.
ينطلق طارق يمني في ألبومه الجديد من فرضية قدرة الجاز – بوصفه أرضية موسيقية صالحة – على استيعاب أي إيقاعات مهما كان موطنها، “الجاز يمنحك ألف طريقة لعزف الإيقاع” قال مؤلف الألبوم. من هنا يرسم طارق بورتريهاته اللحنية عبر امتزاج لونين رئيسين، الإيقاعات الخليجية والجاز، وليس الامتزاج هنا مزجًا اعتباطيًا أو تعسفيًا لكنه امتزاج مدروس قائم على إن “الإيقاع لوحة والعازف دائمًا في حالة رسم” كما قال يمني عن عازف الإيقاع خالد ياسين الذي صاحبه في مشروعه الجديد.
تنسجم المقطوعات في بننسلر مع ذلك التصور، ففي ٩ مقطوعات يعيد يمني توطين الإيقاعات الخليجية في أرض الجاز. تبدأ مقطوعة إندسار بالإيقاع، لوحة الرسم التي يفرش عليها ألوان اللحن، فنسمع العازف القطري أحمد عبد الرحيم يفتتح النص اللحني بإيقاع عرضة قطري خافت الصوت، قادم من صحراء بعيدة، تتبعه الصنوج المعدنية ثم البيانو. يؤدي البيانو نفس الإيقاع بهدوء قبل أن يمضِ منفردًا مع بقايا إيقاعية في الخلفية، لتعاود المقطوعة هدوءها وإيقاعها قبل النهاية مباشرة، كذلك الأمر في هلا لاند المفتتحة بايقاع المرح الرومبا الخليجي. الإيقاع هنا أيضًا سيد الموقف، وإن كان البيانو فيها أكثر التزامًا بالجماعية دون إحساس الانفراد الارتجالي الصاخب في إندسار، فارتجال البيانو المؤلف وأكورداته الناقصة الجازية مقيد رغم إنه ارتجال راقص.
على عكس سابقتيها، يسيطر على سامرياس البيانو وحده دون إيقاع واضح، في عزف حر للتعبير عن حالتين يحيل لهما الاسم، حالة السامري المستعار اسمه من سمر الليل وحالة البوليرياس اللاتيني، ولا يبدأ الإيقاع إلا بعد انتصاف اللحن كخط آخر يرد على خط البيانو السائد بإيقاع البندري من عازف الإيقاع وحيد مبارك وتصفيق ثلاثي العازفين، طارق يمني وخالد ياسين وإيلي عفيف عازف البايس. في قميرة تعاود الفكرة الأساسية ببدء اللحن بالإيقاع الأساسي كفرش لوحة الرسم للحن البيانو، الذي يشارك فيه عازف البايس بنقرات واضحة تحل كخط لحني رئيسي محل البيانو الذي يخفت مفسحًا لها المجال، وفي منتصف المقطوعة ينفرد البيانو كعادته الارتجالية، ارتجال لا شك أنه مؤلف ومعد سابقًا لكنه يوحي بروح عفوية ظاهرة وهو ما يؤكده الإيقاع بعد ذلك. الصخب في المقطوعة الناتج عن تداخل الخطين لا يعبر عن مجرد صخب عابر بل عن ارتجال مقصود حسب سنن الجاز، رغم قصديته لا يخلو من حرية الانطلاق.
القرب نسنس هي واسطة العقد في مقطوعات الألبوم، يعيد فيها طارق يمني معالجة أغنية يمنية تقليدية من كلمات أبو بكر العيدروس وألحان وغناء أبو بكر سالم، مستعينًا بصوت عادل عبد الله، الذي نجح في عدم الوقوع في فخ التقليدية، فالأغنية هنا جازية رغم كلاسيكيتها السابقة، وهو ما يحسب لطارق وعادل في نجاحهم من الخروج من دائرة أسر أداء أبي بكر سالم الطربي الغالب وتقديم الأغنية بروحٍ أخرى ربما كانت غير طربية، لكنها تحمل جمالًا آخر هو جمال الجاز. ساعد في ذلك غناء عادل عبد الله وتأكيده على قافية السين في سيطرة الإيقاع الخافت.
من اليمن كذلك أتى إيقاع المقطوعة التالية ذات الاسمين وأطول أعمال الألبوم، باب عدن (Gate of Tears)، يفتتح إيلي عفيف بصولو للبايس ثم يسيطر إيقاع الشرح العدني المُعالج جازيًا، ليقاطعه من آن لآخر خط لحني للبيانو كعادة يمني في كل المقطوعات السابقة. المقطوعة هي الأكثر حبكة في الألبوم رغم طولها، وصل فيها الامتزاج مداه الأمثل، فمرة يترك الإيقاع البيانو لينفرد بخط حر ومرة أخرى يكلف البيانو الإيقاع بهذه المهمة، دون صيغة السؤال والجواب التي تُلمح في مقطوعات إندسار وهلا لاند وقميرة.
بِننسُلر التي يحمل الألبوم اسمها تبدو أقل جودة من سابقتها باب عدن، رغم هيمنة الفكرة الأساسية السائدة في الألبوم في مزج الإيقاع تارة والانفراد تارة، وفي نصفها تقريبًا يبدأ خط لحني آخر يفصل الثيمة كأنه يقسم المقطوعة نصفين، وينفرد البيانو تمامًا ليعاود الإيقاع لم الشمل في نهايتها، بنفس فكرة إندسار في المقطوعة الدائرية التي تبدأ بثيمة لحنية وتنتهي بها نفسها. في راستپرينتس Rastprints يفتتح إيقاع العرضة الجنوبية السعودي الراقص، والبيانو هنا كهربي كما يبدو واضحًا من صوته القريب من الإكسليفون أو الماريمبا. الإيقاع سائد ومسيطر والبيانو لا ينفرد عنه ولا يتزحزح في امتزاج موفق. تأتي عيالة كوبانا كختام مناسب للمسارات الموسيقية، عبر مزج ألوان ثلاثة في لوحة واحدة، العيالة الإماراتية والموسيقى الكوبية وتراث الدحة، “الفن الأسطوري الذي يعود إلى قبيلة من البدو تحاول هزيمة الجيش الفارسي فتقلد صوت الجمال لتوهم العدو بكثرتهم”، حسب وصف مؤلفها. تبدأ المقطوعة بصيحات البدو الآتية من بعيدة يلحقها إيقاع الصنوج ثم البيانو والدرامز والباص القائمين بدور الجو العام الكوبي، ثم تختفي الصيحات ليبقى منها ذكرى خافتة في الخلفية، ومعها لون الدحة ليسيطر على اللوحة لونان هما العيالة والكوبانا، لتعاود الصيحات انفرادها قبل ختام المقطوعة وتختفي بالتدريج كضياع الصدى ومعها ينتهي الألبوم.
اختار طارق يمني اسم بِننسُلر لألبومه الثالث، بعد ألبومي آشور (٢٠١٢) ولسان الطرب (٢٠١٤)، ولا يبدو اختيار الاسم اعتباطيًا من قبل عازف البيانو اللبناني المولود في بيروت عام ١٩٨٠، الملحن والكاتب والباحث عن إيقاعات جديدة، فالاسم الإنجليزي المكتوب بحروف عربية مُشكلة يُسمي المنطقة بوصفها الجغرافي كشبه جزيرة. يتجنب يمني الكليشيهات ليختار حالة شبه الجزيرة، تلك الحالة هي المسيطرة على العمل، فالعمل أيضًا شبه جزيرة بين بحرين، بحر الخليج العربي وإيقاعاته، وبحر الجاز المتلاطمة أمواجه المتجدد بسرعة، فربما يشتبك البحران ككل البحار في رافد بعيد هو الإيقاعات الإفريقية المنتقلة إلى الخليج عبر خط التجارة بين زنجبار وعُمان واليمن، وهي نفس الإيقاعات التي انتقلت للقارة الأميركية لتخلق لاحقًا الجاز.
ينجح طارق يمني في ألبومه بتوطين إيقاعات الجزيرة العربية إلى درجة تتماهى فيها مع الجاز، بحيث تبدو المقطوعات كأنها مقطوعة الصلة عن منبتها الخليجي، وهو توطين يُحسب لطارق يمني، توطين حاوله مرتين، مرة مُوفقة في سماعي يمني، ومرة أقل توفيقًا في ألبوم لسان الطرب، فإيقاعات الموشحات الكلاسيكية العربية أقل طواعية من الإيقاعات الخليجية، والموسيقى أكثر طواعية من النصوص المغناة، لكنه توطين ربما يُحاسب عليه من وجهة نظر تقليدية، فالسائد في تجارب المزج التي سُميت باسم ملتبس، جاز شرقي، أنها تعتمد على استعارة الألحان لمجرد الإشارة لها دون توطينها في بيئة لحنية جديدة عليها، فيظل اللحن الشرقي مُنبتّ الصلة عن الجاز، أو بعبارة أخرى يكون اللحن الشرقي معزوفًا بآلات جازية دون استعارة روح الجاز نفسها في الارتجال والكوردات الناقصة وحوارات العازفين اللحنية. لكن يظل السؤال مفتوحًا عن براعة طارق يمني في هذا التوطين، ومدى نجاحه في رسم بورتريهات لإيقاعات الخليج وإلقاء الضوء عليها، الأكيد أننا نستمع في بنِنسُلر إلى جاز معاصر ابن الـ ،٢٠١٧ بكل تطورات الجاز السابقة واللاحقة.