.
استشرنا مجموعةً من من أهم عازفي وعازفات العود في العالم العربي، ليختاروا ويكتبوا لنا عن تقاسيمهم المفضلّة. حرر القائمة ياسر عبد الله وعبد الهادي بازرباشي، وانتخبا تقسيمةً واحدة عندما رشَّح العازفون أكثر من تقسيمة، لتكتمل هذه القائمة من عشرين من أفضل تقاسيم العود في تاريخ الموسيقى المسجلة.
أصبحت التقاسيم أشبه بصنفٍ موسيقي مستقل، قد تُشکّل المحور الرئيسي في عروض مخصصة لموسيقى الآلة؛ بخلاف ما كانت عليه عند نشوئها الدولة العثمانية، القرنين ١٦-١٧، حيث تلخصت وظيفتها بالانتقال ما بين فقرات الفاصل (صوتي أم آلاتي) في الموسيقى العثمانية. كما يدل الاسم، كان الهدف منها إظهار تقاسيم المقام هذا برأيي هو التفسير المناسب لتسمية تقاسيم، وقد يجوز أيضًا كونها شکلت القواسم ما بين فقرات الفاصل، أي: قسماته وملامحه، بأداءٍ منفردٍ ومُرسل (متحرر من الإيقاع). مع مرور الزمن، أثارت التقاسيم شغف العازفين وحماس الجمهور، فتحوّل الفاصل إلى مجموعة من التقاسيم تفصل بينها بعض البشارف والسماعيات، وبطبيعة الحال حاول بعض العازفين البحث عن الجديد، ولم يکتفوا باجترار السير المقامي أو السِّکَك المقامية المعروفة والمتوارثة، ما أدى إلى نتيجتين، الأولى: هدم الهيراركية السابقة ما بين مقامات رئيسية ومقامات فرعية ومقامات مركبة وتراكيب نغمية هذه التغييرات اختمرت في القرن التاسع عشر، ويمکننا أن نسميها تَعويم المقام. التقاسيم التي تنتقل من مقام إلى آخر تسمى تقسيم آرا، الثانية: ظهور عشرات المقامات التجريبية الجديدة، كانت بمعظمها تراكيبًا نتجت عن أمزجة سلالم وأجناس مختلفة لم تكن متاحة في ظل دكتاتورية المقامات الرئيسية السابقة على سبيل المثال: مقام النهاوند هو أحد المقامات المستحدثة عن سلفه البوسليك؛ وأيضًا مقام الهزام الذي ظهر بدايةً كعبارة نغمية ثانوية في مقام عُزّال (صيغة قديمة لمقام حجاز) ثم تحول إلى مقام رسمي.
عدا عن الثقافتين العربية والتركية، فالتقاسيم معروفة أيضًا في الموسيقى الهندية، حيث يبتدئ عزف المقام (راچ) بفقرة مُرسلة تسمى آلاپ، يقوم العازف خلالها بتحرير المقام وبسط نغماته وملامحه اللحنية المميزة على اختلاف أهمياتها، وهي فقرة مرسلة يرتجلها العازف وفقًا لمهارته وقراءته للراج المطلوب. أيضًا، هناك المقام الفارسي دستكاه الذي يتعسر عرضه أو تعلّمه بشکل سلم خَطّي أوكتافي، بل بأسلوب تقاسيمي يتم خلاله تراكم الخلايا النغمية الصغيرة تدريجيًا إلى أن تكتمل قسمات المقام بشکل وافٍ ومقنع.
ما يوحد التقاسيم في هذه الموسيقات الشرقية جميعًا هو حتمية الاستناد إلى مرجعية موروثة ما، وهو ما يولّد التناقض ما بين جهوزية المحفوظ وبين عفوية المُرتجَل؛ أو يولد الصراع ما بين الأصالة والتحديث. فمن جهة، لکل من هذه الثقافات لغتها ومناخها وجغرافيتها الموسيقية المميّزة، ولسنا ننتظر من تقاسيم السنباطي أن تحملنا إلى مناخات برلين أو لندن، بل إلى القاهرة. ومن جهة أخرى، لا نريد للتقاسيم أن تتحول إلى نصوص محنطة مکرورة، يتناقلها العازفون ويرددونها على أسماعنا بغية إحالتنا إلى الخدر التطريبي والحنين إلى القرون الخوالي. اللافت هنا أن المتأخرين لم يکونوا المجددين بالضرورة. على سبيل المثال، امتازت تقاسيم القصبجي (السابق) بثورتها المستديمة على النهج الموروث لآلة العود، سواء من ناحية استخدام الريشة بأسلوب مخالف تمامًا للمدرسة المصرية، أو من ناحية تناۇل المقام من زوايا غير تلك المتوقعة واختبار سکك مفاجئة؛ في حين فضّل السنباطي (اللاحق) إبراز جماليات المقام بصورته النموذجية والکلاسيکية هذا ينسحب إلى حد كبير أيضًا على الروح التجديدية الجريئة التي امتاز بها عازف البزق محمد عبد الکريم عن أجيال لاحقة من العازفين المهرة مثل مطر محمد. المثال الآخر هو التركي جميل الطنبوري (١٩١٦)، الذي لم يحاول تحطيم سير المقام، إلا أن درجة اختمار المقامات في ذهنه ولّدت تقاسيمه البليغة حد الإعجاز، أقصد كونها مدهشة بعمقها وتركيبها التأليفي إلى جانب احتفاظها بالمناخ الموسيقي الشرقي مکتملًا. تلك بنظري الأحجية التي تجعلها لا تفقد نضارتها ولا روحها العفوية حتى عندما أستمع إليها اليوم بعد مرور قرنٍ كامل على وفاة صاحبها.
بطبيعة الحال أتوقع من التقاسيم أن تأتي منسجمةً مع روح الآلة وخصوصياتها. مهما بلغت براعة المؤدي الموسيقية، فالتقاسيم لا تعيش في فراغ مستقل عن آلة المنشأ، ولا تكتمل بلاغتها إلا إذا انبثقت عضويًا عن صوت الآلة المعينة وعبّرت عن مزاياها ومکنوناتها. يجب على الآلة أيضًا أن تُملي شخصيتها على العازف، الذي سيقوم بعرض المقام المعين تماشيًا مع آلة العود حصرًا، وبرؤية مختلفة عن عرض نفس المقام على آلة الکمان مثلًا. من هنا نريد للعود أن يکون عودًا، لا نوعًا من الجيتار الشرقي؛ ولسنا بحاجةٍ إلى تسخير آلة القانون لکي تتحول إلى هارپ. مهارة العازف هي مسألة هامّة بلا شك، سواء لياقة الأصابع أثناء العفق أم دقة التحکم بالريشة؛ والطبيعي، بل الضروري، أن يقوم العازف بتوظيف كل مهارته التقنية في أداء التقاسيم وكشف تفاصيل المقام وثناياه تبعًا لرؤيته الشخصية. لکن من المهم ألا تتحوّل المهارة التقنية إلى هدف بحد ذاته، أو أن تتفوّق التقنية على النغم وتجيّره، وهذا منزلق خطير يقع فيه جزءٌ كبير من العازفين. فإن إبهار الجمهور بالمهارات التقنية هو شأن واحد وقد يکون له عشاقه، أما إبهار أذن المستمع وذهنيته فهو ما أنتظره حين أستمع إلى التقاسيم. لو استمعتُ إلى السنباطي لا أجد تقنيات مبهرة أو مهارات أكروباتية، ذلك لأن بلاغة المقولة الموسيقية متزنة تمامًا مع ما تحتاجه من التقنيات؛ وحين يُفقَد ذلك الاتزان تتحول التقنيات إلى مکياج ومساحيق تجميل فائضة عن الحاجة، بل وتشوه ملامح الوجه الطبيعية. مثال آخر في الموسيقار عبد الوهاب الذي لم يتمايز أبدًا بمهارة تقنية كعازف عود (إلى حد أنه كلّف عازفين مهرة بأداء دور العود في تسجيلات بعض أغانيه)، ومع ذلك فلو أصغيت إلى تقاسيمه على العود تجدها مکتملة البلاغة والجمال لکونه ملحنًا فذًا، وله بصمته الفردية الخاصة، وهو المطلوب أساسًا من مؤدي التقاسيم. هنا يتألّق أيضًا الشيخ محمد رفعت بصوته الليّن الذي لم يتمايز يومًا بجهارته ولا باتّساع خامته وامتدادها ما بين طبقات عالية ومنخفضة، مع ذلك يبقى تجويده للقرآن أحد أهم مدارس فن المقام والارتجال المعروفة لي عربيًّا.
خالد جبران عازف عود وبزق ومؤلف فلسطيني، درّس الموسيقى ونظرياتها، وأسّس مركز الأرموي لموسيقى المشرق.
أحببت تقاسيم الأستاذ منير بشير لميزاتها الروحية الممزوجة بتقنية عالية. من أهم تلك الميزات استخدام الصمت الذي أشاعه بشير ببراعته في استخدامه، والأهم، الجمل الموسيقية التي تسبق وتلي الصمت، وذلك يعتمد على ذائقة وحس الموسيقي ومدى تطور مداركه وثقافته الموسيقية. بالإضافة إلى ذلك، تحمل تقاسيمه طابعًا تأمُّليًّا، يدركه سمّيعته بالإنصات لتناسق جمله وطول أو قصر الجملة وضلالات النغمة أثناء الصمت.
تقنيًا، تمتاز طريقة استخدام الريشة في تقاسيمه بالنقاء الصوتي والخفة والإتقان، أما بالنسبة لشكل وحركة الأصابع فلقد أخذ حيزًا واسعًا على جميع الأوتار، نسمي ذلك الموضع أو البوزيسيون. كان الحد الأعلى للموضع قبل منير بشير، بالأخص في مدارس العزف قبل الخمسينيات، أقل من الأوكتاف الثاني، ما جعل الأصوات تتقارب فيما بين العازفين، على عكس ما نسمعه لدى منير بشير. كما نلاحظ أن استخدامه لجميع المواضع في العود دقيق، ذو صوت نقي، ويستخدم الأوتار المطلقة بحس عال.
أحمد مختار مؤلّف وعازف عود عراقي، صدرت له عدة ألبومات بين المقطوعات المستقلة والموسيقى التصويرية، درّس نظريات الموسيقى العربية في معهد الدراسات والبحوث الموسيقية في لندن.
تختلف المدارس في منهجية التقسيم، وذلك حسب موطن العازفين وثقافتهم، وانتمائهم ومدرسيهم، وحسب التقسيمة هل هي فعلًا تنضوي تحت بند التأليف اللحظي، أم محضرة مسبقًا (ملحنة). أعجبت من عازفي المدرسة المصرية بالرائع رياض السنباطي في كل تقاسيمه، إذ لا تخلو واحدة من شيء جديد غير مألوف، ومن المدرسة التركية العازف جينوجين تنريكورور.
محمد قدري دلال باحث موسيقي وعازف عود وكمان سوري، له كتب عن صبري مدلل وعلي الدرويش والقدود الدينية وعمر البطش، شارك في تأسيس فرقة الكندي مع الفرنسي جوليان فايس وطاف معها في عروض حول العالم.
التقاسيم فن وملكة يتمناهما كل عازف وعازفة أيًا كانت آلته أو آلتها. سمعت هذi الكلمة طفلةً، خلال دروس الموسيقى التي أعطاها والدي رحمه الله لمريديه في البيت، وتعجبت دومًا من أن الأعواد لم تكن تُقسّم بالسكاكين كما كنت أتخيلهم سيفعلون بعد كل درس. لازلت أذكر ردود فعل الوالد واحمرار وجهه من الغضب أمام طلب البعض من طلابه تعلم تقسيمة عود فريد الأطرش. كان ذلك طلبهم الوحيد والسبب من وراء تعلم عزف العود من والدي، الذي لم يكن – كما فهمت لاحقًا – من عشاق الأطرش، رغم جودة هذه التقسيمة – تقسيمة الربيع على ما أذكر.
كانت تقاسيم والدي أول ما سمعت، والتي تعلمها بدوره من بعض العازفين حوله، من تقاسيم بعض أصدقائه، أو من خلال ما سمعه على أثير صوت العرب من القاهرة يصدح في راديوهات الجليل. ثم بدأت أستسيغ هذا الفن وأتذوقه، خاصة عند سماع من قيل لنا أنهم تمتعوا بمستوى جيد. ثم أدركت أن الأمر يتطلب مهارة في العزف، بمعنى التحكم في الآلة وتملّكها، سلاسة حركة الريشة والتنسيق بينها وبين الأصابع العافقة لدى التنقل من وتر إلى آخر، ومهارة في صياغة الجمل الموسيقية التي تعتمد في الأساس على الحفظ وتكرار السابقين، ذلك قبل التجرؤ على إضافة جملة هي أساسًا جملة لحنية قصيرة بمجهود شخصي تخضع للاستتيكا المحلية والزمنية. بالنتيجة، باتت الجمل الموسيقية في التقاسيم التقليدية المعتمدة على قواعد موسيقى عصر النهضة، والتي سمعناها ونسمعها في منطقة الشرق الأدنى – سوريا الكبرى إذا شئتم، ومصر، هي هي ذاتها تتكرر، وإن جاءت بترتيبات مختلفة.
هنا يتفرد القصبجي بلونه الخاص، بأسلوب عزفه الرشيق رغم ثقل ريشته، بجمله المقتصدة والضاربة في الصميم في آن. جاءت بعد القصبجي تقاسيم منير بشير لتلطمنا أكم كف على غفلة، بنكهتها وتطعيماتها لثقافات مختلفة، بالإضافة إلى تقنيات عزفه الباهرة بالطبع، وصوت عوده المختلف عن رنة العود الشامي. من منير وصلنا إلى عزف جميل بشير المتميز عن عزف أخيه وإن لم يحظَ بالانتشار والنجومية التي عرفها منير. ثم تعرفنا على مرجعهما الرائع وفهمنا تأثرهما بالمعلم التركي عازف العود والتشيلو محي الدين حيدر، ما خفف بعض الشيء من آلام الأكم كف التي أكلناها على غفلة. لكن قبيل اكتشاف منير بشير، وعلى التلفزيون الأردني كونه المحطة الوحيدة التي كان بإمكاننا مشاهدتها في ذلك الوقت في فلسطين – سنوات الستين والسبعين – اكتشفت صوت البزق عبر تقاسيم عرفنا فيما بعد أنها كانت من أنامل محمد عبد الكريم، والصورة والصوت لاحقًا لمن تأثروا به جيدًا، أعني عازف البزق مطر محمد بشخصه. ثم وجدت على الإنترنت تسجيلات مؤرشفة لبعض عروض مطر الرائعة في حفلات تبدو مرتجلة، لكن بأجواء وبسلطنة ومهارة مطر التي تهتز لها القلوب، بدون فذلكة وبمنتهى البساطة، لا ساوند تشِك ولا يحزنون. أي نعم، مطر يعيد ويكرر نفس جمله ونفس تقنيات عزفه مع تغير قليل في المقامات المعينة التي يبدو أنه أحبها جدًا هو وبزقه، لكن يا أخي ما في فايدة، يبقى سلطان مسلطن يفش الخلق.
كميليا جبران مؤلفة ومطربة وعازفة عود، كانت المؤدي الصوتي لفرقة صابرين إلى جانب المشاركة في العزف والتأليف بين عامَي ١٩٨٢ و٢٠٠٢، صدرت لها ثمانية ألبومات.
التقاسيم أو العزف الارتجالي فنٌّ يتواصل الفنان من خلاله على مستوًى شخصيّ. لذلك ليس هناك شيء مثل أن ينسخ عازفٌ ارتجال آخر – ضياع الجانب الشخصي يغيّر كل شيء. بناءً على تجربتي، أعتقد أن أهم عازف عود والظاهرة في فن الارتجال هو جميل بشير. كل تقسيمة له تروي قصّة من البداية إلى النهاية، وكل جملة لحنيّة جزء من نسيج واحد يربطها بما قبلها ويجعلها جزء من أساس ما بعدها، دون أي تكرار، فقط رواية تتطور لقصته. أفضل مثال على ذلك تقسيمته على مقام لامي.
رحيم الحاج عازف عود ومؤلف عراقي، قدم عروض حول العالم بينها ما كان مع الراحل منير بشير، صدرت له عدة ألبومات رُشّح عن رابعها، عندما تستقر الروح: موسيقى العراق، لجائزة جرامي.
من أعذب التقاسيم التي أثرت فيّ منذ صغري تقاسيم فريد الاطرش ورياض السنباطي. تتميز تقاسيم فريد بتقنية الريشة القوية، إضافةً إلى الانتقال في الأوضاع وتطويع العود لعزف جمل غربية بكل سلاسة. أما عزف رياض السنباطي فهو يتميز بالعمق في التعبير والانتقال بين المقامات دون عناء أو تكلُّف، مركزًا على التطريب بشكلٍ أساسي. يعزف كأنه صوت يؤدي مواويلًا. انسياب في الانتقال إلى جمل لحنية ومقامات متعددة، وابتعاد عن الأوضاع والأصوات الحادة في العزف، ما يجعل تقاسيمه كأنها أغاني مطربة.
بتجربتي المتواضعة، وتتلمذي على هاتين المدرستين بالخصوص، حاولت دمج التكنيك بالتطريب وإخراج العود من طابعه المحلي التقليدي إلى عوالم أخرى وأساليب أخرى في تقنيات العزف.
لا يفوتني أن أذكر عمالقة آخرين، بالخصوص في المغرب، مثل الأساتذة أحمد البيضاوي وعمر الطنطاوي وسعيد الشرايبي وغيرهم، الذين أغنوا رصيد الموسيقى المغربية بتقاسيمهم الفذة. إضافةً إلى الجيل المعاصر من المغاربة أيضًا مثل الحاج يونس وعز الدين المنتصر ويوسف المدني وإدريس الملومي وخالد ناجد وغيرهم، الحاملين لمشعل التجديد في تقنية العزف بالخصوص والتطريب على العموم، مستعينين على ذلك بالتراث المغربي والأندلسي من الجمل والأنغام، ما يغني تقاسيمهم و يميزهم عن غيرهم من المشارقة.
ناصر هواري عازف عود ومؤلف مغربي، صدرت له ثلاثة ألبومات وقدم عروض مشتركة مع عدة عازفين من مختلف دول العالم.
اخترت ثلاث تقاسيم جوهريّة بالنسبة لي. الأولى تقسيمة البياتي للقصبجي، أهميتها بالنسبة لي أنها تُجسّد أفضل مثال للتقاسيم قديمة الطراز، بالصوت شديد العمق المُدعّم بملامح التسجيل القديم. أكثر ما أحبه في القصبجي الإيقاع، الوزن الإيقاعي في عزفه للعود. مثالي الثاني تقسيمة نهاوند لرياض السنباطي. ما أحبه بشدة في هذه التقسيمة كونك تسمع ارتجال مؤلّف، لا مجرّد عازفٍ بارع. كل الجمل اللحنية المعزوفة هنا تحمل معنى، غنائية، خاصةً تحويلة البياتي في القسم الثاني من التقسيمة، التقليلية والجوهرية. رياض السنباطي بلا شك أحد أكبر المؤثرين في الموسيقى وعزف العود. أخيرًا، تقسيمة للتركي قدري شنتشلار. سبب اختياري لهذه التقسيمة على مقام العشاق (مقام ملهم بالنسبة للموسيقيين الأتراك) هو كوننا نسمع فيها أجمل طريقة للعزف التركي في الستينات، بين تحويلات بقمة الجمال، وعزف مضبوط لكن مفعم بالأحاسيس.
مهدي حداب موسيقي روك وعازف عود فرانكو جزائري، أسس فرقتَي إيكوفا وسبيد كرافان.
عرّفنا خالد جبران على جميل بك الطنبوري خلال تعليمه إيانا المقامات وتذوق الموسيقى والتقاسيم الشرقية في رام الله. مما أسمعنا إياه للطنبوري ألبوم فيه هذه التقسيمة التي دفعتني لطلب نسخة خاصة من الألبوم. ظلت هذه التقسيمة بالنسبة لي الأفضل على الإطلاق، لعدة أسباب. أولًا، يعزف جميل على طنبوره بشكل فائق السلاسة والتعبيرية، الطنبور في يده ينطق. ثانيًا، تناوله لمقام النهاوند بيجيب من الآخر، ليس فيه أي لت أو عجن في الجمل اللحنية. كل جملة في حد ذاتها لها مكانها الثمين الذي لا غنى عنه وسط التقسيمة. تشعر بذلك منذ بداية التقسيمة على البعد الخامس للمقام بأداء صارم وجاد، وكأنه مقام نوا أثر، ليذيبك معه بعدها بقفلة نهاوند ناعمة ومقشعرة شديدة الإحكام، وهكذا دواليك حتى نهاية التقسيمة. ثالثًا، تناوله لعُرب مقام النهاوند يجعلها تبدو لي دائمًا جديدة ومختلفة عن أي تناول مرّ علي في كل مرة أسمعها فيها.
تامر أبو غزالة مغني وملحّن ومنتج وعازف عود فلسطيني، مؤسس شركة إيقاع الحاضنة للمشاريع الموسيقية المستقلة.
اخترت ثلاثًا. الأولى تقسيمة البياتي التي عزفها فريد الأطرش في أغنية الربيع، والتي أضافت لخبرتي وزادت من حبي للآلة. ربما أحببت العود أصلًا بسبب فريد، لست متأكدًا. لا أعرف تقسيمةً لعازف حُفظت وترددت بقدر ما جرى مع هذه التقسيمة. لا أعني هنا الموسيقيين، فطبعًا سيعرف أغلبهم تقاسيمًا للسنباطي والقصبجي وفريد وغيرهم. لكنني أقصد العامّة. بمجرّد أن تعزف بضعة حروف منها أمام أحد سيقول هذه لفريد. هذا إنجازٌ عظيم، تحفيظ الجمهور العادي تقسيمة عود، لا أعرف أحدًا استطاع ذلك غيره. بالإضافة إلى ذلك، حمَّس الناشئين، كما حدث معي. عندما كنت أتعلم العزف بقي عزف هذه التقسيمة هاجسًا عندي. هناك طاقة في عزفه تلهمك، بالإضافة إلى شعبية تقاسيمه عند الشريحة الأكبر من الجمهور والتي تريد الوصول إليها، لذلك يجذبك حفظ تقاسيمه، ثم تجد نفسك على طريق حفظها تتعلم أساليبًا في العزف والتعامل مع الريشة لم تخطر لك من قبل. هذه القطعة أميل لأن تكون مؤلّفًا يُشبه التقاسيم.
الثانية تقسيمة أشواق للسنباطي. أسلوب مختلف تمامًا عن فريد. ما يأسرك هنا فلسفة العزف، تقسيمة أميل إلى التأليف. يعزف السنباطي حروف التقسيمة بتأنٍّ وترتيب دون ذلك الاستعراض، ويخلق حالة صوفية جذابة تدفعك لحفظ التقسيمة كي تختبر قدرتك على إدخال مستمعيك في أجواء مشابهة. تقاسيمٌ كهذه تُرينا طرقًا مختلفة ومثيرة خلال تعلمنا العزف.
أخيرًا القصبجي، ربما جميع تقاسيمه لأنني أعجز عن الاختيار بينها. القصبجي هو موجد أسلوب العود الذي اقتدينا به جميعنا. يمكن اعتباره سيد درويش آلة العود. الجميع طلاب مدرسته، بمن فيهم السنباطي وفريد وعبد الوهاب. لم أستطع حفظ تقسيمة للقصبجي، فتقاسيمه كانت وما زالت بالنسبة لي أشبه بالخيال العلمي، كحال الشيخ محمد رفعت في التلاوة، تستمتع معه لكنك لا تستطيع أن تفعل مثله. بينما تجد الجميع يحفظون تقاسيمًا لفريد والسنباطي. أما تقاسيم القصبجي فللتأمُّل فيما تسمع.
حازم شاهين عازف عود ومطرب وملحن مصري، عضو في فرقتَي مسار التي صدر لها العيش والملح وحاجات واحشاني، واسكندريللا التي صدر لها صفحة جديدة.
وقع تسجيل هذه الأسطوانة في يدي منذ حوالي ١٠ سنوات، ولا يمر أسبوع دون أن أستمع إليه، وأعود إليه قبل أي حفلة سأقدم فيها شيئًا من مقام الرست. تسجيلنا هذا طوله ٣ دقائق و١٤ ثانية، أي وجه واحد لأسطوانة الـ ٧٨ لفة، وهو في رأيي المختصر المفيد والهيكل النموذجي لكيفية العمل والتسلسل في مقام الرست من داخل المقام و سيره. استنتجت عند سماعي لهذه التقسيمة البديعة الكثير في فن التقسيم، الدقة في الأبعاد و ضرورة الممارسة لإتقان هذا الفن.
يأتينا القصبجي في هذا التسجيل وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، عازفًا متمرسًا وملحنًا مشهورًا في قمة عنفوانه الموسيقي، حاملًا في الوقت ذاته لذخيرة موسيقية كبيرة بين البشارف التركية وموسيقى عصر النهضة، ليضع في ٣ دقائق تقسيمة غنية اللحن واضحة المعالم ومليئة بالحيوية، خالية من أي نوع من التردد أو الخلخلة.
يبدأ التقسيم من حساس المقام، قرار النوا صعودًا، ثم ركوزًا على نغمة الرست لكي تكون المحور الأساسي في انطلاق ورجوع جزئيات التقسيمة. يكوّن القصبجي التقسيمة من عدة جمل قصيرة دقيقة وموزونة على إيقاع من ريشته، ويقدمها في شكل دوائر ناعمة، تنطلق لكي تستعرض نغمًا في سير الرست ثم ترجع إلى نقطة الانطلاق، لتنطلق بعدها دائرة بحث تنقّب في نقطة أبعد أو أعلى. ينتقل التقسيم إلى أوساط المقام ويظهر في شكل حجاز النوا، أي فرع السوزناك، ثم يرتفع تدريجيًا حتى يصل إلى الكردان، ولا يكتفي بهذا بل يصعد حتى يرينا صورة بديعة للجهاركاه من الكردان. هنا، نصل إلى ذروة التقسيمة، ثم يبدأ الانخفاض بسلم تقليدي بديع تُختتم به التقسيمة من نفس مكان انطلاقها دون تكلف أو تعقيد. السهل الممتنع.
طارق بشير عازف عود ومطرب مصري، عضو في فرقة أكسفورد مقام المتخصصة في موسيقى عصر النهضة.
في سن الثامنة كنت أتعلم العزف على البيانو في كلية التربية الموسيقية بالزمالك في القاهرة. كنت أذهب إلى كل محاضرة وأنصت لنصائح كبار العازفين، تمنيت أن ألتحق بهم. ذات يوم كان التلفاز يبث حفلًا لفريد الأطرش وكانت تقسيمة مقدمة الربيع. وقفت في ذهول و انبهار بهذا الصوت الدافئ والقوي في نفس الوقت، والنغم الشرقي والقفلات الشرقية المميزة وتصفيق الجمهور مع كل جملة. ذهبت فورًا إلى والدَي وأخبرتهم أنني أريد استكمال دراستي الموسيقية على هذه الآلة، وهذا ما كان.
حاليًّا أطرب جدًّا لسماع الأستاذ سعيد الشرايبي رحمه الله، شيخ العوادين ومدرسة في التقاسيم. أحب أيضًا سماع الأستاذ غسان اليوسف، فهو من وجهة نظري المتواضعة ملك التقاسيم في هذا العصر. كل فنان وعازف لديه ما يميزه من خلال استخدامه لتقنيات عزفه، سواءٌ لاستخدام شكل إيقاعي معين من خلال الريشة، أو انتقالات انسيابية بين المقامات، وقد يكون للتكنيك نصيب أيضًا. هناك أيضًا البصمة، أي طريقة الضغط على الأوتار لإخراج صوت النغم، وكلٌّ لديه بصمته.
دينا عبد الحميد عازفة عود ومؤلفة مصريّة، واحدة من أول ثنائي يعزف على عود واحد، تُدرّس في بيت العود بدار الأوبرا بالقاهرة.
رياض السنباطي واحد من عباقرة الفن الارتجالي. هو أول من حاول أن ينقل ارتجالاته من الطابع الآلي إلى الطابع الغنائي. فالارتجال الآلي هو الذي يعتمد على البحث في أكثر ما يبرز صوت الآلة ويميزها عن غيرها، أما الغنائي هو البحث عن الغناء بالآلة. كلما اقترب الارتجال من الغناء سهُل علينا فهمه والتفاعل معه. يبرز كل ذلك في تقسيمته على مقام الحجاز، حيث يغني رياض السنباطي ألحانًا إذا أردنا أن نضع عليها كلمات ستصبح أغنية لا تقل جمالًا عن تلك التي يُعد لها لحن مخصص. بالإضافة إلى ذلك، يجعلنا ارتكاز المقام نتشبع بمقام الحجاز بالرغم من التحويلات البسيطة السريعة.
صعوبة العود في الغناء كونه آلة وترية ذات امتداد صوت قصير وغير مستمر، وهذا ناتج عن ضرب الأوتار بالريشة، عكس القوس في الكمان وجميع آلات النفخ أيضًا حيث الصوت المستمر القريب من الغناء. أما ما لدى السنباطي فيمكن تسميته الريشة الغنائية، المتطلبة لمخزون موسيقي كبير كي تذهب بِنَا الى أفق أوسع.
محمد أبو ذكري عازف عود مصري، بدأ بتدريس العود عن سن ١٥ عامًا، من مؤسسي فرقة محمد أبو ذكري وحجاز التي صدر لها ألبوم فوضى عام ٢٠١٣.
اعتدت على أن أستمع إلى عددٍ كبير من العازفين وأتخيل نفسي أنا الذي يعزف. بدأت أستمع لأول تقسيمة لعازف العود أسعد الشاطر مع الفنان صباح فخري في إحدى الحفلات، وبقيت أستمع إليها عشرات ومئات المرات حتى حفظتها عن ظهر قلب. في كل مرة كنت أسمعها وأتخيل نفسي أعزفها. بعد أن حفظتها وجدت نفسي أعزف جزءًا منها وبعد فترة أتقنتها بدقة، وإلى الآن، بعد أكثر من ٣٥ عامًا من بداية استماعي لها، باستطاعتي عزفها كاملة.
بعدها استمعت إلى تقاسيم لفريد الاطرش على مقامي البيات والحجاز كار كرد، وبنفس الطريقة حفظتها وأتقنتها تمامًا. ثم استمعت إلى منير بشير الذي كان لي شرف اللقاء به والتتلمذ على يديه، وفاجأته بأني كنت أحفظ كل ارتجالاته. الحقيقة أن فن الارتجال هو حلم كل عازف عود، وبعد رحلتي الطويلة مع العود اكتشفت أن كل ما استمعت له وحفظته سواء عزفته أم لا يصبح ضمن المخزون الثقافي والفني لدى العازف، يفتح له آفاقًا أخرى للارتجال والتأليف، وخلق مدرسة جديدة يكون كل ما استمع إليه أو حفظه جزءًا منها.
جوان قرجولي عازف عود ومؤلف سوري، درّس في المعهد العالي للموسيقى بدمشق، أحد مؤسسي فرقة أبو خليل القباني التراثية.
إن تعريف أهمية تقسيم ما يستمد من تفاعل المؤدي مع إمكانياته المادية الفعلية، وليس من فكرة النموذج أو الأسلوب. قد نجد الأمثلة على ذلك عند كل عازف عود معتبر. لكن ما يخطر لي بشدة، وبمجرد سماع كلمة تقسيم، هي تقاسيم أمين البوزري على الناي، بالتحديد تقاسيمه في مقامي الصبا والراست، قبل أن أفكر في تقاسيم لعازفي عود. بالإضافة إلى تقاسيم محمد عبد الكريم ومحمد مطر على البزق. ربما يعود ذلك في حالة أمين البوزري إلى الفترة الزمنية التي سجلت تلك الأداءات بها، وهي فترة زمنية مفصلية في تأريخ الموسيقى المقامية في العالم العربي (بداية عصر التسجيل وقبيل أواخر عصر النهضة)، أي بكلمات أخرى قبل أن تساهم تكنولوجيا التسجيل في تكريس مفاهيم المرجعية الأسلوبية على نطاق واسع (لا ينفي ذلك وجود مرجعيات أخرى). أما في حالة عازفي البزق، ربما يعود الأمر إلى ثانوية الآلة مقابل العود أو القانون على سبيل المثال، ما قد يزيد من احتمالات التصرف، إضافة إلى الخصوصية الصوتية غير التقليدية لتلك الآلة. من جهة أخرى، لا يمكنني – كعازف عود – إنكار أثر التقاسيم المختلفة لمحمد القصبجي وجميل بشير التي استمعت إليها في بداية اهتمامي بالعود، حيث ما أكده وبينه سماعي لها (أستذكر الآن تقسيمة في مقام الصبا لمحمد القصبجي وفي مقام أوج لجميل بشير) هو أن فضاء الموسيقى المقامية وإمكانيات آلة العود غير محصورة بأساليب أو مناهج أو مدارس، وإن وجدت.
ضرار كلش مؤلف وعازف عود فلسطيني، له عدة أعمال تجريبية تشترك فيها وتقوم ببطولتها عدة آلات من العود إلى أجهزة الصوت الإلكترونيّة التي يبنيها أو يعدّلها بنفسه.
تقسيمة من مقام السيكا لرياض السنباطي، أحد المقامات الصعبة للارتجال، لأنه يحتاج إلى إحساسٍ عالٍ ومهارة في القفلات، لاسيما أثناء الركوز على أساس المقام.
نلاحظ أن السنباطي قام بوزن الوتر الغليظ على درجة السيكا لكي يصبح المقام واضحًا ومشبعًا للأذن. يستهل المقام بطريقة مميزة ليس فيها أي تكرار، ثم يغوص في تفرعاته بريشته الرشيقة وعفقاته السلسة. كمقام الهزام على سبيل المثال. كما يستخدم ضمن التقسيمة جنس البيات على الدرجة الثالثة من مقام السيكا، وهذا ما يسمى بمقام العراق، في حال أُخذ من درجة العراق (سي نصف بيمول). يستمر السنباطي بإبراز جنس البيات بين الفينة و الأخرى مذكرًا بدرجة الركوز الأساسية للسيكا، بقفلاتٍ تحمل بصمته الخاصة. بعد هذه الجولة في تفرعات السيكا، يعود السنباطي إلى جنس الحجاز على الدرجة الثالثة من السيكا، مشكّلًا مقام الهزام بشكلٍ زخرفي تلويني جميل، هابطًا من الجواب الى القرار بريشة مرنة تعبر عن إحساسه العالي وتلامس حنايا القلوب، ليستقر على درجة السيكا من نفس المكان الذي بدأت به الرحلة.
جورج اليازجي عازف عود وملحن وموزّع سوري، عضو في أوركسترا العود السورية، مُدرّس بزق وعود وإيقاع وصولفيج.
تأثرت بأساتذتي الذين علموني أصول العزف على العود: علي الإمام، منير بشير، روحي الخماش، وسالم عبد الكريم. عاصرتهم منذ ١٩٨٣، عام دخولي معهد الدراسات النغمية في بغداد، إلى غاية تخرجي من الكلية عام ١٩٩٧ وسفري خارج العراق، ما صقل ذائقتي وجعلني أتعلم من التقاسيم التي أستمع إليها بحيث تضيف إلى شخصيتي الموسيقية. من أبرز تلك التقاسيم المؤثرة بي تقسيمة بيات عراقي لـ جميل بشير، تقسيمة نهاوند لمنير بشير، وتقسيمة كرد على درجة المي لرياض السنباطي.
علي حسن عازف عود ومؤلف عراقي، أحيا العديد من الحفلات في العراق وفرنسا وبلجيكا وسويسرا.
لكلّ شخص، سواءٌ كان عازفًا أو متذوقًا للموسيقى، سر خاص به في كيفية التلقي. بالنسبة لي، للمقام الموسيقي دور كبير في تجربة سماعي. أميل لمقام البياتي، لأنه في عمق المدارس الشرقية بشكلٍ جعله يكتسب خصوصيّة مختلفة تبعًا لكل مدرسة، فبياتي المدرسة التركية يختلف عن بياتي العراقية أو الخليجية، خاصةً إن كان العازف متمكنًا من المدرسة التي يعزفها ومتشربًا لها. مثلًا السنباطي في المدرسة المصرية لديه القدرة على أن يضعك وسط قلعة من الأرابيسك وتجد نفسك أمام حكيم وشيخ وقور. بينما لو ذهبت إلى منير بشير ستجد العود بحلة آشورية وأندلسية.
أكثر تقسيمة أحبها وقريبة مني هي نسمات عذبة لـ نصير شمّه. ترتيب هذه القطعة من ناحية التقسيم مبهر وصادق، ناهيك عن الحرفية المطلقة التى أُديت بها. هذه القطعة مثل المعلقة الماسية، وفيها من التفاصيل الكثيرة التي يعجز المستمع عن أن يدركها جميعها. نصير شمه عازف ومصور ومخرج بآلة واحدة. إلى اليوم لم يخرج عازف قدّم أمثال حدث في العامرية أو حب العصافير. التقاسيم هي لهجة وخطاب حنون عادةً، لذلك هو فن لا يجيده إلا الصادق، و لكل عازف طريقة يصل بها إلى قلوب الناس، أحيانًا يكون العازف بسيطًا وصادقًا ويصل سريعًا، وأحيانًا يكون مفلسفًا واستعراضيًّا ولا يجد قبولًا.
هشام عريش عازف عود ومؤلف ليبي، تعلم العزف لوحده ثم درس في بيت العود بدار الأوبرا في القاهرة.
تقاسيم راست لـ رياض السنباطي من عام ١٩٦٤ لها أثر كبير في نفسي. تجلى فيها إحساسه الصوفي وعمق خياله. استخدم المؤلف الكبير مخزونه التقني والفني في بناء جمل موسيقية متتالية، فبرع في التعبير النغمي وسلاسة الانتقال من مقام إلى آخر، مع جمالٍ آسر في التصاعد والهبوط، التفاوت بين القوة والرقة، السرعة والتأمل، الحركة والسكون.
أريزة الأمين عازفة عود ومؤلفة وكاتبة سودانيّة، لها عدة إصدارات شعريّة وموسيقيّة وبعض الإسهامات في القصّة القصيرة.
تأثرت جدًّا بالعازف الراحل منير بشير. كان عنده شيء جميل جدًّا في عزفه وتعليمه العود. لا يُلقّن المستمع مجرّد فن العزف ومواضع جمالية الصوت، بل يأخذه عبر أفق وجدانيّة واسعة مداعبًا أحاسيسه وأفكاره وذكرياته، بعفويّة مستندة إلى الكثير من التمكّن والصدق. من بعده تأثرت بخلفه، الأستاذ عمر بشير. أحترم جدًّا قدرته على تقديم العود إلى الغرب بجعله ينسجم وآلات غربيّة بروحٍ واحدة. عمر بشير هو صاحب التقسيمة المفضلة بالنسبة لي، لونجا حجاز كار كرد.
أعشق مقام الحجاز، ورغم أني عازف عود إلا أني أفضّل سماع عزف آخرين له، من أمثال عمر بشير ونصير شمّه. أكثر ما يعجبني في الحجاز أنه مقام صريح، لا يسمح بالكثير من استعراضات التكنيك والفلسفة. صحيحٌ أن التكنيك مطلوب في العزف، لكن اختبار التكنيك أو طريقة توظيفه الأمثل يأتي مع التقسيم على الحجاز، حيث يمكن الانتقال منه إلى العديد من المقامات الأخرى والعودة إليه بعزف مهذّب لا يخدش أذن المستمع أو يحاول لفتها بابتذال. طبعًا، يجتاز عمر بشير اختبار الحجاز بنجاحٍ كبير، وأجمل ما في عزفه طريقة استعماله للريشة المقلوبة، وحساسية ريشته. يتعامل مع العود كأنه أنثى جميلة.
نزار العيسى كاتب وملحن وعازف عود فلسطيني، شارك مع عدة فرق شرقية وغربية بعروض حول العالم.
إن التقاسيم الجيدة التي يفرح فيها المستمع ويغبطها تحتوي على عناصر أساسية أهمها: الاستنباط والجدة وعدم التقليد في العزف، سلاسة التلوين والانتقال المقامي، استخدام أساليب وأشكال ريشة مختلفة، إصابة النوتات بدقة، وضوح وصفاء العزف، التطريب، وعدم الإطالة والحشو في العزف. من أكثر أصحاب التقاسيم إتقانًا لهذه العناصر صليبا القطريب.
نزيه غضبان عازف عود لبناني، ومن أهم صانعي الأعواد في العالم، بدأ احتراف المهنة منذ أكثر من ٤٠ عامًا.
في مطلع السبعينات، وفي مرحلة متأخرة من مسيرته، سجّل رياض السنباطي ست تقاسيم للإذاعة المصرية، بينها تقسيمة في مقام نهاوند، أعتبرها شخصيًّا إحدى علامات فن تقاسيم العود مصريًّا وعربيًّا. بتقديري، في جزء كبير من هذه التقسيمة، فضّل السنباطي التأليف المسبق على الارتجال، مطوّرًا بدقّة بعض جملها اللحنيّة وبنيتها العامة. نلاحظ أيضًا في هذا التسجيل مكوناتٍ مُستعارة أو محاكية للتأليف الآلاتي والغنائي للسنباطي في أعماله المعروفة. عبر عملية الخلق غير التقليدية لهذه التقسيمة، بالإضافة إلى عنصر الطرب المعتاد في الأداء التقليدي للتقاسيم، يُضيف هُنا السنباطي بُعدًا سرديًّا حاضرًا بقوّة إلى النوع.
تتضمن التقسيمة استهلالًا وستة أقسام، تتضح نهاية كل منهم بقفلة نهاوند. يمكننا تجميع الأقسام في ثلاث مراحل: الأولى تتضمن الاستهلال والأقسام الثلاثة الأولى، ثم مرحلة وسطى تضم القسم الرابع فقط، وأخيرة تضم القسمين الخامس والسادس. تتماشى هذه البنية مع استكشاف المقام أيضًا على ثلاث مراحل. تمتد المرحلة الأولى على طول الأوكتاف الأول من سلم النهاوند. تبدأ الوسطى بانتقالٍ إلى بياتي النوا، مقامها الرئيسي، ثم تُنسج الثالثة حول نغمة الكردان. باعتقادي، شمل التأليف المسبق بعض قفلات التقسيمة، أكثر جزء جوهري في النوع. أبرز تلك القفلات هي التي يُختم بها القسم الثالث، مُقدمةً نبرةً حاسمة مُحققة عبر تدرجات سلمية فريدة تُعلن انتهاء المرحلة الأولى.
ربما من أكثر مكونات التقسيمة اللافتة في المرحلة الأولى، التي تعاكس تعريف النوع على أنه متحرر من الميزان، هي مجموعة من الجمل الموزونة ذات الطبيعة التسلسلية البارزة. أكثر هذه الجمل جذبًا للأذن هي التي تسبق قفلة القسم الثالث، والتي تبدأ بتتالي موتيفات ثلاثية يتبعها توالي هبوطَين سلميّين، بطابعٍ ميلوديّ غير معتاد في التقاسيم. نسيج هذه الجمل أو مكوناتها تستدعي إلى الذهن مقدمات الأغاني التي لحنها السنباطي، بشبهٍ مباشر مرة، وضمنيّ مرّة. كمثال بسيط، يمكن سماع موتيفات ثلاثيّة شبيهة بالمذكورة في مقدمة أغنية ذكريات.
في المرحلة الوسطى، يقدّم السنباطي مكونات مختلفة عما سمعناه حتى الآن: تراجع ملحوظ للنبض Tempo، انتقال إلى بياتي النوى، والأهم، جُمل ذات طابع غنائي. ربما ليس من قبيل المصادفة أن نسمع تطور مُماثل للنغمة في الانتقال من الكوبليه الثاني إلى الثالث في أغنية هلت ليالي القمر، ونغمة مماثلة عندما تغني أم كلثوم في الكوبليه الثالث “وافضل أعد الليالي.” أما في القسم الأخير، قبل اختتام هذه التحفة الفنية، يبني السنباطي ثيمةً دراميّة عبر تركيب العديد من العناصر، بينها انتقالٌ نغميٌّ مفاجئ يتداخل فيه جنس نهاوند وجنس كرد على نغمة الكردان، وتركيبة إيقاعيّة منذرة. هذا الختام مثالٌ رائع عن السنباطي المؤلّف الخبير.
نزار روحانا عازف عود، مؤلف، وباحث موسيقي فلسطيني، صدر منذ عامين ألبومه الثاني فرات، من تأليفه وتوزيعه.