Social Clefts in Israel Television Humor. Jerusalem: Magnes, 2008″ /] حتى من “العرص” الشرقي. وبالرغم من أن المصطلح له ارتباط إثني بالمرأة المغربية خاصةً، لكنه في الحاضر بات عابرًا للأعراق والإثنيات، إذ تتحوّل المرأة التي تمتلك خصائص نطق قريبة من المزراحية إلى فريحة؛ بمعنى أن الأخيرة هي ظاهرة لغوية قابعة في منظومة اللغة الرسمية، وغير الرسمية أيضًا التي تسعى ضد سيطرة فئات اللغة المعيارية وتزعزع وجودها المستقل والنقي. إنها تنشط في المناطق الحدودية والهوامش غير المعرفة اصطلاحيًا.[Mtooltip description=” يوفال، عبري. ٢٠١٥، الغرائبية الأصلية، مجلة قضايا إسرائيلية، رام الله: مدار، العدد ٥٨، ص ١٠٢” /]

عبرت إيرينا الروسية الإسرائيلية في مسلسل البرلمان إلى الفريخة، إذ إن لكنتها الروسية القويّة كانت تخترقه تعابير وكلمات عربية. باتت الفريخة بذلك نموذجًا يحمل كمًا لا بأس به من التندّر على الشاشات الإسرائيلية، بل تحوّلت إلى مشكّل هوياتي. أيضًا، كون الاسم يخوّل غير المزراحيين إلى التصنيف الحتمي نحو الفريخة، جنح كثير من اليهوديات الشرقيات إلى تغيير أسمائهن وتمويهها لإزاحة تلك الوصمة من حياتهن. أن يصنف المرء فريحة يعني ذلك الانفتاح على صور نمطية من العجز عن الفهم أو لفظ الكلمات السامية. تعيش الشرقية بذلك في اختبار مستمر لهويتها الإسرائيلية، إذ إنّ الاختلاف في لفظ كلمات OOGA، أو لفظ اسم لايمور بدلًا من ليمور من شأنه أن يكشف هوّيتها الحقيقية. هكذا، تستحيل اللغة مجالًا خصبًا للتصنيف واختراع الهوّيات، بل وتصبح الشرقية ذاتها منفصمة مع ذاتها. لكن حينما تفضحها لغتها، رغم كلّ محاولات الطمس والتستّر، تبدأ فورًا بالرجوع إلى قواعدها وتخلع القناع.

تعاملت المغنية اليهودية اليمنية عوفرا حازا مع المسألة بطريقة مختلفة، إذ أعلنت بكلّ فخر في أغنية الفريخة أنّها فريخة، وأنّ ثمّة مكانًا لها، لكن ليس لديها جَلَد على التفوّه بالكلمات الطويلة: “أينما ستأخذني الأضواء / سأكون هناك بطلاء الأظافر وأحمر الشفاه / حينما يكون بجعبتي وقت لكي أكبر/ ستنتهي الحفلة / لأن في نهاية كل فريخة ثمّة عمارة سكنية، زوج نموذجي، وآلاف الاتجاهات من الدخان.” بين هذين المقطعين، يتضح التيه في شخصية الفريخة، بين نموذج متحرّر مفعم بالحياة يحاول نسيان ماضيه، وبين العودة إلى الرتابة والركود مع شخصية تقليدية للفريحة، لكنّها في المحصلة بين البينين وتصارع على الجبهتين. يجدر الإشارة هنا إلى أن حازا تحوّلت إلى ملكة البوب في “إسرائيل”، وابتعدت كثيرًا عن قوالب الإيقاعات الشرقية، بل ونالت مكانًا عالميًا، إذ غنّت كثيرًا من الأغاني باللغة الإنجليزية والفرنسية مثل Im Nin Alu وYou وGive me asign، لكنها في الوقت ذاته حافظت على مستوى الصورة الكليب على النمط الفلكلوري الشرقي في طلّتها.

تقول شوشانا جباي، تعليقًا على هذه الأغنية: “عندما نبحر، نحن اليهود الشرقيون، في الشبشب داخل قصيدة آسي ديان، نبتهج باستبطان الصورة السلبية التي لصقوها بنا في إسرائيل – بما يعني أننا نصنع إعادة تعيين لذواتنا – “reclaiming”- ونتحمس للاهتمام الإعلامي بنا، فمن المفيد أن نتذكر أن هذا الفعل هو جله عبارة عن استسلام لصورة أبناء الآلهة التي يريد الأشكنازيون احتكارها لأنفسهم. استسلام وخواء أيضًا، لأنه لم يتبقَ بنا أي شيء بخلاف نظرتهم إلينا. إعادة التعيين هذه في صيغتها الشرقية الحالية ليست خطوة واثقة بنفسها أبدًا، وإنما خطوة مهزومة وبائسة تدافع عن نفسها.”

الموسيقى المزراحية بين التديّن والعلمانية

وفّرت الديانة حيزًا مريحًا لليهود العرب يلجون منها إلى عالم الثقافة والسياسة الإسرائيليتين، وكان ذلك واضحًا من خلال النجاح المدّوي الذي حققه حزب شاس الذي يمثّل اليهود الشرقيين حصرًا. كانت جميع الأبواب مغلقة بوجوههم، إلا وجه الكنيس كان مفتوحًا على مصراعيه. على المستوى النظري، سعت الصهيونية إلى إسباغ السمة الدينية على اليهود العرب، قبل وصولهم إلى “إسرائيل” واللقاء معهم في عبدان بما يمثّله من حيّز ثالث، لكنّ الصورة تبدّلت بعد أن حطّوا رحالهم في “إسرائيل”، إذ سعت إلى اقتلاع أيّ روح دينية واستقامة قبلية وعبق شرقي يكتنفهم مقابل علمنتهم، كون الصهيونية لم تستحِل أوروبية إلا بعد أن حمل اليهود حقائبهم وغادروا أوروبا. هذا يعني أن القومية الحديثة تتحوّل إلى الديانة لكي تؤسس نفسها، وتنكر أساسها الديني في الوقت ذاته وتتخيّل نفسها علمانية وحديثة؛ مرد ذلك إلى أنه لا يمكن النظر إلى الديانة والقومية إلّا في سلة واحدة، خصوصًا أن كلتيهما مارستا التهجين والتطهير.

أصبح كثيرون من مغني الموسيقى المزراحية يهودًا أرثوذكسًا. لم يستطع أحد أن ينجح في صوغ توليفة تجمع بين التعبير السياسي والديني إلّا حزب شاس، إلى درجة أن الحزب حوّل بعضًا من الأغاني المزراحية ذات النص المقدّس إلى أغانٍ علمانية لاستقطاب الشباب الشرقي، إذ كان أيضًا ثمّة حاجة أخرى لاستبدال الحاجة الروحية الدينية في بعض الأغاني إلى حبّ دنيوي أرضي.[Mtooltip description=” Regev, Motti and Seroussi, Edwin. 2004, “Popualr Music and National Culture in Israel”, PP. 226″ /]

من جهة أخرى، لطالما جلس عشرات الرجال والنساء من اليهود العرب في المعبد، وكأن على رؤوسهم الطير. تتمايل أجسادهم طربًا، بينما تصدح في قاعة الصلاة ألحان الشيخ زكريا أحمد. يتهادى مقام الهزام شيئًا فشيئًا. ويصير اللحن شجيًا، وتكاد تسمع كوكب الشرق تشدو بكلمات بيرم التونسي: “الورد جميل … جميل الورد”، لكن صوت أم كلثوم غائب عن المشهد. يظهر على المنبر الحاخام موشيه حبوشة يطلق بصوته “يا عين يا ليل” طويلة وملهمة، ثم يترنم بالعبرية: إلهك إله واحد.. وَحِّد إلهك، إلهك إله واحد.. وَحِّد إلهك.

ألهمت بذلك الموسيقى العربية حركة الإنشاد الديني؛ لكنّ العروبة هنا لا تخترق حدود حجرة الطائفة الثقافية، ولا يمكن أن تؤولنا إلى القومية، إذ إن انتزاع اليهودي العربي من جذوره تطلّب حصرها في الخانة القومية. يقول ألموج بهار: “إن السبب وراء ذلك هو رغبة اليهود العرب في العودة إلى جذورهم الثقافية، ففي الخمسينات والستينات، كان من الضروري أن نتخلّص من جريمة ’الجذور العربية’ حتى نندمج في المجتمع الإسرائيلي المعادي للعرب … أما اليوم وبعد استقرارنا، وصعودنا للسلم الاجتماعي، صار من السهل إضفاء الشرعية على الموسيقى العربية، والتراث العربي، وإعادة إحيائه، وممارسته في الطرب العادي، والديني أيضًا.”[Mtooltip description=” إسرائيل من الداخل: يهود عرب يؤدون الصلاة على أنغام أم كلثوم وعبد الوهاب والشيخ زكريا أحمد، ١٠- ٦- ٢٠٠٩، المصري اليوم” /]

الجيل الجديد

يمكننا القول إنّ هناك خلقًا لليهودي العربي الجديد عبر الموسيقى العربية؛ جيل شرقي جديد يصنع هوّية من لا شيء، جيل استفاق على ثقافة إسرائيلية، ولم يعِ أبدًا لغته العربية الأم، بل ينطقها بركاكة واضحة. بيد أن الرجوع إلى تلك اللغة في الغناء يمكن اعتباره تعبيرًا سياسيًا وبحثًا دؤوبًا عن الهوّية الأصلية[Mtooltip description=” http://www.reorientmag.com/2014/04/mizrahi-music-israel/” /]. بمعنى بعدما حوّلتهم “الدولة” إلى مسخ، وحاولوا الذوبان في الهوّية الإسرائيلية لنزع الاعتراف بهم، حلّ الوقت مع “صعود إسرائيل الثالثة”[Mtooltip description=” غانم، هنيدة. ٢٠١٦، ملخص تنفيذي – نحو ترسيخ إسرائيل يهودية يمينية استيطانية، وتوجّه لفرض الحل الأحادي، تقرير مدار الاستراتيجي، رام الله: مدار، ص ١٣- ٢٦” /] ونهاية “الأحوساليم”[Mtooltip description=” كيمرلنج، باروخ. 2002، نهاية الهيمنة الأشكنازية، ترجمة: نواف عثامنة، رام الله: مدار، ص ٣١” /] تقريبًا إلى التعبير الصارم عن فكرة الاغتراب مع الماضي الصهيوني، بل وهدم الحدود الهشّة لطور الانتقال من الشرق إلى الغرب. يمكن وصف ذلك بعملية ثأر تاريخي من النخب الأشكنازية القديمة، دون أن يعني ذلك بتاتًا تبني الشرقيين موقفًا مختلفًا من الفلسطينيين عن نظرائهم الأشكناز، بل إن أول ما تفعله هذه “الضحية” الشرقية هو غسل نفسها من تلك العقدة وترسباتها، لتتقمّص دور “جلادها” التاريخي وتعيد تدوير العنف ضد الفلسطيني على نحو أكثر تطرفًا في نهاية المطاف، وهو ما يمكن تفسيره بمحاولة إعادة الاعتبار لذاتها وإثبات قدرتها على التحكّم بمصير غيرها.

يوجد كثير من الفرق الشبابية لليهود الشرقيين التي لا زالت تحتفظ بموسيقاها الشرقية، لكن مع كلماتٍ عبرية، مثل فرقة The Libyans الليبيون، والتي تتألف من موسيقيين يهود هاجروا من ليبيا إلى “إسرائيل”. بموازاة ذلك، تعتبر يمن بلوز بقيادة رافيد كحلاني، وفرقة AWA من أهم الفرق اليهودية اليمنية المفعمة بالنبض الشبابي، وتغنّي باللغة العربية – واللهجة اليمنية تحديدًا. الفرقة الأخيرة هي فرقة مكوّنة من ثلاث شقيقات يمينيات أطلقن قبل حوالي عامين ألبومًا من الذخيرة الفلكلورية اليمنية يحمل عنوان حبيب قلبي، والتي تحكي كلماته: “حبيب قلبي ويا عيني/ عجب من عيّبك مني/ حبيب القلب أعياني/ سنة وشهرين وما جاني/ يا ناس رحله وشجاني/ لمن أبكي ويرحمني، منو منكم يساعدني.” يجمع الكليب الذي حقق انتشارًا واسعًا في الأوساط الإسرائيلية، وحقق حوالي تسعة ملايين مشاهدة على اليوتيوب، بين عالمين مختلفين في صورة بصرية حداثوية وملهمة في آن، لباس تقليدي يمني مع رقص شبابي معاصر، امرأة تقليدية تدخّن النرجلية ومن حولها شبان يرقصون؛ فتيات ثلاث يمارسن طقوس البيت المعتادة، وإحداهن تمارس طقوس الحزن إثر الفقدان للحبيب، فيما يسارعن بعد ذلك إلى ارتداء لباس حديث ومشاركة الشبان الرقص. نحن هنا أمام صورتين بترميزات ثقافية واجتماعية مختلفة. شعور الشقيقات الثلاث أنهنّ جزء من قبيلة، من شيء قديم ومثير، دفعهن إلى الغناء باللهجة اليمنية في قالب إيقاعي حديث.

لو وضعنا هذه الأغنية ولجنة بيطون (اللجنة التي عيّنها نفتالي بينت لتعزيز تمثيل ثقافة اليهود الشرقيين وتاريخهم في منهاج التعليم الرسمي)[Mtooltip description=” مصطفى، مهند. ٢٠١٧، لجنة بيطون وإعادة إنتاج ثقافي وسياسي لمفهوم الإسرائيلي، مجلة قضايا إسرائيلية، رام الله: مدار، العدد ٦٤، ص ١١٠- ١٢٠” /] في سياقٍ مشترك، سنجد أن ثمّة تدشينًا لمرحلة جديدة من إعادة تعريف الهوّية الإسرائيلية على عدّة مستويات، ترتبط مع رغبة النخب اليمينية الصهيونية بتكريس موقعها كندّ حقيقي للنخب الأشكنازية القديمة، ما يعزى إلى شراسة سياسات الهوية التي تنزع نحوها النخب الشرقية تحديدًا. حلقة جديدة من الصراع الثقافي والسياسي بين هذه النخب، مادّتها الأساس استقطاب الشرقيين لصالح اليمين واليمين الاستيطاني، فكان العام ٢٠١٥ هو العام الذي وصل فيه ذاك الصراع إلى ذروته بخصوص الهيمنة الثقافية وتعريف من هو الإسرائيلي. حينما فاز حزب الليكود اليميني بالحكم، وعدت وزير الثقافة المغربية، ميري ريجيف، بزيادة نسبة تمثيل الثقافة الشرقية في وسائل الإعلام الاجتماعية الإسرائيلية.

عمومًا، تنعكس الثقافة الشعبية في أي مُجتمع، من بين وسائط عديدة، من خلال المُحتوى الذي يعرضه التلفزيون الخاص بالمُجتمع، إذ استُبدلت الهيمنة المعروفة لشخصية الأشكنازيّ الأسطوري، الشمالي، أبيض البشرة، من الكيبوتس أو من شمال تل أبيب، ببرامج كثيرة تحمل شخصية الإسرائيلي الشرقي القادم من أطراف البلاد، أو بشخصية تحمل “صفات شرقية” والتي أصبحت أكثر شيوعًا ومحبوبة ومطلوبة جدًا. كما وعدت ريجيف بخلق حيز مساوٍ بين الثقافة الشرقية والغربية، وإدخال برمجة إضافية للموسيقى الشرقية.

يمكننا قراءة كل ذلك من زاوية أن الرجوع إلى الساحة بأغانٍ شرقية وعربية خالصة ليس إلّا احتجاجًا سياسيًا على الماضي، وعلى اعتبار أن الماضي هو الأبّ الشرعي للحاضر، يظلّ ذاك الاحتجاج قائمًا لا تنطفئ جذوته مع الزمن، طالما أن هناك جوًا صهيونيًا يمينيًا سائدًا يعرف من أين تؤكل الكتف، وكيف يضمن أصوات الشرقيين تحت إبطه من مدخل فتّاك مثل سياسات الهوّية، وهو ما يفسّر ربما النجاح الكبير الذي حققته أغنية حبيب قلبي للفرقة النسائية اليمنية، التي حُفرت في ذاكرتها ووعيها ربما مسألة اختفاء أطفال اليمن في عقد الخميسنيات. لكن ورغم بدء سيرورة تعريف الهويّة الإسرائيلية من جديد، وبدء شرقنة (Mizrahization) السوق الثقافي الإسرائيلي- بتعبير موطي ريجيف – إلا أنّ الإزاحة بنظري تبقى إزاحة هوياتية ثقافية ليس إلّا، بعيدًا عن فضائها السياسي الأوسع الذي يمكن أن تشكّل تهديدًا حقيقيًا وفتاكًا لهويّة سياسية وقومية في آن، أو هدمًا لثنائية عربي – يهودي. حتى أن النقاش المندلع بين الشرقيين يجسد صراعًا بين الهوياتيين والطبقيين، فالأمر لا يتعلق بمعارضة شاملة لسياسة الهوية، وإنما بانتقاد الانسحاب من الصراع بهدف تحقيق إصلاحات ثورية إلى سياسة نيوليبرالية انهزامية تُختزل في ألعاب الوعي، والزخارف الخارجية الكهنوتية.

بذلك، نكون أمام ثلاث مراحل مفصلية في تاريخ تحوّلات الأغنية المزراحية؛ أولها الإنكار واعتبارها موسيقى ضحلة، ولا يمكن لها أن تبوح بظاهرة ثقافية إسرائيلية أصيلة؛ وثانيها التوجّه نحو الذوبان التدريجي في ثقافة البوب والروك الإسرائيلية، لدرجة افتقاد الأغنية لعبقها الشرقي ورمزيتها في التمثيل، وثالثها العودة العنيفة إلى الغناء باللغة العربية كنوع من محاورة الحاضر والاغتراب عن ندوب الماضي التي خلّفها قمع النخبة الأشكنازية القديمة للهوية الشرقية، في ظلّ مكتسبات سياسية تصل بـسياسات الهويّة إلى ذروتها، مع التأكيد على أن الانتماء إلى الثقافة العربية من خلال الأغاني ليس إلّا وجهًا ثقافيًا بحتًا، دون أن يتعارض ذلك أبدًا مع الصهيونية، فمن الممكن أن يكون المرء يمينيًا صهيونيًا للغاية كاره للقومية العربية، لكنه غير مستعد للتنازل عن اختراق صوت أم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب لأذنيه!

لا أجد أفضل من أن أختتم ورقتي بهذا الاقتباس: “الثقافة العربية واللغة العربية والمثابرة على فعل ذلك أجبر العرب اليهود على اعتماد العبرية، الأمر الذي انعكس بأشكال عدة على حياتي. في عالمٍ يعاني رهاب الأجانب يصبح الطريق إلى تحقيق الذات عاطفيًا وزاخرًا بالصعاب. لم أعانِ في حياتي من مشكلة الهوية فقط، بل واجهت مشاكل الولاء، فأصبحت أعيش لأجل نفسي، ومنيعًا في وجه الخوف الذي يزرعه المحيط في ذاتي . على الرغم من أنني معلقٌ بين عالمين عدائيين، لا يزال لدي الدافع لكي أقنع الآخرين عندما يقومون بتصنيفي، أو عندما أتحول ضحيةً للمفاهيم الخاطئة. بعد أكثر من عشرين سنة على مشاهدتي علاء الدين، يبدو أنه لم يتغير أي شيء، لكنني لا أزال غير منتمٍ إلى مجموعة، ولا يزال البعض يتحدث عن الشرق الأوسط من دون محاولة فهم تلك المنطقة. ينظر إليّ العديد على أنني غريب ويظهرون لي آراءهم المبنية مسبقًا، وينظرون إلى إعجابي بالعالم العربي والشرق الأوسط كتجاوزٍ للخط الأحمر، بينما أعدّه أنا غنى.”

المزيـــد علــى معـــازف