أغاني الباعة في تونس Greengrocers' Songs in Tunis
عربي قديم

غرّبوك الجْمال يا حفصة | أغاني الباعة في تونس

هيكل الحزقي ۱۷/۱۲/۲۰۱۹

مرّت امرأة بدوية جميلة في جهة باب عليوة في المدخل الجنوبي لتونس العاصمة [نظرات في الموسيقى والغناء والفرجة، لـ محمد القرفي] حاملةً معها سلةً من البرقوق الأسود (العوينة في العامية التونسية) لبيعه في السوق. جرت العادة وقتها على أن يدفع التجار والباعة إتاوةً تسمى المَكس، وهي ضريبة الانتصاب في الأسواق[Mtooltip description=” فرش البضاعة وبيعها.” /] ولا تزال قائمةً حتى اليوم. عرضت البدوية بضاعتها على المارة، غير منتبهةٍ لقدوم مجموعة من الأعوان الحكوميين التابعين للباي لجمع الضرائب. تمنّعت البدوية عن الدفع إذ لم تكن تحمل غير سلةٍ من الثمار، فحملها الأعوان إلى القاضي الذي سألها عما حصل – أجابت بمكر: “العوينة الكحلاء (السوداء) تخلص المكس؟[Mtooltip description=” هنا تلاعب بالألفاظ بين تسمية العوينة – ويمكن فهمها كاسم تصغير للعين – في العامية التونسية، والعوينة بمعنى البرقوق. أي كأن المرأة تتغنج بعيونها التي تشبه ثمار البرقوق.” /] ردّ عليها القاضي بما جرت به كلمات الأغنية في ذلك الوقت: “العوينة الكحلاء ما تخلصش المكس.”

في قصة العوينة الكحلاء دليل على خصوبة الخيال الشعري والذكاء الشعبي في ابتداع حيلٍ كلامية طريفة، وحضور الأشعار والأغاني في المنطوق اليومي. يحتل الشعر الشعبي مكانةً أساسيةً وقديمة في الذاكرة الجماعية، ويعود استقراره إلى قدوم الهلاليين إلى إفريقيّة (الاسم القديم لتونس)، حيث جلبوا معهم إرثهم اللغوي والشعري. تسلّل الشعر الغنائي البدوي إلى شمال إفريقيا مع نهاية الدولة الصنهاجية حوالي سنة ١٠٤٨ ميلادي، إثر اجتياح أعدادٍ هائلة من قبائل بني هلال وبني سليم من الجزيرة العربية، ما أخلّ بالتوازن السكاني وأكسب المنطقة بداوةً لازمتها[Mtooltip description=” الصادق الرزقي، الأغاني التونسية صفحة ٤٢.” /]. استحسن أهل الحواضر أشعار البدويين البسيطة التراكيب ونسجوا على منوالها، ما جعل الكثير من الأغاني التونسية تستبطن تلك الآثار إلى اليوم. 

بقيت إشارات المؤرخين غليظةً في إحالاتها إلى الزحفة الهلالية. في كتابه الموسيقى وآلات الطرب في القطر التونسي، تحدث حسن حسني عبد الوهاب عن هجرة المغنين والموسيقيين إلى بلدان بعيدة بعد أن “طوحت بهم أيدي النوى لمّا حدثت الكارثة الكبرى: هجوم بني هلال وبني سليم على إفريقيّة”، فيما سبقه ابن خلدون منذ قرون في الإشارة إلى الزحفة الهلالية بالكثير من السلبية: “فنزلوا وخرجوا جنباتها، وأحبطوا عروشها وأتوا على ماهناك من الأمصار، فخرّبوها وأزعجوا ساكنيها”[Mtooltip description=” ابن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم و البربر ومن عاصرهم من ذوي سلطان الأكبر، الجزء ٦ صفحة ٤٣.” /]، وحذا حذوه ابن الأثير في اللباب في تهذيب الأنساب: “فعبر منهم خلق عظيم شقى بهم المعز ومن بعده إلى اليوم فسبوا البلاد واستحيوا الأولاد، وانتهكوا الطارف والتلاد، وحسبك بدخول مدينة القيروان شهرة، ووقيعة شنيعة؛ وإلى اليوم فالخطب بهم لا يرفع، والوطن الخطيب الرحيب قفر بلقع.”

رغم التحامل التاريخي على تلك الزحفات، إلا أن آثارها غيّرت من شكل اللغة والشعر والموسيقى على نحوٍ لم تشهده تونس من قبل.

غربوك الجمال يا حفصة | أقدم نص غنائي تونسي

كان المؤرخ محمد المرزوقي أقل حدةً من سابقيه في التعرض إلى الزحفة الهلالية، واحتفى في كتاباته بأن ذلك الحدث التاريخي كان وراء أقدم نص غنائي وصلنا إلى اليوم. أشار الباحث[Mtooltip description=” محمد المرزوقي، الأعمال الكاملة ٢ صفحة ٦٤.” /] إلى أن أقدم أغنية متداولة في تونس كان يرددها باعة التمور، إذ تناقلت الذاكرة الشعبية عن باعة نوع من التمر يسمى حفصة، كانوا يتجولون بالعربات في الشوارع خلال عهد الدولة الحفصية ويغنون: “غربوك الجمال يا حفصة / من مكان بعيد من سجلماسة ومن قفصة / وبلاد الجريد” (سجلماسة: مدينة في جنوب المغرب. قفصة والجريد: تقعان في تونس، وفيهما واحات مهمة)، في ذكرٍ للبلدان والمناطق التي كانت تنتج ذلك النوع من التمر. انتشر ذلك الضرب من الغناء ووصل الأندلس. يرجع المرزوقي أصل النص الغنائي إلى الزحفة الهلالية ويعتبره أقدم ما وصلنا مطلعه من الشعر الشعبي أثناء الفترة الحفصية، أي بعد قرنين تقريبًا من زحفة الهلاليين وترسّخ الآثار الثقافية لهم لتظهر على مستوى اللغة والشعر وبقية الممارسات. يذهب الباحث أبعد من ذلك في كتابه الشعر الشعبي، ويشير إلى استقرار الشعر الشعبي برمّته في منطقة المغرب العربي بعد الزحفة الهلالية: “لم يترك لنا التاريخ أي أثر لشعر منظوم باللغة الدارجة قبل منتصف القرن الخامس الهجري، أي قبل الزحفة الهلالية سنة ٤٤٣ هجري.” من آثار تلك الهجرة أن “سادت لغتهم (أي الهلاليين) وانتشر شعرهم ولم يبق بعد قرن من استقرارهم في البلاد مكان للشعر الفصيح إلا في الحواضر حيث توجد الثقافة ودواليب الحكم.”

قبل إشارة المرزوقي، ذكر لسان الدين بن الخطيب[Mtooltip description=” حسب ما أورده المقري في نفح الطيب، أحد أهم الكتب التي سلطت الضوء على تاريخ الأندلس وخصوصياته.” /] هذا الضرب من التغني للإشارة إلى أغاني الباعة وتجارة التمور ووصولها حتى الأندلس. يشير حسن حسني عبد الوهاب[Mtooltip description=” المرجع السابق، الصفحة ٩١.” /] إلى أنه يمكن أن نستدلّ على تداخل أخبار تونس والأندلس في عهد الدولة الحفصية بامتلاك الدولة الموحدية لكلا القطرين قبل استقلال الحفصيين، ما أدى إلى تقارب اللهجات مع كثرة نزوح الأفراد من الطرفين. في نفس الوقت، تحدث التيفاشي في متعة الأسماع بإسهابٍ عن تقاطع طرق الغناء بين المنطقتين. التأثيرات ظاهرة، خاصة وأن أشعار الأندلسيين ركّزت بشكل كبير على معاجم الرياض والجنان والحدائق، ومن البديهي أن تنتقل تلك الآثار بين الضفتين لازدهار حركات التجارة بالإضافة إلى تشكّل وسقوط دول عدة في تلك المنطقة. 

أورد الباحث عمر بن سالم في كتابه من الذاكرة الشعبية بعضًا من تلك الأشعار الغنائية في تعرّضه لقصص ونوادر ارتبطت بسياقات كلامية لا تزال دارجة إلى اليوم. عرّج الكاتب على أغاني باعة الثمار الذين يجوبون الساحات محملين بغلال الفصول وينشدون أشعارًا للترويج لبضاعتهم، مستشهدًا ببائع التوت الذي كان يقول:

“التوت يا مطعم التوت / والتوت عقاب مرارة 

على خاطره نحرم القوت / ونجلي لبر النصاره”

جمع الطاهر الخميري في كتابه، ضمن قاموس العادات والتقاليد التونسية، بعض التعابير الشعبية التي اعتمد مبدعوها على أساليب التعمية والمواراة في اللغة، من خلال توأمة معاجم الغلال مع مصطلحات أخرى مثل الإشارة إلى الخيار بـ ولد القمرة (تشير تسمية ابن القمرة إلى ارتباط نمو الخيار باكتمال القمر في أعراف الفلاحين) وترديد الباعة له: “نوّارك ساري ع القمرة يا فحل.” تستحضر التعابير الشعبية ترابطًا بين الفحولة وشكل الخيار، وتمتد كذلك إلى الشتائم البذيئة الحاضرة بقوة في كلاميات التونسيين، حيث تشير الفقّوسة، أي الخيار في العامية التونسية، إلى حركة شتيميّة تشكّل بوضع كفّ يد على ذراع اليد الأخرى. يتفنن أصحاب السلع في ابتداع تعابير مغرية ومسجّعة لكسب ود المارة، وفي أحيانٍ كثيرة تلامس تلك التعابير تصويرًا جنسيًا خفيفًا، مثل تغني الباعة بالطماطم: “يا خد الورد يا طماطم” أو “حمراء يا مزيانة.” 

كما أورد المرزوقي[Mtooltip description=” صفحة ٦٤، الأعمال الكاملة، الجزء الثاني.” /] غناء بائع اللمسي – نوع من التمر تنتجه قابس وأحوازها وجربة: “لمسية يا لمسية / بلادك جربة والمطوية.”

نلاحظ في هذا المثال شبهًا قويًا بِـ غربوك الجمال يا حفصة، من خلال استحضار نوع معين من التمور وذكر المناطق التي تنتجها، ليشكّل بذلك قوامًا لأغاني الباعة بالاعتماد على هاتين الخاصتين: نوع البضاعة والمناطق المنتجة لها. أتى المؤرخ الجزائري عبد الحميد الخالدي في كتاب الوجود الهلالي السليمي في الجزائر على ذكر نفس المناطق تقريبًا التي يستحضرها نص غربوك الجمال يا حفصة، خلال عرضه للآثار الإيجابية للزحفة الهلالية على المنطقة ونفي صفة الدمار والخراب التي يتحامل بها الكثيرون، حيث تحدث عن اشتهار مدينة قابس بمحاصيل الحبوب، وتخصص كل من قفصة بالإنتاج الزراعي وبلاد زاب (في الشمال الشرقي للصحراء الجزائرية) بتربية الإبل والبقر وزراعة النخيل. كما أشار الخالدي إلى تأثير القبائل العربية التي قدمت مع الهلاليين على الحياة الاقتصادية لبلاد المغرب نظرًا لخبرتهم في تنمية الموارد الحيوانية وبذلهم لمجهودٍ كبير لتوفير المياه للزراعة، وهو ما يمكن أن نستدل به على تسلل تقاليد التغني بالغلال والمحصولات من خلال الهلاليين.

على صعيدٍ آخر، لم تكن أغاني وأهازيج الباعة من تأليفهم الخاص دائمًا، حيث كان الشعراء المتجولون يقتاتون من بيع بعض الأشعار لهم. يروي لطفي منصوري عن صاحب الزبوبية عبد الرحمان الكافي أنه كان يبيع أشعارًا ترويجية للباعة ويعتاش من ذلك[Mtooltip description=” ديوان عبد الرحمان الكافي، جمع وتدقيق لطفي منصوري، صفحة ١٧.” /]. كما جمع الدوعاجي، أحد وجوه حركة تحت السور الأدبية، في قصيدته يبارك في ترابك يا تونس، أغانٍ منقرضة كان يرددها باعة الفواكه قديمًا. تلقف الفنان الفكاهي الهادي السملالي نص الدوعاجي، ووضعه في قالب أغنية قام فيها بمحاكاة أصوات الباعة قديمًا:

“هاو الشاش عذاب القايلة يا مشماش

مسكي غار الملح بلاده با لنزاص يا دوا للحسم والإحساس

خوخ الملوك تتهاديه بالسمع تعشق قبل ما تشريه 

جا من برقو فضة الماء عليه

ياللي بالعدة تفاحه مش غابي خد أحمر وخد رابي 

مسكر مازال كي طاح وظهر اسكر من لونه الشرابي”

ليست قصيدة الدوعاجي إلا تجميعًا لأناشيد ومقاطع قديمة، يمكن أن نستنتج منها ربط الغلال الفصلية بالمناطق التي تزدهر فيها زراعتها. قديمًا، كان الباعة يتراشقون فيما بينهم بالأغاني ويلهبون المنافسة أملًا في استدراج الحرفاء. مثّلت الأسواق والتجمعات التجارية القديمة مكانًا خصيبًا لازدهار تلك الأغاني، كان أبرزها السوق المركزية في تونس العاصمة الذي يطلق عليه تسمية فندق الغلّة، في مجازٍ جذاب نستدل به على مكانة الغلال في التاريخ الجمعي للتونسيين. يرصف الباعة بضاعتهم بإجلال ودلال، ويعرضونها على القادمين إلى السوق التي تحتلّ القلب المركزي لـ تونس العاصمة. 

أغاني الباعة بين حيل الجذب ومعاجم الإغراء 

تتداخل أغاني الباعة مع التعبيرات الشعبية التي تتناول مفاتن النساء بنفس الإشارات. الاعتماد على معجم الغلال لتصوير مفاتن المرأة قديم، وهو ضرب من ضروب التعمية والتشفير الشعري في الشعر الشعبي والأغاني القديمة، رغم أن بعض الأشعار أو الأغاني كانت تشير إلى تلك المفاتن بدون مواراة، مثل تغزّل الشاعر أحمد ملاك الصريح: “بزازيل حكّرتهم بالنظر (أثداء أمعنت فيها النظر.) / فوق الصدر / مماليك لبسوا شواشي حمر”. بينما جمعت أشعار أخرى بين التلميح المباشر والمواراة، معتمدة على نفس أساليب الباعة في التغني بغلال المناطق التي اشتهرت بها:

“بزولك عالصدر نطق / مثيل تفاح من بر الروم 

ملا تفاح / وجفونك باهيات صباح 

واعضادك شمعات ملاح / تجلي عني كل هموم[Mtooltip description=” الصادق الرزقي، الأغاني التونسية، صفحة ٢٤٩.” /]”

في هذا المغنى، تجاوز التشبيه النطاق المحلي ليمتد إلى برّ الروم[Mtooltip description=” في الأصل تشير الروم في العامية إلى الرومان الذين احتلوا البلاد قبل التاريخ، ثم أصبحت كنية للاستعمار الفرنسي، ثم أصبحت تشير إلى كل الغرباء القادمين من الشمال.” /]. يبدو أن الشاعر المغني شديد التأثر بالجمال الأجنبي، لكن الغلبة تبقى دائمًا للمحلي:

“شوف شعرها / مثيل الغراب سكن ظهرها 

رمان رفراف[Mtooltip description=” رفراف مدينة في أقصى الشمال تتبع ولاية بنزرت.” /] فوق صدرها / هي عمري ودمي الغالي[Mtooltip description=” الأغاني التونسية، صفحة ٢٦٣.” /]”

ما نراه في الاستعارات التي تعتمد على تشبيه المفاتن بالغلال المحلية، هو تعمد الشاعر كسب فضول الجميع وإغرائهم باستحضار الأماكن التي زارها عن تجارة أو سفر، لتبدو قصائده وليدة تجربته الغنية كثيرة الترحال، يمارس من خلالها الإغواء في وقتٍ كان السفر فيه شبه مستحيل على النساء، وعلامة ثراءٍ وترف لبعض الرجال. يصبح رمان رفراف أو تفاح الروم منشودًا من قبل السامعين أو المرددين للمغنى، لتتطابق الصورة مع منشود آخر بعيد هي مفاتن المرأة. 

في أحيان كثيرة، تجتمع معاجم الغلال والجنس في قالب واحد مع مراوحةٍ جذابة:

“جاني لجنينة / يا الأغنج يا مذبل عينه 

ديني على دينه / عضّ الشفة مع البزول 

جاني للسانية / لقاني نزرع في القطانية 

قال لي يا زانية / سانيتك عملتشي سبول[Mtooltip description=” الأغاني التونسية، صفحة ٢٧١.” /]”

من سياق هذا المقطع من الغناء القديم، نفهم أن المغنية امرأة. يلتبس المعنى حين تتحدث عن الجنينة والسانية (الحقل في العامية التونسية)، وتشبههما مع جسدها الذي ينتظر نضج المفاتن. يحملنا الشطر الأخير إلى أسطورة حاضرة في العديد من مناطق تونس: ‘اللي ما يدري يقول سبول’. السبول هي سنابل القمح التي تشتد طولها للحصاد. تشير القصة إلى أن أحد المالكين كانت لديه ابنة فائقة الجمال، أحبت أحد العمال لدى أبيها. في وقت الحصاد، اجتمع العاشقان عند مكان تجميع السنابل وتبادلا القبلات. تفطّن ابن عم الفتاة إلى صنيعهما ووشى بهما إلى الأب الذي هرع إلى المكان وشهد الواقعة، فبدأ بمطاردة الفتى الذي فر إلى القرية وهو يصرخ وراءه: السبول السبول. حاول الناس التدخل ومنعه عن ملاحقة الفتى، ظنًا منهم أن المالك يريد معاقبته على اختلاس المحصول أو تكاسله في العمل، فقال: ‘اللي ما يدري يقول سبول’.

من الشائع تشبيه الجسد بالجنان والحقول في الشعر الشعبي، نظرًا لتشابه هندسة الغلال مع شكل المفاتن غالبًا. كما يمكننا الحديث عن استعارة عكسية من خلال تسمية بعض أنواع الغلال بمفاتن أنثوية. يُطلق على بعض أنواع العنب “بزّول خادم”، في استحضار لصورة ثدي الخادمة الأسود للإشارة إلى العنب شديد السواد (black royal). حتى في بعض الألعاب الشعبية التونسية، هنالك تدريج لأهزوجة يشترك فيها الأطفال والجدات من خلال تسمية أصابع اليد، وحين يصل الدور إلى الإصبع الأوسط يُطلق عليه: “طول بلا غلّة” (طويل من دون غلال)، أي أنه بدون فائدة تذكر بين بقية الأصابع. لكن الغلبة كانت دائمًا لتشبيه المفاتن باستحضار معاجم الغلال. حظيت بعض الأنواع بقسطٍ وافر من الاستعارة والمجاز، ولعل أكثرها حضورًا هو الرمان. تشهد الذاكرة الغنائية التونسية على إحدى أقدم أغاني المجون بعنوان يا رمانة يا رميمنة. فسّر عالم الاجتماع أحمد خواجة، في كتاب الذاكرة الجماعية والتحولات الاجتماعية من مرآة الأغنية الشعبية، انتشار هذه الأغنية بتزامنها مع بروز بوادر تحرر المرأة، لكنها جاءت معاكسةً لهذا المنحى بمعاداتها لخرق المرأة للفضاء الرجالي المحظور وقتها، وتهكمها على خروجها إلى الشارع واستعمالها لصورة ماجنة جعلت من المرأة كائنًا يسهل التغرير به: “قال لها الجزار هز لي القدم، فرفعت قدماها ليعطيها اللحم”. أشار الباحث في التراث الشعبي علي سعيدان، في مدونته خيل وليل، إلى أن أغنية يا رمانة يا رميمنة كانت حاضرة في الإذاعات، وتطرّق لاعتقاد العديد بأنها من أغاني التربيجة أو الهدهدة. مردّ ذلك الالتباس كون الرمان من أكثر الإشارات التي يرمز بها إلى الأثداء الممتلئة، في نفس الوقت، اسم التصغير الحاضر في الأغنية “رميمنة” دارج جدًا في أغاني الهدهدة وفي القوالب الخطابية التي تتواصل بها الأمهات مع الأطفال.

“يا رمانة يا رميمنة / وسيع رميمنات في عريجنة

مشت رمانة تشري في اللحم / قال لها الجزار هزي قدم

هزتلو قدمين وعطاها اللحم / وقال لها يا للا تعرس بالهنا 

مشت رمانة تشري في السواك / قال لها العطار خليني نراك

ورته وجهها وعطاها السواك / وقال لها يا للا تعرس بالهنا

مشت رمانة تشري في الحليب / قال لها المعّاز هزلي نصيب

هزت له شوية وأعطاها الحليب / وقال لها يا للا تشرب بالهنا”

رغم استئثار الثمار المكوّرة، مثل الرمان والتفاح، بأغلب إشارات الغزل والإباحة في الشعر الشعبي، اكتسبت التمور رمزياتٍ مختلفة. علاوةً على استئثارها بأقدم نص غنائي وصلنا اليوم، سجّلت معاجم التمور حضورها في الرصيد الغنائي في بعض مناطق الوسط والجنوب، لاقترابها الجغرافي من المجال الواحي ومساحات النخيل. في مدينة جبنيانة المنتمية تاريخيًا إلى المجال القبلي للمثاليث، يتناقل الناس في الأعراس ومجالس المسامرات أغانٍ لها اتصال وثيق بمعجم التمور. من الأغاني المنتشرة في تلك الربوع، صباعك بسرات، التي أعادت فرقة شمس جبنيانة توزيعها. تستحضر الأغنية كلمة البسرة، وجمعها بسرات في المنطوق العامي للأهالي هناك. تشير التسمية إلى إحدى مراحل نضج التمر قبل أن يصير رطبًا. يحملنا المجاز إلى تصويرٍ شهواني ارتبط في خيال الشاعر أو المغني بقوام فتاةٍ يافعة لم تمسه خشونة الأرض بعد: “صباعك بسرات والكفوف محنّية” (لا تزال أصابعها ندية ولم تخدشها قسوة العمل في الحقول). من النادر أن تجد فتاة في تلك الربوع لم تتمرس أصابعها الفلاحة منذ سن مبكرة، ما جعل أغنية صباعك بسرات مثالًا عن الجمال اليافع المحبّب إلى شبان تلك المناطق. 

يحضر معجم التمور كذلك في التراث الغنائي المشترك بين الجزائر وتونس من خلال أغنية رد عليا يا بنية العرجون، وهي من تراث واد سوف في الجزائر المتاخم للحدود التونسية. ترددت الأغنية كثيرًا مع عبد الله المناعي الذي عاش في تونس وقدم أغانٍ امتزج فيها تراث البلدين. تختلف القراءات والتأويلات لنص الأغنية، منها ما يشير إلى أن الرجل أحب صبية من عرش جليل، لهذا وصفها ببنت العرجون، كمجاز لشجرة عائلتها الموغلة في النسب. بعض القراءات الشعبية الأخرى أوّلت كلام الشاعر بأنه قد أحب امرأة ومن ثم عشق ابنتها، لهذا اختار التعمية عن مقاصده بعبارة بنت العرجون، وكأنه يقول بأن أمها كانت الأصل. موضوع الأغنية حزين، إذ يستهل المناعي أدائه بموال طويل يستحضر فيه مروره باللحود، أي القبور، في استحضار لحبيبته الغائبة على ما يبدو.

نرى في أغنية يا بنية العرجون ومثيلاتها، بالإضافة إلى جمع الأناشيد والأهازيج والنداءات الخاصة بالغلال واستحضارها في الأغاني الشعبية، مراوحتها في استعمال تلك المعاجم بين التشفير والتصريح. يمكن القول بأننا ندين بتلك الجماليات إلى الزحفة الهلالية رغم آثارها التدميرية. غيّر الهلاليون من نمط العيش في بلاد المغرب، ما جعل تجارة الخضر والغلال مزدهرة. مع انتقال بعض الأرياف إلى التحضر وتعاظم حركات التجارة، تسللت تلك التقاليد الشعرية البدوية التي أتى بها الهلاليون إلى الحواضر، فاعتمدها سكانها. يشير ابن خلدون في كتاب تاريخ العبر إلى أن المغلوب مولع دائمًا بتقليد الغالب، ولهذا يسعى دائمًا إلى مسايرة أحواله، ما يجعلنا نفهم بشكلٍ أوضح تبني سكان الحواضر لأشعار البدويين وسعيهم لمسايرة جمالياتها.

المزيـــد علــى معـــازف