عربي جديد

هوى | الأمانة في ثوب الخيانة، والخيانة في ثوب الأمانة

مينا ناجي ۱۸/۰۹/۲۰۱۳

لا توجد ألعاب تطربيّة بالمعني الكلاسيكي هنا، فقط اختبار هادئ للمقطوعات العربيّة التراثيّة كموسيقى Ambient ناعمة، يقودها أداء صوتي هادئ ومتمكّن. تبدو أسطوانة هوى موشحات[Mtooltip description=” نيسان/ أبريل ٢٠١٣” /] كتجربة صوتيّة ترتكز في إعادة تركيبها، عن حق، على جمال صوت ريما خشيش المطربة اللبنانيّة وموسيقى الجاز المينماليّة[Mtooltip description=” Minimalist” /] ، بايقاع آلات شرقيّة كالطبلة والدّف والرّق.

يرجع مزج موسيقى الجاز مع الموسيقى الشرقيّة إلى ستينيّات القرن الماضي، وذلك ربما لأن نوعي الموسيقى، رغم نموّهما في سياقات ثقافيّة مختلفة، يمتلكان خاصيّة جماليّة جوهريّة مشتركة، وهي، وبلفظ غير أكاديمي أو علمي: الرّحرحة. بتعبير أكثر تحديداً: الحريّة في أداء النوتة الموسيقيّة والارتجالات المستمرّة في حركة النوتات (النغمات) حول جسد الّلحن الأساسي بحسب المزاج اللحظي للمؤدّي، ممّا ينتج عنه، باختلاف الجماليّات بين الموسيقي الشرقيّة والجاز، ما يسمي بالتطريب.

تصعب ترجمة كلمة التطريب“. وإذا تمت ترجمتها للغات الأخرى، نحصل على نتائج غير متطابقة: فأحياناً تترجم بـ Improvisation، أي: ارتجال حر، وأحياناً Ecstasy، أي: بهجة أو نشوة. في الحقيقة، يقترب معنى كلمة تطريب من وصف الارتجال الذي يصيب بالنشوة، أو النشوة التي تصاب بالارتجال، وكلاهما صحيح. إذ يستطيع المطرب أو الموسيقي، في عرف الموسيقى الشرقيّة، عندما يتسلطن” – وهي كلمة أخرى لها إيحاءات الغرق في التمتّع الحسّي والسيطرة والتمكّن بالأداء الغنائيّ أو العزف أن يُطرَب ويطرِب من يسمعه بانحرافات مرتجلة وتنويعات فرعيّة صغيرة وليدة اللحظة تفاجئ من يسمعها وتصيبه بإحساس النّشوة والوجد. وكلما ازدادت حدّة التطريب، ازدادت صيحات المتعة وصخب اللذة من جانب جمهور المستمعين، التي تدخل كعنصر مهم في المجال الصوتي والـ Ambience- الجوّ المحيط الإجمالي للتجربة الصوتيّة.

في التسجيلات الحيّة القديمة، كانت ردود أفعال المستمعين جزء أساسي من عملية التسجيل، فجزء كبير من تأثير حفلات أم كلثوم مثلاً قادم من ردود أفعال جمهورها الذي يتفاعل معها بالصّراخ وتكراره عبارات المتعة المعروفة تعبيراً عن نشوته. تزيد ردود الفعل المتجاوبة تلك من تطريب المؤدّي ونشوته المشتركة معهم. ولهذا السبب رفضت أم كلثوم بداية الأمر الغناء في الإذاعة إلى قطعة حديدمن دون وجود مستمعين لأنّها محرومة من ذلك التجاوب اللحظي أثناء أدائها الغناء.

ولا يعتمد التطريب الموسيقيّ الشرقيّ على المعنى العقليسواءً في الكلمات أو البناء الحسابي المنطقي للموسيقي، كالموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة مثلاًبل على التأثير والمخاطبة الحسيّة. فتجد الإغراق في كلمات لا معنى لها في ذاتها كوحدة تطريبيّة أساسية مثل: “آه – يا لالالّي – يالالا – يا ليل – يا عين، والتي أحياناً توّظف في اللّحن لخدمة الإيقاع، وفي هذه الحالة تسمّى بـكلمات الملء، والتي تأثّر قسم منها باللغة التركيّة، مثل: “أمان – أفندم“.

يتجلّى هذا المبدأ في أعمال أسطوانة هوىالمليئة بـكلمات الملء“. من حيث أن كثير من كلمات الموشحّات المغنّاة معجميّة لا تفهم بسهولة، فيخفت المعنى أحياناً ويرجع للخلف، كما في مقدّمة موشّح رمى قلبي، ما يدعم تلك الحالة التطربيّة التي تعتمد على فعل الغناء في ذاته، لا معاني الكلمات أو قوّة الشعر.

تقول خشيش في مقابلة معها أنّ ٩٠% من الموسيقى العربيّة الكلاسيكيّة تعتمد على صوت المغنّي وتطريبه، و١٠%، أو حتّى أقل، تعتمد على موسيقى الآلات. ولذلك، وعلى غرار بدايات التخت الشرقي أوائل القرن الماضي، تقتصر الفرقة الموسيقيّة المرافقة لخشيش في الأسطوانة على عدد محدود من العازفين، إلا أنها آلات غربيّة لم يعرفها التخت الشرقي التقليدي. فتغنّي ريما بمرافقة ثلاثة عازفين من هولندا هم توني أوفرواتر الذي يعزف على الكونتراباص، ومارتن أورنستين على الكلارينيت، وجوشوا سامسون على الإيقاعات، بصحبة عازف الرّق اللبناني سلمان بعلبكي. وفي أسلوب يناقض ما نجده في التسجيلات الحديثة التي تعتمد طريقة المزاوجة“: أي عزف كل آلة في سياقها التقني والثقافي، يتمّ هنا تطويع العزف من خلال انسيابيّة ورحرحة الجاز ليرافق الغناء الشرقي في مرونته وتطريبه. تمثّل الأسطوانة تطوّراً للاتجاه الجمالي الذي بدأته ريما مع فرقة قطار الشرق المختلطة من هولندا والعراق ولبنان عام ٢٠٠٠، واستكملته مع الثلاثي الهولندي The Yuri Honing Trio الذين سجلت معهم أسطوانتي يالللّي، وفلك بمزج الغناء العربي التراثي، من الموشحات والأغاني القديمة، بموسيقي الجاز الغربيّة، إلى جانب بعض الأغاني الخاصة بها. إضافة إلى أسطوانة من سحر عيونك، والذي يتكوّن من أغاني صباح القديمة في الأفلام المصريّة.

تغنّي خشيش الأسطوانة، المدعومة من قبل آفاق عبر منحة الموسيقى للعام ٢٠١٠، والتي تضم عشرة من أبرز الموشحات التراثيّة، إضافة إلى دور وموّال من سورية ومصر، بصوت رقيق ونقي مشبع بالأحاسيس ومصقل بالإتقان والخبرة في انسيابه السهل. وهذا أمر بديهيّ لمن بدأت الغناء من سن الثامنة بتشجيع من والدها من خلال حفظها وإتقانها لأداء موشّحات وأدوار من التراث العربي. إضافة إلى دراستها، وتدريسها حاليّاً، الموسيقى العربيّة الكلاسيكيّة في المعهد الوطني العالي للموسيقى الكونسرفتوار في بيروت

لا يوجد استخدام لقوّة الصوت بقدر إبراز انسيابه وتحكّمه وسلاسته ودرايته بالعُرب الشرقيّة، والمط الفني والتطريب الذي تخلقه ريما بمصاحبه العازفين كنتاج ثلاث سنوات من التحضير والتجريب والتدريب. إضافة إلى التطريب الذي يُمارَس من جانب تقنيات الغناء الشرقي، لكن من جانب آخر من دون الدوي الزاعق المصاحب له، سواءً من المغنّي أو العازفين أو الجمهور كأداء صاخب حرّاق، كأن التطريب تم فلترته وشدّه على القالب المشذّب لتطريب الجاز الموروث من بنوّته للموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة.

أولى هذه الموشحات هو رمى قلبي، وهو من شّعر قديم ولحن الشيخ عمر بطش الحلبي. كلمات الموشح لا تتعدّى بضعة أبيات قصيرة، كالأسلوب المتّبع في قالب الموشح، والتي تشكّل أساساً للحن والإنشاد: “رمى قلبي رشا أحور بأهداب العيون السود/ ومعسول اللمى كوثر ولكن ليس بالمورود/ وقد مال كالأسمر ولكن بنده معقود.

الموشّح الثاني مجهول المؤلف والملحن تغنّي فيه ريما: “يا هلالا غاب عني واحتجب/ وهجرني لا بذنب أو سبب/ فى الهوى ما نابني غير التعب/ وانقضى العمر ولا نلت الأرب.” والذي غنّاه من قبل كل من الشيخ إمام وفايزة أحمد، وغيرهما.

وصولاً إلى الموشّح الثالث، والذي يعتبر من الموشّحات المشهورة، ومطلعه: “لاح بدر التم في روض الملاح/ يملأ الأكوان أنساً وانشراح“. تستهل خشيش الموشّح، الذي لحّنه محمود الصبح من قصيدة قديمة أيضاً، بموّال من مواويل محمود صبح المطوّلة: “طول الليالي وأنا طيفك على بالي/ ياللّي غرامك ملك قلبي وشغل بالي“.

ينتمي الموشّح الرّابع، وجهك مشرق بالأنوار إلى عائلة الموشّحات الأندلسيّة المصريّة الأبرز، وهو من قصيدة قديمة ولحن الشيخ محمد عثمان. والموشّح الخامس، رماني بسهم هواه، وهو أيضاً من قصيدة قديمة، ولحّنه داود حسني.

أما الموشّح السادس، فمن كلمات الشّاعر السّوري الشيخ أمين الجندي، وتلحين الشيخ سيد درويش: “سل فينا اللحظ هنديا/ وروانا اللفظ سحريا/ يا رعاه الله من ظبي/ حاملا في الروض أغنية/ لاح غصن البان إذ غنى/ ناشر الألحان عطريا/ حسنه قد فاق يوسفه/ ندّه قد فاح مسكيا“.

ويتبعه موشّح من الكلاسيكيّات بعنوان يا نحيف القوام“. ويأتي الموشّح الثامن بعنوان يا أخا البدر، وهو من شعر ابن زيدون، وملحّنه مجهول. ويليه شجني يفوقمن التراث.

آخر هذه الموشّحات يا من لعبت به الشمول، شعر بهاء الدين زهير، وهو من أشهر الموشّحات الأندلسيّة، ويمتاز بإيقاعه السريع. تختم ريما خشيش موشحاتها بدور وضع كلماته عمر عارف القاضي، ولحّنه زكريا أحمد، وأدّته أم كلثوم: “يا جمال الورد فوق غصنه الرطيب/ يا جماله يا دلاله يوم صفاه.

لن يستوعب السّميع الذي يحبّ هذا القالب التراثي على الأغلب إعادة بناءه بتلك الصورة. وسيشكّك في أن الآلات الغربيّة قد تكون قدّمت عوناً في خلق حالة انسيابيّة اختلاط النغم بالكلمات. وأنّها قد تكون جمّدت من روحيّة المادّة المغنّاة، وروحيّة قالب الموشح نفسه. لكن الأمر في الحقيقة معكوس، فهذه الطريقة في البناء الموسيقي والأدائي، على عكس تجارب الكورالات وفرق الموسيقى العربيّة التراثيّة الملتزمة بالنوتة المكتوبة والمنضبطة بالهارمونيا وأحياناً الأوركستراليّة، حافظت على روح وأصالة وذاتيّة قالب الموشحات والموسيقى الشرقيّة ككل، لكن في سياق جديد يستحق تذوّقه والانتباه إلى نتائجه والاستماع إليها من دون تحيّزات ذوقيّة مُسبقة.

الصورة تُظهر ريما خشيش برفقة محمد عبد الوهاب وسهيل سحاب.

المزيـــد علــى معـــازف