.
“عندما أموت، أوصي بلا وعيي إلى السود.
علّهم يفنّدوه، ويختارون الأجزاء المفيدة:
لحم مشاعري النقيّ.
ويتركون قذارة الأجزاء المرّة العفنة وحدها“.
من قصيدة Leroy
توفّي في التاسع من الشهر الجاري الكاتب الثوري الأميركي أميري بركة. الثائر ضد العنصريّة ضد السود، ولاحقاً ضد وهم المساواة بين العرقين الأبيض والأسود، وضد حروب أميركا في الداخل والخارج ودعمها لإسرائيل. أميري، الذي ولد باسم “إفريت ليروي جونز“، وتخلّى عن اسمه لاحقاً كـ“إسقاط لاسمه الأبيض“، أصدر العديد من الأعمال في الشعر والمسرح والنقد الموسيقيّ. إضافة إلى مساهماته الموسيقيّة ودعمه للموسيقيّين.
كان من المقرّر أن يحضر أميري إلى فلسطين في أواخر أيّار /مايو من هذا العام لتقديم أمسيّة شعريّة موسيقيّة بمرافقة الموسيقيّ الفلسطيني ضرار كلش، والذي يكتب هذا النص كتحيّة.
هذا ليس رثاءً، بل تحيّة إلى قضيّة تجسّدت بشخص، إلى حالة تجاوزت الاسم، إلى وجود ثباته التحوّل والتغيير إلى السواد. “نريد قصائداً بإمكانها أن تقتل” (1)، لم يكن أميري بركة مساوماً في ما يتعلق بالثقافة، فبالرغم من البيئة الاجتماعيّة التي نشأ فيها –عائلة سوداء من الطبقة المتوسطة–، ما كان يعتبر نوعاً من اليسر بالنسبة للسود في المجتمع الأميركي، اليسر ذاته الذي أتى بباراك أوباما إلى البيت الأبيض، ومن قبله كولِن باول وآخرون، إلى أنّه وعي منذ البداية للصراع الكامن داخله بمجرد كونه أسود في مجتمع أبيض (2)، ووعي بأنّه من غير الممكن تجاهل أو الهروب من هذا الصراع، ولا بد من أن يتخذ موقفاً حاسماً بشأن وجوده كإنسان أولاً، أسود ثانياً، ومثقّف ثالثاً (3).
لم يكن ذلك الموقف مؤسّساً على خيارات جاهزة، بل حالة عمليّة كان لا بد من أن يخوضها وأن يمر بتجاربها كافة. ولم تكن تلك عملية سهلة، ولا أظنّها انتهت بعد. إذ أنّها عملية خلق ذات ولغة وتعبير، كجزء من خلق أدوات تخدم النضال من أجل الحريّة. وهذا ما قصده بقوله عن القصائد التي “بإمكانها أن تقتل“: أن تواجه العنف والوحشيّة التي لا زال يمارسها النظام الأميركي. إذ لم ير أميري في الشعر والأدب مجرد أداة للهروب من المواجهة المباشرة. من هنا برزت “حركة الفن الأسود“، الحركة الثقافيّة التي عمل على تأسيسها، والتي اتّخذت قصيدته “فن أسود” كبيان لها، والتي ترسّخت كصوت إضافي إلى جانب حركة التحرّر السوداء (4)، وعكست، فنيّاً وثقافيّاً، ما مارسته حركة التحرير السوداء” في نضالها السياسي والاجتماعي في الستينيّات من القرن الماضي.
لم تكن العلاقة ما بين الثقافة والسياسة، في حياة أميري، عارضة فقط، ولم تكن مجرد تنظير مفاهيمي، بل كانت عملية واحدة جمعت ما بين الخلق والإبداع وبين العمل والنضال بشكل لا يسعنا أن نغطيه في هذه السطور. ولكن ما يمكننا قوله هو أنّها تجسدت بأميري بركة، فلم يكتب مجرّد قصائد ومسرحيّات ونقد وأدب، بل ساهم أيضاً في خلق ما سماه آنذاك بالموسيقى الجديدة (ما يسمى بالجاز الحر)، التي تحرّرت من التبعية للموسيقى “البيضاء” بالشكل والمضمون، وتحرّرت من سيطرة وهيمنة شركات الإنتاج والإذاعة. وكان ذلك إما من خلال كتاباته النقديّة في الموسيقى، أو مشاركته في الأداء بإلقاء قصائده بمرافقة موسيقيين آخرين، أو من خلال توفيره لمساحة في “مسرحه” (5) الخاص من أجل العروض الموسيقيّة، أو تأسيس “شركة جهاد للإنتاج“ التي أصدرت عدة أسطوانات موسيقيّة.
في ذلك الوقت، كان الموسيقيون السود عبيداً، بالمعنى الحرفي، لرأسماليّة شركات الإنتاج والإذاعة البيضاء. وكانوا مضطرين لأن يقدموا ما يرى المنتج بأن عليهم تقديمه. هذا المنتج النهائي الذي لم يكن يعبّر عنهم كسود في مجتمع أبيض. حتى أن تسمية “جاز” (6) جاءت كمجرّد مسمّى للصورة التي رسمها الرجل الأبيض “للآخر” الأسود. وكذلك كان “البلوز“: كتعبير عن الحزن والانكسار الذي كان من مصلحة الرجل الأبيض تكريسه. من هنا، كان نشوء “حركة الفن الأسود” والموسيقى الجديدة في الستينيّات ثورة بكل معنى: على الشكل والمضمون وأساليب وطرق الإنتاج (7). حيث لم يعد الموروث الثقافي والموسيقي مجرد ماضٍ وذاكرة، بل أصبح ذات جديدة متجذّرة في الماضي ومتجاوزة للحاضر، ما أسماه بركة بالـ“متغيّرذاته“ (8)، حيث المادة الموروثة هي ذاتها، ولكنها دائمة التحول والتغيّر، متخذة أشكال جديدة.
هذا ما رآه بركة في الأدب أيضاً، حيث كان لا بد من خلق أدب “أسود” جديد، لا يتلخّص فقط بوجود كتاب سود يكتبون باللغة الإنجليزيّة، بل يكتبون بسوادهم وبلغتهم الخاصة. وليس من خلال تكريس صورة “لهويّة” و“ذات” الضحيّة السوداء، بل من خلال ذات ثائرة، ليست سوداء فحسب، بل إنسانيّة.
وهذا ما كانه أميري بركة: ثائراً ليس من أجل قضايا السود فحسب، بل من أجل ما هو إنساني، وضد هيمنة الاستعمار والإمبرياليّة، حيث ألصقت به تهمة “معاداة البيض” ومن ثم “معاداة الساميّة واليهود” لمناصرته القضيّة الفلسطينيّة (9). ما بدأه أميري بركة لم ينتهِ بموته، ولن ينته ما دامت كلماته تترد والموسيقى تثور، فلروحه التحيّة.
مختارات من أعمال أميري بركة
http://www.ubu.com/sound/baraka.html
http://www.ubu.com/papers/Baraka_afro-American-Literature.pdf
http://www.ubu.com/papers/Baraka-Blank_1985.pdf
http://www.ubu.com/papers/Baraka_Blues_Aesthetic.pdf
http://www.ubu.com/papers/Baraka-Cultural_Revolution.pdf
هوامش
(1) من قصيدة “Black Art”
(2) I was stretched between two lives and perceptions (I’ve told you it was four BlackBrownYellowWhite” but actually it’s two or the real side, the two extremes, the black and the white, with the middle two but their boxing gloves).”
(3) أنظر عمله “Ducthman“
(4) من ضمنها حركة الفهود السود وجيش التحرير الأسود.
(5) 27 Copper Square وBlack Arts Repertory Theater بالإضافة إلى تنظيم العروض في شوارع هارلم.
(6) لا تزال تسمية “جاز” تثير جدلاً كبيراً، غالباً في صفوف الموسيقيين ذوي المواقف السياسية الراديكاليّة والواضحة، حيث لا يزال العديد من الموسيقيين يرفضون هذه التسمية، منذ أن بدأ التداول بها إلى يومنا هذا.
(7) لم تكن تجربة أميري بركة هي الوحيدة، حيث كانت هناك تجارب مماثلة في المدن الأميريكية المختلفة، لكنها كانت من الأقوى والأكثر تأثيراً.
(8) “And Rhythm and Blues is “new” as well. It is contemporary and has changed, as jazz has
remained the changing same.
(9) أنظر قصيدته “Somebody Blew up America”، إضافة إلى تصريحاته ضد الصهيونيّة، والممارسات الإسرائيليّة ضد الفلسطينيين.