.
وسط زحام الرسائل المباشرة والمبطنة في ألبوم آركتك منكيز السادس، يطغى أمر واحد: الفصام. بعد أن أصبح أعضاء الفرقة على مسافة شاسعة من مواضيهم، ومن الأماكن التي أتوا منها، يبدو الآن أن المغني وكاتب الأغاني، آلكس تيرنر، قد أصبح على مسافة شاسعة من حاضره أيضًا، يلعب دور مراقب للحياة أكثر من كائن حي، ويعيش في بيئة ضعيفة الجاذبية، دون مراسٍ أو جذور تشده. مشكلة الألبوم، أو مشكلة الكتابة عنه بالأخص، هي أننا قد نواجه مصيرًا مماثلًا، أن ننجرف مع سيل تحليل الثيمات وتتبع الإشارات المرجعية، أن نتأمل أغانيَ مكتوبة عن كتابة الأغاني، والعشرين طريقة التي يحاول فيها تيرنر أن يقول إن لا شيء لديه ليقوله، قبل أن ينتهي بنا الأمر بحالة فصام، منهمكين بكل شيء يتعلق بالألبوم سوى الألبوم نفسه.
قال آلكس تيرنر أنه بدأ بكتابة الألبوم فيما افترض أنها نهاية أزمة كتابة، كان عاجزًا خلالها عن كتابة أغاني جديدة للفرقة بعد ألبومهم الأيقوني AM الصادر قبل خمس سنوات. وجد آلكس مهربه في أدبيات الخيال العلمي، واتخذ من الضياع في فندق مترف على سطح القمر مجازًا لحالة الفصام وليدة الشهرة التي يعيشها، متنقلًا في الأغاني بين عدة شخصيات لها علاقة بالفندق، من مغني الروك الذي يعزف في صالة شبه فارغة بعد انطفاء نجوميته (ستار تريتمنت)، إلى موظف مكتب الاستقبال (ترانكويليتي بايز). لحَّن تيرنر هذه الأغاني على بيانو ستاينواي كان قد بدأ بالتعلم عليه خصيصًا لكتابة الألبوم، ومن غير الصعب عند سماع الأغاني تخمين أن خبرة تيرنر مع البيانو مستحدثة ومستعجلة.
عندما سمع أعضاء آركتك منكيز الألبوم للمرة الأولى، اقترحوا أن يصدره تيرنر بشكلٍ فردي، ربما كونه أقرب إلى صوت مشروع تيرنر الجانبي، ذ لاست شادو ببتس، من صوت آركتك منكيز. على كلٍ، يبدو أن مفاوضاتٍ مبهمة أدَّت إلى قرار صدور الألبوم، فبدأ العازفون الثلاثة بكتابة التفاصيل التي ستبنى منها أغاني تيرنر. عندما صدر الألبوم، اعتبره الكثيرون، مستمعين ونقادًا، انحرافًا حادًا في صوت الفرقة، التوصيف الذي يوحي بأن الفرقة قررت جمعيًا اتباع توجهات أسلوبية مختلفة في صوتها حتى وصلت إلى هذه النتيجة، لكن قصة ولادة الألبوم تقترح أن الفرقة لم تغير صوتها، بقدر ما دخل معظم أعضائها على صناعة الألبوم في مرحلة متأخرة.
عند الاستماع عن كثب، يتضح أن سائر أعضاء الفرقة أخذوا الألبوم كمشروعٍ بحثي، ذلك أن فرصة المشاركة في التأليف قد سلبت منهم، وكان عليهم التعامل مع أفكار تيرنر كنقطة بداية حتمية. لذا وضعت الفرقة كل جهدها في التفاصيل؛ عزف مات هِلدرز إيقاعات طبول مرتبة بشكل رياضياتي مفرط الدقة، استلهمها من ميراث أفلام الخيال العلمي والموسيقى التي ارتبطت بها من السبعينات، أتى جايمي كوك بأسطر جيتار برَّاقة ومشذَّبة، وضمَّ إلى عدته الصوت الواسع والمحيط لجيتار الباريتون، والصوت العميق المنضبط للـ لاب ستيل جيتار، بينما تناصف نيك أومايلي أغاني الألبوم مع تيرنر من حيث عزف البايس، وحرص كلاهما على الاقتصار على نقرات مكتومة متباعدة، تعزز خفة البيئة الصوتية الداخلية للأغاني وافتقارها للجذابية. داعمًا الفرقة، تولى منتج الألبوم الذي عمل بشكل موسع مع الفرقة سابقًا، جايمس فورد، قيادة أوركسترا صغيرة من الموسيقيين المساندين الضليعين بآلات أيقونية في الميراث الموسيقي للخيال العلمي، من السِّنثات والأوركسترون والفايبرافون والوورليتزر (كيبورد مبرمج وآلة نقرية وبيانو إلكتروني).
حتى آلكس تيرنر نفسه، يبدو أنه تعامل مع الألبوم كمشروعٍ بحثي. غرق في ميراث الخيال العلمي الأدبي والسينمائي والموسيقي، شاهد أفلامًا عن أزمة الكتابة والشهرة والفصام، واعتقَد عند مرحلة معينة أنه عثر وسط كل ذلك على رأس خيط يقوده إلى خارج أزمة الكتابة. تراوحت الأغاني بالنتيجة بين العبثية والسخرية والتأمل في الذات، الثيمات التي تبدو منعشة للوهلة الأولى، لكن سرعان ما تنضح بالملل. بنيويًا ولحنيًا، كانت الأغاني متحررة وغير تقليدية، لا تدور حول شمس ولا تخضع لأي جاذبية، ما يبعث على الفضول خلال السماعات الأولى، وعلى الخيبة لاحقًا. من الحماس الذي لا يفضي إلى مكان في بداية جولدن ترانكس، إلى شي لوكس لايك فان التي تعود إلى أغنية الروك الستيناتية والسبعيناتية ثم تنسى ما الذي دفعها إلى هذه العودة، مرورًا بـ فور آوت أُف فايف التي تقع في فخ الحذلقة الهوليوودية التي تحاول السخرية منها، ندرك أن أزمة الكتابة لدى تيرنر لم تنتهِ حقًا. ما حصل هو اكتساب آلكس لغة جديدة، مفردات جديدة، لكنه لا يزال بلا وجهة، بلا شيء محدد يريد قوله. ينعكس الأمر على الموسيقى نفسها، فبينما حضَّر الجميع جيشًا عتيدًا من التفاصيل، لم يأت تيرنر بأغانٍ تمثل معركة حقيقية، بل قاد الجيش في حملة طويلة، وتركه يتململ ويتقهقر على طول رحلة لا تفضي إلى مكان.
المشكلة أنه لو أخذنا وجهة نظر مختلفة للألبوم، لو تتبعنا المراجع الأدبية في الأغنية، حللنا الأسطر المتهكمة، حللنا أوجه التأثر بهذا الفيلم وتلك الرواية، ونفضنا الضباب المجازي عن أفكار آلكس، لحصلنا على ألبوم آخر. في هذا الألبوم، نحصل على نوع المتعة التي نحصل عليها عادةً من أفلام الغموض أو مسلسلات التحريات أو الروايات البوليسية، من ألعاب الفيديو التي تكشف قصتها الخلفية مع تطور اللعبة وسردها. كل نوطة، كل تقلب في المساحة، كل ابتعاد واقتراب في الأصوات، وكل سطر مبهم لكن غير مبهم كليًا، يمكن اعتباره قطعة أحجية؛ من الممتع والباعث على الرضى تجميعها ورؤية بعض الصور الكبيرة تتجلى هنا وهناك. هذا ما قامت به عدة مراجعات، وخلطت بين متعة تفسير الألبوم ومتعة الألبوم نفسه، معتقدةً أنه ألبوم جيِّد. وهذه هي حالة الفصام والتوهان عن الألبوم التي تحذر منها هذه المراجعة، إذ يبقى السؤال الرئيسي: ترانكويليتي بايز هو العديد من الأشياء، لكن هل هو ألبوم قوي؟ برأيي، هو ليس كذلك، هو ألبوم فيه من التفاصيل ما قد يوهمنا فعلًا أننا على القمر، لنكتشف بعدها كم أن القمر قاحل ومفتقر للجاذبية.