.
مراسلات حمزة علاء الدين مع صديقه الشاعر بانقا إلياس
https://soundcloud.com/ma3azef/roh9qfq3uek0
ارتبطتّ بموسيقى حمزة الدين روحيّاً قبل أن أتعرّف عليه. حتى أنني لم أدهش فيما بعد حين علمت أن المستمعين الغربيين يعتبرون موسيقاه “موسيقى روحيّة“. وعندما التقينا في لندن، بدأت بيننا صداقة حميميّة بسيطة. وتابعناها عبر الرسائل.
استهل حمزة ردّه على رسالتي الأولى له بـ“الشقيق العزيز بانقا“. إذ كنت قد كتبت إليه عن عذابات اللون والكلمات، ورحيل النغم في الوطن خلسة، متعرّضا لأسماء المغنين والعازفين والشعراء والرسامين، الذين رحلوا منذ الشهر الأول من عمر الانقاذ إلي لحظة كتابة تلك الرسالة في 7 أيلول/ سبتمبر 1996. أرفقت مع الرسالة شريطين لفنانين من مختلف المراحل: الشريط الأول للفنان عبد الحميد يوسف وود المقرن وخضر بشير وابراهيم عوض والكاشف وعثمان حسبن ووردي. والثاني: عقد الجلاد وحنان النيل ومصطفى ورشا. وكتبت إليه: “ستصلك مع الرسالة القادمة بعض أحاجي عبدالله الطيب التي آمل أن تكون بعض منها موضوعات لبعض أعمالك الفنية، مع مختارات من قصص وأشعار جيل الخمسينيّات. فاكتب لي إن كان هذا يسرّك“.
تناولت أيضاً في الرسالة مسألة الأهتمام بعملية التوثيق وإيداع أعماله في مكتبات الصوت العالميّة مع الاهتمام بكتابة مذكراته. وحتّى لا يقع في فخ الشفاهية الذي أضاع كمّاً هائلاً من تراثنا وتفاصيل تاريخنا الأدبيّ والسياسيّ.
وكيف تعرّضت للضياع أعمال فطحل ضخام مثل التجاني وجماع وغيرهم. وضربت مثلاً بعذابات المؤرخ مكي شبيكة في جمع تاريخ السودان، التي ذكرها في حلقة إذاعية بثها راديو “أمدرمان” في النصف الأول من الثمانينيّات، سرد فيها كيف جمع مادّة كتابه “السودان عبر القرون“، وما قابله من من معاناة في جمعه لتفاصيل الأحداث ومذكّرات الشخصيات الوطنية الهامة التي ضن بها بعض الأقارب والأصدقاء بحجّة الخصوصيّة والسريّة. وكيف كانت الوثيقة الوحيدة المكتوبة عن تاريخ السودان بقلم كاتب المخابرات البريطانية نعوم شقير. وصفنا نعوم شقير بأنّنا كنّا “عدماً” قبل أن يدخل علينا الإنجليز وينتشلونا بحضارتهم.
قلت له أننا في أشد الحاجة إلى توثيق التجارب لنعرف، نحن والأجيال القادمة، ما الذي قاد مبدعينا إلى المجد والشهرة. نريد أن نعرف أي جنيّة من وادي عبقر وضعت الألحان على شفاه الفنان ابراهيم الكاشف، الذي أذهل الكوريين عندما استمعوا إلى ألحانه. وقلت له: “ذكّرني أن أرسل إليك بعض نماذج من تجارب الكوريين مع الكاشف وآخرين لتقف نفسك العالمة على الذي أضافوه إلى ألحانه“.
كتب إليّ: “أشكرك على الشريط الكلاسيكي الأول، وأقترح إن تتخيّل ستيفي ووندر وأنت تستمع إلى خضر بشير. أتخيّل أن خضر بشير سبقه بمراحل. أحني قبّعتي إجلالاً لعقد الجلاد وحنان النيل ومصطفى سيّد أحمد، والذي أعجبني في جزء رشا شيخ الدين. الموسيقى فقد كان تسجيلها ألمع، وغير ذلك لم أستوعبها بعد. شكراً على أيّة حال.
تذكّرني مطالعة هذه الرسالة بعندما ذهبت أديبنا والمذيع المخضرم محمد صالح فهمي، عندما ذهب إلى الـ BBC منتدباً من إذاعة أمدرمان، وكان عليه أن يذيع الأخبار من هناك لأوّل مرة، فقال مفتتحاً النشرة بقوله: هنا أم درمان. آسف أقصد لندن. وكانت نكتة من ناحية واعتراف بكفاءة الإنسان الفنّان وبساطته من ناحية أخرى.
هذا ما ذكّرني بذلك وضوحك وانفعالاتك وتخيّلاتك وأنت تستمع إلى الموسيقى، وماذا تفعل وبك وبأفكارك. أمّا ذكراك مع الأستاذ الفنان بشير زمبه، وقصص “الميز” (1) أحسستني بغيرة لفوات الفرصة حتى أشارككم وأتعلّم منكم الفن بأسلوب محلي متطور. من منّا لم يعش في “ميز” في الخرطوم، حتى ولو كان من الجريف أو بحري أو توتي (2). ناهيك عمّن أتوا من بعد الصحراء والغابات. وكانت الطيبة والاعتزاز بالنفس والحرية المقبولة صفات تجمعنا جميعاً، وهذا واضح في أعمال فنّانينا الذين أرسلت لي تسجيلاتهم، وأوّلهم الأستاذ الملحن الموسيقار ابراهيم الكاشف الشاعر المغني.
وكأنني أستمع إليه لأول مرة. الأميّة لا دخل لها في ذلك وانظر “مع احترامي” ماذا صنعت من الرسول عليه الصلاة والسلام. ولكننا لو حاولنا البحث في أعماله، نجد فن الميلودي عميق ببساطة، أو قل السهل الممتنع. رغم ذلك إنه ارستقراطي التفكير، فالنقل وحلاوة التنقل والعودة للأصل كلّها تعّبر عن إحساس الزمن الذي عاشه هذا الفنان. مجتمع مترابط قابل للناس كما هم، لأنه يدري بأنه لن يجد ما يريد.
من تعاليم جدي عبد الله حمزه “رحمه الله“: حلاوة الصوت وحلو الصدر من نقر الهواء لتأدية النغمة العالية الطويلة ينبّهان على هناء في المطعم، وصفاء في الملبس ونظافة في الشم. فالطعم متوفّر، والملبس ناعم حتى ولو كان صوفاً في الصيف وحريراً في الشتاء والهواء عليل. وكل هذا يعطي صورة لمجتمعنا ذلك الزمن.
حبس صوت هذا الرجل لسنين لأسباب كثيرة: أوّلاً مراكز القوى الفنيّة والغيرة، وكذلك الغرور بقلّة من المعلومات في هذا الفن المشترك. وحرمنا نحن من كلاسيكياتنا، ليس في الفن فقط، ولكنه واضح في السياسة والتاريخ. ولولا أنهم يخجلوا لتدخّلوا في الجغرافيا أيضاً. فمن نسي قديمه تاه. هذا ليس في بلد بعينه، ولكن في أي بلد ينتمي للعالم الثالث من أفريقيا وجنوب أمييكا وحتى الشرق الأوسط. أما البلاد الأخرى فتحتفل سنويّاً بذكرى فنان، حاكم، طبيب، قدّيس، سنويّاً. وهاك احتفالات شكسبير وجورج واشنطن ومارتن لوثر كنج وخلافه.
يا أخي، باختصار أودّ أنّ أرى وأسمع كلاسيكياتنا، وأرى الناس ترتفع إلى الإنسانيّة رحمك الله يا أستاذ يا شاعر يا موسيقي يا مغني يا فنان يا ابراهيم الكاشف. الفاتحة“.
وكتب في رسالة أخرى ردّاً على بعض الطلبات التي ذكرتها في رسائلي له قائلاً: “أولاً أشكرك على إعادتي لقرون مضت على استقرار بلادي وبلادك التي تبدو في أعمال فنانينا المخضرمين المتصلين بعالم الابداع الهادئ. والاتصال الراكز على أسس الشخصيّة السودانيّة آنذاك.
هذه هي المحاولة الثانية، ومرسل لك المحاولة الأولى أيضاً لأنني بدأتها بالحديث عن موسيقارنا الأمّي ابراهيم الكاشف. أمّي ظاهراً ومثقّف باطناً. أين منا اليوم من حرف الدال الذي التصق بأسماء عديدة لا تتعامل أصلاً إلا في الموضوع الذي وهبوا ذاك الدال فيه، وأصبحوا كتّاب صحافة لا يستطيع قارئها أن يفهمهم عن ماذا يتحدثون. وأصبح منهم وزراء لأنهم قريبين لمن تخرج معهم من نفس الجامعة، أو ذكريات مرحلة ثانوية وخلافه. ويعيش هؤلاء بين خطين الأصالة من ناحية، والأخذ بالثقافة التي اكتسبوها من المكان الذي منحوا فيه دالهم هذا ناحية. أين هؤلاء من ابراهيم الكاشف وعصره. تاه بعض أصحاب الدالات وأساؤوا إلى البعض الآخر مع الاعتذار.
بالحديث عن حياة حمزة، سبقت اليابان كل البلاد التي أنا منها أو عشت فيها ونشرت قصة حياتي باليابانية منذ عام 1990 وهي الآن في الطبعة الخامسة. حضر إلي وقتها شخص ناشر وعرض على عمل وهو أن أكتب عن نفسي. فاندهشت وعارضت لصغر شأني، فقال لا عليك إننا نعرف مقدارك وهو عمل سندفع لك عنه وهاك أول دفعة وسكرتيرة وآلة كاتبة. أخذت مني أربع سنوات بعدها نشر في 1990. وجدت نفسي خالي الأسرار وأحتاج إلى ذكريات جديدة حتى أكون إنساناً حيّاً. أيهما يقصد من يسألني أن أكتب عن نفسي وتجاربي ومن أنا حتى أكون وأن أصبحت فمن أكون.
سأتصل بهاشم وأم الخير كمبال والمرضي وأبلغهم تحياتك وذكرياتك مع زمبه.
إن وجدت أخطاء إملائيّة أو لغويّة في هذه الرسالة فالاعتذار مسبقاً.. فأنا عجمي “وأعتز بذلك“، وبالتالي إن اللغات الستة التي أتعامل بها تختلف، فالإيطاليّة والإنجليزيّة يستهجون نفس الكلمة باختلاف، واليابانيّة والنوبيّة ليس فيهما gender. محمد خرجت، زينب أكل. والمفعول به في أول الجملة والفعل في نهايتها. لخبطة يا أستاذ فأعتذر لمساعدتي إياك في الجهل بالكتابة.
شكرا، ويتقبل الله دعواتي بأن يتقبّل دعواتك ويحفظها ببركة الحمد لله رب العالمين
باخلاص دائم
حمزة علاء الدين
(1) الميز: السّكن.
(2) أسماء أحياء في ضواحي الخرطوم.
تنشر هذه المراسلات بالتعاون مع صفحة حمزة علاء الدين على الفيسبوك، ومنتدى سودانيز.