نجاح سلام | البيروتية أصلاً وفصلاً ومساراً

لنجاح سلام أوجه كثيرة وصوت واحد، براق ومتمكن في راحة من كل مساحته الواسعة ومن كل زخارفه السخية. هو صوت كأن لم تمر السنوات عليه، فظل ندياً إلى أن قررت الاحتجاب، بل إن مر السنين سمح له بإبراز المزيد من قدراته حين قررت الابتعاد عن أغاني الصبا المغناج وتقديم أغنيات أم كلثوم بلمسة سلامية واضحة (أنا في انتظارك مثلاً).

لها أوجه كثيرة، من سلام اللبنانية في ميّل يا غزيّل وبرهوم حاكيني والجبلية في حواراتها مع وديع الصافي، إلى تلك البدوية في حوّل يا غنام، إلى الخليجية مع يا ريم وادي ثقيف أو المصرية مع عايز جواباتك أو السورية التي لحّن لها محمد عبد الكريم أمير البزق رقة حسنك وسمارك. ولها أيضاً أوجه الصبية الضحوك واللعوب في أفلامها المصرية مع اسماعيل ياسين أو مع محمد سلمان، شريك مشروعها الفني وحياتها فترة من الزمن، والست الناضجة العاطفة والسيدة الصوفية والثائرة العربية المتنقلة في أناشيدها من الشام إلى الجزائر وفي القلب فلسطين ومصر التي منحتها جنسيتها.

في كل ذلك، هي أولاً وأخيراً، بيروتية إلى الصميم. حفيدة المفتي وابنة عازف العود الرائع ومدير برامج الإذاعة محي الدين سلام وقريبة رئيس الحكومة صائب بيك. هذا طبعاً حدّ من انطلاقتها الأولى، لا قُبَل في الأفلام ولا بَوح بالحب، على ما روت هي ذاكرة خجلها وتربيتها المحافظة. لكن المحافظة هذه كانت أيضاً خياراً فنياً وسياسياً لا أثر لندم في حديث نجاح سلام عنه.

إذ من المفيد أن يتذكر المرء أن نجاح سلام كانت من أوائل الأصوات التي واكبت المشروع الأول لبناء هوية موسيقية لبنانية، بعد الاستقلال عن فرنسا في ١٩٤٣، أي المشروع الذي غنّت سلام فيه من ألحان سامي الصيداوي (يا جارحة قلبي) ونقولا المني وإيليا المتني صاحب يتيمة حوّل يا غنّام بالتوازي مع أغاني نهوند (مثل يا فجر لما تطل) ولاحقاً وداد ، وهو المشروع الذي كان يتبدى فيه مزاج بدوي (كما في يا ام العباية) كان زكي ناصيف يشير في أحاديثه إلى أنه كان تجريباً أثناء البحث عن تركيب هوية لهذا البلد الحديث الصنع.

غير أن سلام سرعان ما ابتعدت عن هذا المشروع، الذي لم يدم طويلاً على أي حال، إذ تم إبداله بمشروع تبنته دولة كميل شمعون من خلال مهرجانات بعلبك ورعاية الأخوين رحباني في خلطتها ذات المركزية الجبل ـ لبنانية والتوزيع الغربي، وهو ما كان متوافقاً مع توجه مجموعة أخرى من الموسيقيين آنذاك كتوفيق سكر وزكي ناصيف وتوفيق الباشا على تفاوت خصائص كل منهم ما بين الاهتمام بالموسيقى الكنسية البيزنطية والسريانية أو التوزيع الكلاسيكي الأوروبي لثيمات تراثية وهو ما استخدمه أيضاً الرحابنة في صيغة غنائية.

ابتعاد سلام عن المشروع الأول للهوية اللبنانية تبدى من جهة أولى تأثراً بالطابع الجبلي (كما في تسجيلاتها مع وديع الصافي، وإن كان يتبدى فيها عُرَبٌ وزخرفات متقنة لكنها لا تضرب في عمق أسلوب الجبل اللبناني وزجلياته التي يتقنها الوديع تماماً) وبمرح فيلمون وهبة، وتبدى من جهة أخرى عودة إلى الحضن المصري الذي كان حاضناً للساحل اللبناني منذ مطلع القرن العشرين على ما تشهد تسجيلات محي الدين بعيون البيروتي، ومن ثم صليبا القطريب الطرابلسي. وتشهد علاقات الصداقة الوثيقة بين آل سلام وأساطين الغناء المصري بحسب أحاديث السيدة نجاح سلام على متانة هذا الاحتضان الذي سمح بانتقال سلام مبكراً إلى القاهرة والعمل في السينما فيها والغناء لأهم ملحنيها آنذاك عبد الوهاب والسنباطي فضلاً عن الموجي وغيرهم.

ومحاولة الجمع بين الجبل ومصر تشبه في مسارها المسار السياسي لبيروت العتيقة، بيروت الأخرى التي لم تتألف من المهاجرين الجبليين إليها ولا من التراجم الذي اثروا من استغلال معرفتهم باللغات الأوروبية لبناء علاقات تجارية مع فرنسا الانتداب، بل بيروت العائلات المسلمة المحافظة التي كان يمثلها صائب سلام ومن ثم انتهت إلى أن تصبح بيروت الغربيةأثناء الحرب حين اشتد التوتر إلى درجة الانحياز إلى العروبة في وجه الجبلية اللبنانية، وهو ما انتهى إلى أن يصبح غطاء لنزاع مذهبي على امتيازات السلطة. المدينة التي يقول سمير قصير فيها إنها وفية لنفسها حرباً وسلماً، وأنها كانت دوماً بلا قضية لكنها تتبنى قضايا الآخرين، بيروت المختلفة عن بيروت مجلة شعر بحسب وصف بلال خبيز لها بأنها كانت تشبه جمهورية صغيرة تريد الاستقلال بنفسها على شاطئ المتوسط. وهي بهذا المعنى كانت لبنانية على المعنى الذي ارساه ميشال شيحا للبنانية، بل لعلها كانت أشبه ببيروت مجلة الآداب بحسب وصفه أيضاً.

والواقع أن متابعة مسار نجاح سلام الفني يشير أيضاً إلى مسيرة موازية في مزاجها العام لمسار بيروت المشار إليها هذه. فإذ غنت نجاح سلام للبنان أغنية شبه مجهولة تتغنى بلبنان كما يُتغنى بالفتاة أو الفتى الغض عنوانها الله يا لبنان ما اجملك تتغنى بشيبه أي بثلج جباله، فإن بعض أشهر أغانيها اللاحقة كانت أغاني العروبة والعنفوان لمصر في حروبها (أنا النيل مقبرة الغزاة، ويا أغلى اسم في الوجود) ولسوريا في تشرينها (سوريا يا حبيبتي). ومن ثم جمعت سلام إلى الإقامة القاهرية اهتماماً فريداً بموسيقى الخليج العربي حيث آلت بها الأحوال العائلية إلى الإقامة بعد ذاك، فكانت من أوائل النجوم غير الخليجيين الذين اتقنوا واعتنوا بغناء هذا الجانب من العالم العربي.

ورغم أنها غنت للرحابنة ولعبد الوهاب إلا أنها لم تنتم إلى مؤسساتهم ولم تكن حاملة راياتهم بل حافظت على تنوع في الأساليب واللهجات، ولعل غياب المؤسسةأو المشروع خلفها (منذ انقضاء عهد اللهجة اللبنانية البدوية الأول) هو ما يخلّف لدى المرء شعوراً بأن صوت نجاح سلام العظيم يفوق أهميةً إرثها الخاص من الأغاني رغم كثرتها وأهمية ملحنيها وجمالها ورسوخها في الآذان (كأغنية بالسلامة مثلاً)، وأن مثل هذا الصوت الجامع بين الدلال والغنج والسطوة والقوة والأنوثة والطرب والخفة والشعبية والحضور الآسر والضاحك والمتانة والذوق والفصاحة واللفظ الحسن كما الوجه كان يستحق أن يحلق مع ملحنيه في فضاءٍ مستقل من التجريب والاختلاف والابتعاد عن المحافظة الموسيقية باتجاه مزيج يعكس الحيوية الهائلة للست وثراء صوتها الرنان.

ربما علينا أن نستغل حضور الست نجاحبيننا اليوم للإجابة على كثير من التساؤلات عن مثل هذا المشروع، أو غيابه، وعن ملحنيها اللبنانيين الكثيرين وما حصل لهم على الدرب إثر سطوع نجم الرحابنة، عن سر البحة الآسرة في صوتها أو أغنية غزالي حيث أبعاد مقام الصبا مميزة في وغير معهودة في سائر الأغاني، وعن سر اعجابها بالسنباطي الذي درب صوتها على المقامات الشرقية وفوارقها الدقيقة (وهو إعجاب محافظ، في مقابل غرام نور الهدى بعبد الوهاب وسمعته التجديدية)، كذلك يتساءل المرء كثيراً عما إذا كان موسيقيو لبنان في الأربعينات والخمسينات على وعي بالمهمة التي آل إليهم القيام بها، ولعل تكريم نجاح سلام، إحدى آخر أيقونات وديفات لبنان أطال الله عمرها، من جانب المعهد الموسيقي الوطني في لبنان، في ٢٩ تشرين الأول/اكتوبر ٢٠١٥، يكون مناسبة لإعادة ضم مسيرة نجاح سلام على تنوعها إلى المتن اللبناني واثرائه بكل ما قامت به وبالتنوع الذي كانت شغوفة به.