كنت بحلم بحكيم من زمان | مقابلة مع أمل الطائر

كان منزل الصحفي مصطفى الطائر “مثل قسم الشرطة”، بابه مفتوح ٢٤ ساعة أمام الأدباء والزجالين والملحنين والأصدقاء. تخرّج منه في البداية ابنه سمير الطائر، كتب لمطربين أمثال هاني شاكر ومحمد ثروت ومحرم فؤاد وصباح وعايدة الشاعر. عندما جاء دور شقيقه الأصغر أمل الطائر للدخول إلى عالم القصيدة الغنائية، لم يقبل أن يضيع في ظل أخيه، وسلك سكةً أخرى. بدأت مسيرة أمل الطائر عام ١٩٨٢، مع بداية انتشار شرائط الكاسيت، وبالشراكة مع حسن الأسمر الذي كان في بدايته أيضًا. خلال سنوات، أصبح مكتب أمل الطائر في وسط البلد، والذي أسسه بشراكة مع أخيه إنسان الطائر، من المحطات التي شكّلت صوت الثمانينات والتسعينات في مصر.

اليوم، بعمر الستين عامًا، يجلس أمل الطائر على مكتبه: “معرفش أكتب غير على المكتب، هنا بلاقي راحتي، وزي م انت شايف، مبحاولش يكون مزدحم بحاجات تاني، القلم والورق فقط (…) ها يا سيدي، عاوزني أتكلم ف إيه، محضر أسئلة ولا أتكلم انا وانت تسجل وتكتب براحتك؟”

ما توصيفك لتلك المرحلة، الثمانينات، مَن أبرز مؤلفي الأغنية وملحنيها؟ كيف كان شكل الأغنية الشعبية وموضوعاتها؟

بدأت [الأغنية الشعبية] الانتشار برفقة مجموعة من الشعراء القلائل وقتها، منهم حسبما تسعفني الذاكرة، أخي إنسان الطائر، مسعد الكومي، حمدي عبد اللطيف، حسن عزو، ماهر عبده سليمان، عبده البرنس، هؤلاء الأبرز في تلك المرحلة؛ بجانب وجود عدد من الملحنين، منهم محمد إسماعيل، عبد السلام حنفي، مهدي خميس، نشأت لطفي، عصام توفيق. سيطرنا جميعًا في تلك المرحلة على السوق الفني للأغنية الشعبية، وعملنا شكل للأغنية الشعبية اختلف كليًا عن شكل أغنية أحمد عدوية. جيلنا اهتم بكلمة الأغنية أكثر، عكس ما كان موجود قبلنا، حتى أن أحمد عدوية اتهاجم بسبب بعض الكلمات: حبة فوق وحبة تحت، سلامتها أم حسن؛ لكن جيلنا اهتم أن تكون كلمة الأغنية مهذبة، بجانب الاهتمام باللحن والصوت الجيد طبعًا. فكتبت أنا مثلًا: “على مهلك يا جميل على مهلك / ده انا قلبي شريك وبيندهلك / لو تتقل وتسوق في دلالك / أنا حطلب إيدك من أهلك / على مهلك يا جميل على مهلك.” الكلام ده كان ممكن يغنيه جيل محمد رشدي، إحنا أخدنا المدرسة دي، لكن طورناها.

وكتبت أغنية للمطرب عبد الباسط حمودة، دنيا عجيبة، وكتبت للمطرب فوزي العدوي “مزيكا هواك مزيكا / والحب معاك مزيكا / مفيش في طعامتك أبدًا / في أوروبا ولا ف أمريكا”، وكان هذا الشكل في مرحلة الثمانينات مطلوب من الجمهور، أغاني الدنيا، الزمن، الصاحب، والاجتماعية. كان موال العد في هذه الفترة ظاهرة، عكس ما كان في فترة أحمد عدوية، كان الموال رباعي أو سداسي، موال سلطنة، إنما موال العد كان بيبدأ من السلطنة ثم تنزل على رتم، مثلما غنى حسن الأسمر أغنية كتاب حياتي ياعين، مؤلفها الشاعر يوسف طه. كان هذا الموال شكله غريب، الغنوة ملتصقة بالموال الحر، بدأه حسن الأسمر برفقة يوسف طه، ثم كتبنا نحن بقية الشعراء، نكتب موال العد حسب وجهة نظر كل واحد فينا، وطورنا شكل اللحن والكلمات، فكتبت أنا  موال أنا كده زعلان للمطرب مجدي طلعت، ونجح نجاحًا كبيرًا، وأصبح موال العد شيء أساسي في كل شريط كاسيت وسبب نجاحه.

لكن في الفترة دي مكانش فيه إعتراف من الإذاعة المصرية بمطربين الأغنية الشعبية، كل ما هو شبه صوت أحمد عدوية يدخل امتحان الاعتماد من الإذاعة ويتم رفضه لأنه بيغني شعبي، بالتالي مكانش فيه أي وسيلة للترويج لشريط الكاسيت أو المطرب غير بياع شريط الكاسيت. مكانش حد يعرف يعمل إعلان في التلفزيون أو أي وسيلة إعلامية، فالناس تسمع الشريط من بياعين الشارع، يعجبهم يشتروه. كان في الوقت ده منافذ البيع عبارة عن مركز توزيع وبياع قطاعي، اللي بيبقى غالبًا كشك بياع، فيشتري ٣ آلاف أو ٤ آلاف شريط، ثم يعلق صورة المطرب على واجهة الكشك، ويشغل الشريط. وكان ميدان سوق العتبة مهمًا، سوق كبير ومزدحم، فيه موقف عربيات وبياعين، فكنا نعرف منه أخبار نجاح الشريط أو فشله، نلاقي البياعين مشغلين الشريط بكثرة، نعرف إن الشريط نجح، والعكس صحيح. ولما المطرب يعرف إنه نجح، ينزل بالشريط التاني، لإنه خلاص عمل أرضية من الناس والسميعة.

إزاي كان بيتم عمل شريط كاسيت للمطرب من ناحية الإنتاج والتكلفة؟

كان فيه شركات زي صوت الحب، عالم الفن، صوت الفن، نجمة العتبة، وكانت محدودة، مش كتير. لكن بعد كدا مراكز التوزيع شافت نجاحات الشرايط والمكاسب، بدأت تدخل في إنتاج الشرايط، كل مركز بيجيب مطرب من أي فرح شعبي وينتج له. أنا وأخي إنسان الطائر الله يرحمه تولينا هذه المرحلة. نروح فرح بلدي، يطلع مطرب يغني، يعجبني صوته مثلًا، أنادي صاحب الفرح وأسأله عن المطرب، وأبلغه أنه لما يخلص يخليه يجيني، واطمن إن كان موقع مع شركة، لو مش موقع ببدأ اتفق مع شركة تنتج له واتولاه فنيًا، ثم ابدأ بتجميع الأغاني من الشعراء، كل شاعر يكتب أغنية، ونلحن، لحين م ينجح المطرب. عملت ده مع مطربين كتير، زي مجدي طلعت، مجدي الشربيني، فوزي العدوي، رمضان البرنس، أشرف المصري.

عبد الباسط حموده جابهولي منتج من منطقة إمبابة اسمه محمد أبو الغيط، جابلي مطرب قبله، لكن معجبنيش صوته، قاللي: “أنا عندي محل أدوات منزلية، وعاوز أنتج شريط كاسيت”، فقولتله هاتلي مطرب صوته كويسه ونتتج له، وسألته عندك مطرب صوته أجمل من اللي فات ده؟ فجابلي عبد الباسط حمودة في مكتبي في أول شارع شبرا، وسمعته وعجبني وعجب الملحن مهدي خميس، ووقعنا معاه وبدأنا نتولاه فنيًا. المنتج إذا كان صاحب أدوات منزلية، صاحب كشك كبير، أيًا كان، لا يتدخل في إنتاج الشريط، أطلب منه يدفع مصروفات الستوديو أو التسجيل، ومصروفات المؤلفين والملحنين، وأنا بعمل كل حاجة مع المنتج والمطرب، جدعنة، مباخدش فلوس، لكن باخد أجري كشاعر.

أحيانًا كنا بنوفر للمنتج، فندخل أنا وأخي إنسان الطائر أو الملحنين ونسجل كورال، توفيرًا للنفقات لصالح المنتج. كنا بنعمل فن بمزاج، والدنيا ماشية معانا ومبسوطين. عملنا شريط لـ عبد الباسط حمودة اسمه بين القصرين بهذه الطريقة، وكانت أغنية دنيا عجيبة لحن مهدي خميس أنجح أغنية في الشريط، لدرجة إن المنتج صنع غلاف جديد للشريط اسمه دنيا عجيبة، وهتلاقي نسختين من الشريط في السوق. نجح الشريط وكسر الدنيا، واشترى عبد الباسط حمودة عربية بيجو ٧ راكب، وبقى نجم، وبدأ ينزل يقعد على قهوة حلاوتهم في شارع محمد علي، وزادت عليه طلبات للغناء في الأفراح.

سنة ٩٣ جبت المطرب طارق الشيخ من منطقة الشرابية، كنت أنا متزوج من هناك، وفي زيارة عند أهل زوجتي سمعته بيغني في فرح، وناديت على أخو زوجتي وسألته مين ده؟ قالي: ده مطرب اسمه طارق دلعو. انتهى الفرح، وجابهولي شقيق زوجتي في الشقة عند حماتي، وسألته إن كان موقع مع شركة أم لا، وبدأت مرحلة إنتاج شريط كاسيت. كان أول شريط اختارلك حل، إنتاج الحاج حنفي صاحب شركة الأصدقاء، وكتبت له موال أخيرًا عرفتك، وإنسان الطائر أخي كتب فيه أغاني، وسميت طارق دلعو باسم طارق الشيخ، الاسم الحالي المعروف بيه. مكانش ينفع يكون اسمه طارق دلعو في أواخر التسعينات، واقترحت اسم طارق الشيخ على وزن اسم طاهر الشيخ لاعب الأهلي الشهير، بعدما اختلفنا حول عشر أسماء.

نجح أول شريط لطارق الشيخ، ووقتها كان مهرجان القاهرة السينمائي، سهل لنا دعاية للشريط وكانت دقيقة ونص، بعدما سمح لنا التلفزيون بالدعاية في منتصف الثمانينات، وكان أول مطرب له دعاية في التلفزيون حسن الأسمر، وكان أول مطرب يعترف به في الإذاعة، لكن لا يغني، أو تذاع له أغاني في التلفزيون، إنما يسمح له فقط بالإعلان عن شريط الكاسيت، إلى حين مجيء حكيم وكسر كل هذه القواعد.

كيف تطورت الأغنية الشعبية بعد مرحلة الثمانينات، وظهور حكيم، وتزايد إنتاج الأغنية؟

أنا كنت بحلم بحكيم من زمان، والأغنية تطورت بعد ظهوره في التسعينات، من خلالي أنا والملحن حسن إش إش. عملنا أغنية شعبية بلغة حميد الشاعري، الكلمة كانت مختلفة، شكل اللحن كان مختلف، ثم وزّع حميد الشاعري أغنيات الشريط كلها. كانت التجربة ناجحة، شكل شعبي يخصنا، بلغة حميد الشاعري، ومطرب وسيم، عكس ما هو كان سائد في وسط المطربيين الشعبيين. وعملنا شريط نظرة، ولعبت أنا في منطقة الغزل أكتر. كتبت أغنية نظرة: “نظرة نظرة مني / ضحكة ضحكة مني / ضحكة منه”، وأغنية “بيني وبينك خطوة ونص / ولا بتسلم ولا بتبص”. الشكل الموسيقي أثر في تغير الأغنية وقتها، مع الكلام البسيط البعيد عن الكآبة، ووجود صوت حكيم المبهج، وكانت حالة مختلفة تمامًا، سنة ٩١.

وقتها عمرنا مكانش حد يحلم يشتغل مع شركة سونار للإنتاج الفني، لإنها كانت بتنتج لمطربين شباب ولونها مختلف عن الشعبي تمامًا. كان أول إنتاجهم حكيم. شخص جابه لحميد الشاعري اللي دور على الناس الناجحة في سوق الأغنية الشعبية، وطلبهم من الشركة، وجابونا من أغلفة شرايط الكاسيت. أنا أكتر شخص نجح مع حكيم، لأني كان نفسي أعمل أغنية شعبية مع حميد الشاعري، اللي كان في الوقت ده صورته على الشريط أكبر حجمًا من صورة المطرب، كان حالة ومحبوب من الشباب، كمطرب وموزع، فكانت أي حاجة عليها صورة حميد الشاعري تنجح.

كان أول شريط لحكيم تطور للأغنية الشعبية، مكانش مجرد شريط، نقلة كبيرة، وكان عبارة عن ٧ أغنيات بمدة ٣٢ دقيقة، في وقت كان أي شريط آخر لا يقل عن ٤٥ دقيقة أو ساعة، وكان سعره ١٠ جنيه، في الوقت اللي كان أغلى شريط يتباع بـ ٦ جنيه؛ حتى إني طالبت الشركة بخفض سعره، وقولتلهم ده حسن الأسمر اللي هو نجم النجوم بـ ٦ جنيه، لكن الشركة أصرت على الـ ١٠ جنيه، ونجح. بعدها عملت مع حكيم شرايط نار، افرض، السلامو عليكو. أقل شريط لحكيم فيه ٤ أغنيات، وحققت معاه نجاحات كثيرة، وأصبح مطربي، وهو تمسك بيا قوي وفهمنا بعض، وساهمت أنا في تشكيل شخصية حكيم من خلال الأغنية وكلمتها وألحانها، مع وجود حميد الشاعري. دخل شعراء كتير مع حكيم يعملوا شغل، لكن محدش عمل نجاحات مثلي، كل شاعر عمل أغنية واحدة أو اتنين ناجحين، لكن النجاحات الراسخة لحكيم، كانت من نصيبي، واستمرينا مع بعض، وكانت أول أغنية تنجح مش بتاعتي حلاوة روح.

ما الذي يميز حكيم عن غيره، وإيه السبب اللي جعله يثبت أقدامه إلى وقتنا هذا، عن غيره من المطربين الآخرين؟

حكيم شخص دؤوب جدًا، نجوميته مش في صوته بس، اشتغل على نفسه، علاقات في الوسط الفني. بجانب شركة سونار، كانت بتجيب حفلات في أوربا، أمريكا وفرنسا، ودعمته كثيرًا، وبدأ يطور نفسه على مستوى اللغة، تعلم لغات أجنبية، وعمل دويتوهات في أمريكا مع نجوم كبار، وطموحاته كانت عالمية.

تتعامل مع المطربين الشباب الآن، ما ملحوظاتك على التعامل معهم، وكيف تقابل ذلك؟

أنا كمؤلف معروف إني دمي تقيل، لازم تلح علي، وتتصل بيا ١٠٠ مرة، وتصبر عليا جدًا.  فمثلًا، طلبت مني مطربة جديدة في السوق أغنية، وقبضت منها العربون، وبدأت تتصل عليا كتير جدًا، وبعد ما زهقت منها رجعت لها العربون مرة أخرى، قولت لها يا بنتي أنا مش هطلعلك الكلمات من الدرج.

أنا بشتغل لنفسي، لأمل الطائر، ومصر كلها تعرف إن اللي اشتغل مع أمل الطائر يصبر عليه، أنا بكتب الأغنية لحكيم في ٦ شهور، وفيه شعراء وملحنين بيكتبوا بالـ ١٠ أغاني، تروح تاخد منهم، لكن أنا بطلّع عين الملحن لحد م نطلّع لحن مختلف، ملهوش شبه. لكن طريقة بيع الأغاني في السوق دلوقتي تغيرت، الأغنية بتخلص توزيع وألحان، وبعدها يبيعوها، لكن أنا مش عارف أتأقلم مع هذه الطريقة، أنا بطيء في شغلي، وأخبر أي حد عاوز يشتغل معايا. أنا مش بكتب كل يوم، أنا بكتب مخصوص للمطرب، لإني بعمل شكل، مش مجرد أغنية.