قوائم

بلوغ مبكِّر | ٧ من أغاني الأطفال العرب

هيكل الحزقي ۲٦/۰٤/۲۰۱۷

جزء كبير من الموروث الغنائي الشعبي قائم على أغاني وأهازيج الأطفال، ففي مساحاتهم اليومية المشبعة بالخيال والدهشة والحركة يبدعون فيما بينهم جملًا مسجوعة ومقفاة، تبدأ بسيطة ثم تتراكم عليها الألحان والكلمات حتى تكتسب صبغة غنائية.

في هذه القائمة، نرصد سبع أغانٍ للأطفال مرتبطة بسياقات مختلفة كاللعب والمواسم الفلاحية والخصوصيات الثقافية لبعض البلدان العربية، وتحولات البعض من تلك الأغاني وارتباطها بسياقات سياسية مستحدثة، مع محاولة إخضاع النص الغنائي إلى قراءة تحليلية.

أشتاتاتا | المغرب

حضور المطر في أغاني الأطفال ملفت وخاصة في المجتمعات الفلاحية، إذ يعود ذلك إلى ارتباط عالم الغناء لديهم بطقوس العمل من حولهم في القرى والمدن والحقول. في المغرب، يردد الأطفال أهزوجة شعبية بعنوان أشتاتاتا (من الشتا، أي المطر) عند أول هطول للمطر. يهرعون إلى الشوارع والأسطح احتفالًا بهذا الحدث لالتقاط زخات المطر مرددين “أشتاتاتا أوليدات الحراثة”. الأغنية حاضرة أيضا كتهويدة شعبية ترددها الأمهات لصغارهن لكي تجلب لهم النوم. بقيت أشتاتاتا موروثًا شعبيًا مقترنًا بمناسبة بداية فصل الأمطار، وفي بداية التسعينات التي تزامنت مع صدور شريط لمجموعة حنظلة المغربية، اكتسبت الأغنية رمزية مختلفة بعد أن قدمها سعيد وهجر، أعضاء الفرقة، في شكلٍ جديد مع الحفاظ على بنية اللحن وتغيير النص بإضافة مقاطع حمّلته ثقلًا سياسيًا. تأسست الفرقة في فرنسا بمدينة جانفلي بضواحي العاصمة باريس ولم تعمر طويلًا، فيما اقتصر إنتاجها على شريط واحد تضمن تسع أغانٍ غلبت عليها النبرة السياسية الملتزمة.

ارتبطت أشتاتاتا بسياق تاريخي تزامن مع تداعيات برنامج إعادة الإصلاح الهيكلي الذي فرضه صندوق النقد الدولي على المغرب أواسط الثمانينات، والذي كان له تأثيرات سلبية على القطاع الفلاحي. بأدائها للأغنية، أرادت فرقة حنظلة أن تسرد مأساة “وليدات الحراثة”، أي صغار الفلاحين في مغرب الثمانينات، أمام سطوة الفلاح الكبير، “المعلم بوزكري” كما أشير إليه في الأغنية، وبوزكري اسم شائع في المغرب تتمثل دلالته الرمزية في الإشارة إلى مكناس التي تتواجد بها أراضي فلاحية شاسعة تعرف باسم أحباس بوزكري، تناوب أحفاده على حمل لقبه وفلاحة تلك الأراضي. هكذا تحولت اشتاتاتا من أهزوجة شعبية يرددها الأطفال إثر نزول المطر إلى لازمة سياسية سجلت حضورها فيما بعد في الحراك الميداني للمغاربة.

وينو حوش بوسعدية | ليبيا

في أزقة الأحياء في ليبيا، يظهر شخص يرتدي قناعًا من أصداف البحر مع قطع من المرايا على رأسه وطير كبير فوقه. يتدلى قرن غزال على جبينه ويضع حول وسطه حزامًا من عظام الكلاب والثعالب والخرق الملونة وعلب الصفيح الفارغة فيما تحيط القواقع والأصداف بمعصميه وكاحليه. يسير الرجل محدثًا حوله جلبة بفرقعات الأصداف وحاملًا على كتفه الدنقة (الطبلة) التي ينقرها بعصاه. إنه بوسعدية، أو مجنون سعدية، وهي شخصية تراثية حاضرة في الخيال الشعبي لكل من ليبيا وتونس. تشير الأساطير إلى كونه أحد ملوك إفريقيا الذي اختطفت ابنته سعدية وتم بيعها في سوق العبيد قديمًا. لم يستطع الملك تحمل ألم فقدانه لابنته فتاه في المدن البعيدة مرتديًا ذاك القناع حتى لا يكشف عن هويته، بحثًا عن ابنته وسائلًا عنها في كل حارة. بوسعدية لديه حضور رئيسي في موسيقى السطمبالي في تونس، والتي نشأت إثر هجرات العبيد السود من جنوب شرق إفريقيا وبحيرة التشاد إلى أسواق الرق، حيث كانوا مقيدين بالسلاسل والأصفاد.

بقيت الشخصية متجذرة في الخيال الجماعي خلال حضورها في الأغاني والألعاب الشعبية في تونس وليبيا. يركض الأطفال وراء الرجل الحامل للقناع متسائلين “وين حوش بوسعدية” (أين بيت بوسعدية) فيجيبهم “مازال القدام شوية” (لا يزال إلى الأمام)، وكأن هنالك تمثيل لصورة الزنجي الذي يبحث عن جذوره في ظل تنكر المجتمعات المحلية البيضاء لوجوده، فيما كانت صورة سعدية، ابنة الملوك المفقودة ترميزًا لرحلة البحث عن الذات الأقلية المهمشة وسط العدد الجمعي ومحاولة فرض وجود لها.

إيفافا اينوفا | منطقة القبايل بالجزائر

في منطقة القبايل في الجزائر على سفوح جبال دجرجرة الباردة القاسية، يحيط الأطفال بجداتهم وهنَّ يغزلن أقمصة الصوف بانتظار أن يمن عليهم الجد الذي يلبس البرنس التقليدي بحكايات وخرافات شعبية. أغنية إيفافا اينوفا التي أداها أدير سنة ١٩٧٦ تعيد رسم ذلك المكان وأجوائه الشتوية من داخل البيت التقليدي القبايلي، وتصور لهف الأطفال إلى قدوم الربيع بعد أن سجنهم الشتاء داخل منازلهم. الأغنية مأخوذة عن خرافة شعبية قبايلية أعاد كتابتها محمد بن حمدوش، وتسرد كلماتها قصة بنت غريبة تطرق على الباب الذي أثقلته الثلوج في الخارج، وتنادي على أبيها حتى ينقذها من ذئب الغابة. لكن الأب خائف، ويطلب من البنت أن تحرك أساور يدها حتى يدرك الصوت ويكذّب مخاوفه.

صورة الذئب تكاد تكون كونية من خلال حضورها الدائم في خيال الأطفال وأغانيهم والخرافات التي يسمعونها. يمكن القول هنا بأن قصص الأطفال – ومن ثم أغانيهم التي تنسحب عليها – تتشابك وتتقاطع بين مختلف بلدان العالم مع إضفاء تغيرات تتعلق بخصوصيات كل ثقافة. تتحول الخرافات والأساطير لدى الطفل إلى سردية تاريخية للعالم المتخيل الذين يسكنه، فتلك الحكايات تكون الأقرب إلى وجدانه لفهم العالم والخوض فيه. في مثال الأغنية القبايلية، نلاحظ اقتراب عالم الخرافة المحكية من قصة ليلى والذئب العالمية مع فوارق واضحة، ولكن بالحفاظ على عنصرين من القصة وهما البنت والأب. يمكن أن نكتفي بهذا القدر من الحكاية دون الخوض في قراءات حفرية وتشريحية، ولكن لو نعود مثلًا إلى قراءة عالم النفس الفرنسي برونو باتالهايم في كتابه التحليل النفسي لقصص الأطفال، فسنجد إشارة إلى ترميز قصة ليلى والذئب في تعرضها المبطن للمشاكل التي تواجهها البنت المراهقة من خلال تأخر الدوافع الأوديبية في لاوعيها.

يا معلمتي | فلسطين

لا يحتاج الطفل الفلسطيني إلى الكثير من الترميز المعتمد على تصوير الوحوش لأنها محيطة به أصلًا، وحاضرة في الحيز الجغرافي كآلة حرب متنقلة تتمترس بالمعدات العسكرية الثقيلة وتخلف وراءها التهجير والدمار. في أغنية يا معلمتي، يتساءل الأطفال: “يا معلمتي، إيجا الذيب”، والذئب هنا إشارة مباشرة للآلة العسكرية للاحتلال. “يا معلمتي هيدا الذيب اللي خبرتينا عنو بياكل لحم”. ينتقل النص إلى مرحلة مختلفة ليتميز عن تقريبًا كل أغاني الأطفال التي نشهدها في بلدان العالم العربي، وذلك من خلال حمله لبعد مختلف وإضافي وهو بعد المقاومة: “يا أولادي شوفو كيف بحمل البارودة وبعبي البارودة وينو الذيب؟”

تلخص أغنية يا معلمتي خصوصيات العالم الذي يجد الطفل الفلسطيني فيه نفسه، محكومًا بالوعي المبكر والواقعية المباشرة. لكنها في نفس الوقت لا تعكس كل الموروث الغنائي لأغاني الأطفال، لارتباط خزان هائل منه بأغاني العمل والمطر بالإضافة إلى التهليلات والمناسبات.

خواطر فيل | السودان

خواطر فيل كتبها ولحنها الموسيقي النوري الجيلاني، الذي قام بتضمين الأغنية بإشارات فلسفية حول خواطر فيل يروي مأساة اختطافه من غابته السعيدة إلى حديقة الحيوانات حتى يرمى في الأقفاص ويعرض للزائرين. يمكن تحميل أغنية النوري الجيلاني أكثر من مجرد كونها أغنية موجهة للأطفال، حتى وإن كان القالب الصوتي لها والكورال المصاحب في الخلفية يشيران بغير ذلك.

ديكي ديكي | تونس

بَصَمَت هذه الأغنية أجيالًا متعاقبة من التونسيين خاصةً وأنها كانت منتشرة بين الأطفال وحاضرة في البرامج التعليمية للمبتدئين. لكن منذ سنة ١٩٧٨ حوّلها رضا بلحاج خليفة إلى أغنية في قالب روك لاقت رواجًا كبيرًا وأصبحت منذ ذلك الوقت تسمى برضا ديكي. الأغنية على قدر من الديناميكية الراقصة ما جعلها لازمة صباحية لراديوهات تونس في الثمانينات. حاول رضا ديكي ألا يقتصر على النص الأصلي فأضاف إليها مقاطع أخرى من أغانٍ منتشرة للأطفال وصنع منها حبكة قصصية مترابطة.

بغض النظر عن ذكاء التوزيع والموسيقى اللذان كانا وراء نجاح الأغنية، لن نبالغ في القول حينما نحاول تفكيك الصورة الرئيسية الحاضرة للأغنية من خلال مثال الديك الذي يمثل رمزًا للفحولة والرجولة الفائضة، ونربطها بالانتشار الواسع لها كأغنية ناجحة، وكأن هنالك احتفالًا ضمنيًا بصورة المنتصر الذكوري في شخصية الديك. هنالك لاوعي جمعي ينطق من خلال الأغنية ويفضح عن نفسه في لازمة “ديكي ديكي”.

زكرياء | العراق

لهذه الأغنية مدلولات دينية، ففي كل أول أحد من شهر شعبان يُحيي العراقيون على مختلف طوائفهم يوم زكرياء نسبةً إلى النبي زكريا الذي أنجب طفلًا وهو في التسعين من عمره بعد أن ذهب في ظنه بأن زوجته عاقر. دأبت نساء العراق على تمجيد هذا اليوم والاحتفال به. تقوم العواقر منهن بإعداد صينية الحلوى والفواكه والمأكولات الشعبية لتوزيعها على الصغار الجيران وتصمن يوم زكرياء تضرعًا منهن حتى تتمكنَّ من الإنجاب. انسحب التقليد أيضًا على بقية أطياف المجتمع بفعل الذكورية الطاغية، فتحول لدى بعض النساء اللواتي ليس لهنَّ أولاد إلى مناسبة دعاء وتضرع حتى يتمكنَّ من إنجاب الذكور. شيئًا فشيئًا، صار يوم زكرياء مناسبة للتضرع والدعاء في شتى الحاجات، فالبنت تريد أن تتزوج، والعاقر تريد الإنجاب، أما مؤخرًا فتحولت تضرعات النساء والأمهات في يوم زكرياء بغرض الإفراج عن أسير ما في السجون أو أحد المخطوفين من الميليشيات. في هذا اليوم يحمل الأطفال طبولاً صغيرة ويجوبون الشوارع وهم يرددون أغنية زكرياء: “يا زكرياء عودي عليه / كل سنة وكل عام اهدي صينية”.

المزيـــد علــى معـــازف