.
في ١٩٩٤ قررت أنغام الانفصال عن والدها ومؤسس مشروعها الفني، محمد علي سليمان. كان ذلك بعد سلسلة نجاحات مدوية حققتها معه آخرها ألبوم إلا أنا، جعلت منها الوريثة المصريّة الشرعيّة لما يُسمّى بـ فن الزمن الجميل. اعتبر الكثيرون قرارها مغامرة طائشة قد تنهي مسيرتها، فقد كان من الصعب إيجاد ملحنين قادرين على منافسة سليمان ومجاراة نجاحاته معها. بالإضافة إلى ذلك، شن سليمان حربًا إعلاميّة صوّرها فيها على أنها ابنة ناكرة للجميل.
كان الانفصال الحاسم الثاني في مسيرة أنغام في ۲۰۰١. انفصلت هذه المرة عن حقبة، لا شخص. يصعب التصديق أن بين كلاسيكية بعتلي نظرة ومعاصرة سيدي وصالك عامٌ واحد أو اثنين، الأمر الذي أقنع شريحة من جمهورها أن جديدها مساومة صريحة على فنها وخضوع لمتطلبات السوق، فلا أحد يُغيّر ذائقته التي عوّد جمهوره عليها طوال ١٣ عامًا بين يومٍ وليلة. لكن سر أنغام هو أنها اضطرت للانتظار ١٣ عامًا حتى تكون حرّةً في اختيارها.
لم يشعر محمد علي سليمان بأن أنغام ذات السادسة عشر قادرة على تقدير أهمية صوتها واختيار ما يناسبه، وظن بأنه قادرٌ على تحقيق مجدٍ لا ينازعه عليه أحد إن كان صوتها طريق ألحانه، فقرر أن يكون مسؤولًا عن كل تفاصيل مشروعها أرادت ذلك أم لا، عساها تقتنع بوجهة نظره عندما تكبر. بدأت بذلك المرحلة الأولى من مسيرة أنغام، المميزة بإنتاج غزير ومحسوب ومتنوع. سبعة ألبومات مصريّة لها على مدى خمس سنوات بين عامَي ۸٧ و٩٣ لحنها ووزعها سليمان، سوى أغنيتين لـ محمد عبد الوهاب وسيد مكاوي. في نفس الفترة، أصدرت أنغام بإشراف والدها ألبومَين خليجيّين جعلاها من السباقين في دخول هذا السوق.
كانت النتيجة نجاحًا وانتشارًا كبيرَين في وقتٍ قياسيّ وعدة أغانٍ أصبحت من كلاسيكيّات الأغنية الحديثة أبرزها الركن البعيد الهادي، لالي لي لالي، يا طيب، وشنطة سفر التي ما زالت بصمة أنغام الأبرز حتى اليوم، فأول ما يأتي إلى الذاكرة لدى الحديث عن أنغام صوت باخرة السفر الذي نسمعه في عزف التشيلوهات، ونداء الكمنجات اليائس لإيقاف صاحب شنطة السفر، كما أضاف الفيديو الذي أخرجه السينمائي الكبير عاطف الطيب لأثر وانتشار الأغنية. عبر مسيرتها مع والدها، صقلت أنغام موهبتها بفضل توجيهات والدها وكون ألحانه متطلبة براعة واستغلالًا لمساحة صوتها كاملةً.
كانت الركن البعيد الهادي، من ألبومها الأول، مفاجأةً جعلت الجمهور يعقد عليها آمالًا كبيرة. أغنية سرديّة تزيد مدتها على السبع دقائق، مُتطلّبة لإحساس مختلف وأداء ناضج، صلتها بالقديم أقوى من الجديد، لكنها ليست خارج زمنها، ما جعلها ربّما أكثر الجديد توازنًا. حتى الأغاني الراقصة التي قدمها سليمان مع أنغام لاحقًا كـ لالي لي لالي لم تهز صورة المطربة المصرية خليفة الكبار، فهي مناسبة لسنّها الحالي، ولم تحل محل الأغاني الأكثر كلاسيكية. أحسن سليمان دراسة مشروعه، لكنه نسي شركاءه. نسي أن الفتاة التي لم تجد وقتها إلا البكاء لتعبر به عن عدم قبولها بفرض تلك الكلمات أو الألحان ستكبر، وتصبح قادرة على الرفض، على عكس عمها عماد عبد الحليم الذي لم يملك شخصيتها القوية، فدفع به إلى ميدان الغناء دون مراعاة “طفولته وقلة تجربته“. بالنتيجة، لم يكف الحزن الذي ملأ أغاني عماد بتفريغ نتائج شهرته المبكّرة، بعد أن قدمه عبد الحليم حافظ بنفسه، ومنحه اسمه، جاعلاً منه خليفته. كان كل هذا عبئًا على عماد، الذي مات شابًا بجلطة قيل إن سببها المخدرات. بقيت أنغام دون صديقها الوحيد في غياب والدها، الذي كان يعيش شبابه دون أن يقضي وقتًا مع عائلته، وإن فعل، فهو ليُفيد مسيرته الفنية.
شخصية أنغام القوية لم تكن كافية للتخلُّص من عبء تحميلها مسؤولية استمرار الزمن الجميل بعد انفصالها عن أبيها. ربما كان الخيار الأقل خطرًا أمامها هو الاستمرار على المسار نفسه الذي رسمه سليمان حتى لا تُعتبر خائنةً للآمال المعلّقة عليها، على الأقل لبعض الوقت. لذلك اختارت أن تبدأ مع عازف القانون والمايسترو أمير عبد المجيد، صديق العائلة الذي لحّن لوردة أعمالًا تؤكد مقدرته على منافسة سليمان، وقدّم لـ أنغام ما جعلها بالفعل تستمر بنجاحاتها على مدى أربعة ألبومات، لحّن أوّل اثنين منهم وحده، وتشارك الأخيرَين مع آخرين ليسوا بعيدين عن الأجواء التي اعتاد جمهور أنغام عليها منها.
مع بداية الألفية، أثبتت أنغام وجودها مع وبدون سليمان. بات الوقت مناسبًا لانفصالها الثاني الذي سيسمح أخيرًا بالقيام بما تريده هي، مستندة إلى تاريخها الذي امتد لقرابة عقد ونصف اكتسبت خلالهما مصداقيّة مطربة قادرة وفنانة تهتم بما تقدمه. كانت الأجواء مواتية، إذ اتضحت معالم المشهد الموسيقي العربي الذي ترك نجومه الزمن الجميل لزمانه وأصبحوا يعيشون حاضرهم دون خجل. حقق عمرو دياب نجاحًا عالميًا بـ تملّي معاك، وحقق صابر الرباعي بـ سيدي منصور وأصالة بإطلالة جديدة في يا مجنون شعبية امتدت عبر العالم العربي بأكمله، بالإضافة إلى العديد من الأصوات الأخرى التي برزت في بداية الألفية.
وسط هذه المنافسة، كان على أنغام أن تقرر ما سيكونه ألبومها القادم بعناية كبيرة. استعانت بـ شريف تاج، مُلحن قمرين وتملي معاك لعمرو دياب، وكلفته بتلحين خمس أغنياتٍ من تسع في ألبومها الجديد، أهمها سيدي وصالك التي كانت علامة فارقة في مسيرتها، خاصةً بعد أن ظهرت في الكليب بصورة مفاجئة حققت دويًا وانتشارًا ربما لم تصل لمثله أي أغنية لها حتى اليوم. كأنها بـ سيدي وصالك خلعت الجبة والقفطان، ولبست الطربوش.
رغم كل ما مرت به أنغام من قيود وفرض شكل ولون معيّنَين عليها، بقيت الفرضية الأكثر شيوعًا أنها خضعت لمتطلبات السوق دون اقتناعٍ حقيقيَّ بما تقدمه. ربما هذا هو السبب الحقيقي في أزمة التعامل مع مسيرة أنغام، صعوبة تقبُّل أن ترسم لنفسها صورةً جديدة، وأن القديمة لم تكن بقلمها، هذا التعامل مع من يُحمّلون مسؤوليّات الخلافة لملحّنٍ أو مطرب له ضحايا كُثُر، أبرزهم مٌقلّدي عبد الحليم ثم مقلّدات أم كلثوم، في حياتهما وبعد مماتهما، وبإرادة المٌقلّد أو بدونها. كما حصل مع عماد عبد الحليم، وكان سيحدث مع أنغام لو لم تملك الوعي والجرأة المناسبَين، خاصةً أنها لم تكن خليفة مطربٍ أو مطربة، كانت خليفة زمن.
حفلات أنغام الأخيرة في مهرجان الموسيقى العربيّة دليلٌ واضح على عدم مساومتها على اختياراتها، ربما لحدٍّ مجحف، فهي حتى اليوم تبتعد عن غناء ألحان سليمان لها عدا أغنيتَين أو ثلاث، في حين تُعيد أغانيَ كثيرة من ألحان أمير عبد المجيد، وسماع ألحان الاثنين يؤكّد أن المشكلة ليست في أن أحدهما أقرب من الثاني إلى قلبها، لكنها اختارت أحدهما وخضعت لاختيارات الثاني. تفتخر أنغام بكل ما قدمته خاصةً بعد سيدي وصالك، لدرجة تسجيلها أغنية مهزومة مثلًا بأعلى كلفة لأغنية عربية في التاريخ، مع ثالث أفضل فرقة أوركسترا في العالم في براغ، لأنها شعرت أن للأغنية قيمة كبيرة، غافلةً عن أن أكثر ما تحبه وتُكثّف فيه انفعالها في اللحن يتطابق مع جملة أخرى من أغنية أنا بعدك لـ آمال ماهر، كما تُؤكد إعجابها الكبير بأغنيتها اتجاه واحد التي أعاد فيها رامي جمال تكرير لحن أغنيته هخاف من إيه، وأغنية ما جابش سيرتي التي اقتصر فكر رياض الهمشري التلحيني فيها على الجمل الغنائيّة، وترك المقدمة واللوازم لتجميع الجمل اللحنية من هنا وهناك، تستحضر المقدمة مثلًا موسيقى رأفت الهجان لـعمار الشريعي، مع التأكيد أن تجميع الهمشري أكثر أصالةً من أغلب ألحان خالد عز وشريف تاج لأنغام، باستسهالٍ يغلب على الاثنَين، وغياب تماسك يتفوّق فيه عز، في حين كانا الملحّنَين الأكثر عملًا مع أنغام منذ بداية الألفيّة، كما تحرص أنغام في كل مناسبة على تأكيد أن خالد عز من أهم الملحنين المتواجدين حاليًّا، وأن الرؤية الدونيّة لحال الأغنية العربيّة في غير محلّها، وأن فن زماننا جميل.
ربما لا تتمتع أنغام بذائقة محمد علي سليمان ومريديه، وليست راغبةً بحمل مسؤولية بعث زمنٍ انتهى وفُرِض عليها أن تكون جسرًا بينه وبين زمننا، لكنها مرحبة بتعلم كل جديد من تجربتها منذ بداية الألفية، فمثلًا، يُعد ألبوم أحلام بريئة الصادر في ۲۰۱٥ الأغنى بنصوص مختلفة منذ ألبوم ليه سبتها، والألبوم الأكثر غنى بأسماء ملحنين مختلفين منذ بداية مسيرتها قبل أكثر من ثلاثة عقود، ما أدخل تنوُّعًا نادرًا مقارنةً بالسائد، وجعل حتى محمد علي سليمان يهنئها بإنجازه، مُثنيًا لأول مرة على ما تقدمه منذ انفصالها عنه قبل أكثر من ۲۰ عامًا. حتى ألبومها الخليجي الأخير يكاد يخلو تقريبًا من أي مساومة في اختيار النصوص غير السهلة على غير الخليجي، وحافل بدلائل تأنّيها في اختيار الألحان. أنغام تهتم كثيرًا بأن تحب وتحس الجملة الغنائيّة، هذا ما لم يتغير بين أنغام القديمة والجديدة، لذلك لا نجد أمير عبد المجيد منزعجًا من توقف تعاونهما منذ أكثر من ۱٦ عامًا، لأنه يحب ما يُضيفه أداؤها للألحان وإن لم تعجبه الألحان، ويقول عنها: “هي صوتي. عشان فهمها للغُنا، عارفة ازاي تمسك جملة اللحن، وتطلع كل الأحاسيس اللي جواها وتوصّلها صح”.
في مقابلة مع أنغام بعد النجاح غير المسبوق لألبوم ليه سبتها وأغنية سيدي وصالك تحديدًا، كانت هناك مداخلة للصحفي محمد العسيري سُئل فيها عن رأيه بالألبوم الجديد، ورحّبت أنغام بمشاركته، ليفاجئها برد فعل سلبي واعتباره الألبوم تغريبًا لم يعتده من أنغام التي أحب، كان العسيري صديقًا لأنغام، والتي قاطعته لعامٍ ونصف بعد مداخلته، قابلته بعدها بجملة “بص انا مش هنسالك” ثم أتبعَتها بضحكة عفو. كشريحةٍ كبيرة من جمهور أنغام، رفض العسيري تصديق أن جديد أنغام هو ما تحب، وإن أكدت ذلك مرّتين، الأولى بتصريحها أن ألبوم ليه سبتها أكثر أعمالها شخصيةً وتمثيلًا لما تفضله، والثاني بذكرها بعد سنوات أن أحد خلافاتها مع المنتج محسن جابر أنه كان رافضًا لأغنية سيدي وصالك ومؤكّدًا أنها ستفشل، كما رفض أن يكون أحمد المهدي مخرجًا للكليب، فتحدّته أنغام بـ سيدي وصالك وأحمد المهدي، لتصبح بهذا الألبوم المطربة المصريّة الحيّة الأكثر نجاحًا. ربما أنغام سيدي وصالك التي يراها عشاق أنغام محمد علي سليمان هاربةً من حقيقتها لتلبية متطلبات السوق، هي بالفعل أنغام محمد علي سليمان، لكن باختيارٍ حُر لم يُتح لها قبل مرور ١٣ عامًا على بدء مسيرتها.