.
القلق الذي يكاد أن يغير الموسيقى العربية | كميليا جبران

أهل الشاطئ الآخر | مجازفة أم تجربة محافظة؟

يارا سعدي ۲۰۱۳/۰۲/۲۲

تساؤلاتي حول مركّبات، وجو ودور الأغنية التي أغنيها تتاكثر وتتكاثف: عملي هو محاولة المشاركة بالتساؤلات وإبقاؤها حيّةكميليا جبران

إن اعتدنا على سماع الأغاني من خلال سياق موسيقي معين يمهّد نهج المقطوعة ومعانيه، تقدّم لنا الموسيقيّة كميليا جبران (١٩٦٣) في أسطوانتها وميض (٢٠٠٤) نموذجاً مختلفاً كليّاًفيه تكوّن جبران مع فيرنر هاسلر، المتخصّص في الموسيقى الإلكترونية، حيّزاً موسيقيّاً تفاعليّاً بداية من الأغاني وليس بالعكس. إذ تقدم كميليا خلال المقطوعات سيرورة تفكيك وإعادة بناء لغتها الموسيقيّة الخاصة وغير المألوفة، والمنبثقة من تجربتها في الموسيقى العربيّة نحو تساؤلات الموسيقى التجريبيّة المعاصرة

ولعل مقطوعة الشاطئ الآخر من أسطوانة وميض، من كلمات دميترس أناليس وترجمة أدونيس للعربية، مثالاً عينيًا للموضوع. إذ يبدأ تكوين السياق باختيار قصيدة سرياليّة نوعاً ما، وبغناء كميليا بغناء النسخة العربية منها بأدائها الخاص، وخياراتها التي تنعكس بالتشديد على بعض الكلمات، وبالاستراحات في الأماكن الأخرى، يصبّ في شخصنة القصيدة، ما يخفف من سريالية الكلمات ويجعلها تصوّب المستمع لتجربة التشريد الفلسطينيّة

أما ما يجعل هذه الخطوة أقوى معنويّاً، فهي دمج اللغة الموسيقية التجريبيّة في الحيّز، مما يساهم في توليد مكان للغربة الموجودة في الكلمات، خاصة من خلال المبنى، والمعادلات الموسيقيّة في المقطوعة.

لا تكتفي كميليا بتوفير طابع وهوية للحيّز الموسيقي المتكون، بل تقوم أيضاً بتحديد الخطوط العريضة لهذه المساحةإذ تتكون مقطوعة الشاطئ الآخر من محاور عدّة تضاف فوق بعضها البعض، وكأن الأغنية تتوسّع من خلال المحور العمودي عوضاً عن تبلورها من خلال المحور الأفقي فحسب. ولعلها بذلك تحاول أن توقفنا بالوقت لتشغل حيزاً أوسع حولنا بمنهجية بارزة. فالمقطوعة تتألف من أربع محاور، تتفاعل فيما بينها، وقد تنتج تساؤلات أكثر ممّا تنتج مقطوعة موسيقية مغلقة وجاهزة ونهائيّة

المحور الأول عبارة عن نغمة مركّبة من أصوات إلكترونيّة. تستهل هذه الأصوات، المكونة من أربع ارتفاعات، الأغنية، وتبقى ثابتة تقريباً حتى نهاية المقطوعة، حيث تتلاشى قبيل النهاية. فتقوم هذه الارتفاعات بدور تأسيس النوتات الثابتة في المعزوفة (أي دور التونيك والدومينانت Tonic, Dominant) في المعزوفات الغربية، ودور عرض مقام المعزوفة في أولها كما هو مألوف في المعزوفات العربيّة الكلاسيكيّة)، والتي تشكّل المعيار لسائر الارتفاعات والأساس لسياقها، وتكون بوصلة لأذان المستمعين.  

بعد أقل من عشرة ثوانٍ، يضاف محور آخر على محور النغمة الإلكترونيّة؛ وهو صوت إنساني Vocal. في هذه الأثناء تقوم كميليا بغناء كلمات القصيدة، محافظةً على مبناها العام من حيث الأبيات، ولكن من دون الالتزام بالإيقاع الداخليّ للقصيدة.

المحور الثالث هو عبارة عن صوت العود، وهو يشارك بلمسات غير متواصلة، حيث يبدأ بمقاطع قصيرة جداً تتزايد وتطول مع تقدُّم المعزوفة. رغم أن العود نجح بإضافة لون خاص للمقطوعة وبلورة دور غير اعتيادي لهذه الآلة، إلا أنه في ذات الوقت يبقى مهمّشاً بعض الشيء، حتى أنه في لحظات التوتّر يضيع بين المحاور الأخرى

أما المحور الرابع فهو عبارة عن إيقاع بطابع الـ ترانسمحوّلاً المعزوفة إلى مقطوعة إيقاعيّة، ممّا ينتج نوعاً من الجدليّة ما بين إيقاعيّة المحاور الثلاثة وامتداد صوت كميليا في بعض الأحيان. هذا المحور يشكّل نقطة تحوّل في المقطوعة، إذ ينقل الأغنية من طابع موسيقى الـتقليلية Minimalism الكلاسيكيّة الغربيّة، والتي تكوّنت في الستينيّات، والمنعكسة بالمحورين الأولين في المقطوعة، إلى موسيقى الـ ترانسوالتي تشكل امتداد تيار التقليلية في الموسيقى الجماهيريّة (البوب) والتي تكوّنت في التسعينيّات

هذا الانتقال يساهم ببناء سياق المقطوعة، ويعكس سيرورة بناء المعزوفة من توتّر و حلّ. فتبلور الأغنية لا يتم من خلال تطوير المحاور المختلفة كل على حده، إذ لا يتطوّر بعضها بتاتاً. فإن تطوّرهم يحدث من خلال تراكماتهمالأمر الذي يخلق سياق التوتر لدى المستمع، وذلك عوضاً عن المعادلات الموسيقية الاعتياديّة. مما يولّد محوراً خاصاً بين المعزوفة والمستمع، ويبقيه في انتظار الحل لها

لعل أغنية الشاطئ الآخر، ولربما أسطوانة وميض عامة، هي تجارب حول تطوير هذه المحاور الموسيقية المختلفة والسبل الممكنة لدمجها سوياً: الموسيقى الإلكترونية، تبني تعريب قصيدة سرياليّة، دور العود في الحيز الإلكتروني، والتلاعب في التركيبة الطبيعيّة لصوت الآلات

وبالرغم من جميع هذه المحاولات، تخلو المقطوعة من المجازفةحيث أنه بعد اختيار المحاور واللغة الموسيقيّة، تستقرّ المقطوعة في شكل الترانسلون الموسيقى الجماهيرية (البوب). وبذلك، تكون كميليا قد تخلّت عن طرح المزيد من التساؤلات الموسيقيّة. فتتحوّل الأربع محاور إلى حدود المساحة الموسيقيّة المكوّنة، وتحدّ من تطوّرها، مما يجعلها تبدونظيفةومحافظة نوعاً ما.

تسرد كميليا في موقعها الإلكتروني، أن ما حثّها على إنتاج أسطوانة ونبني، هو تساؤلها حول كيفية أداء مقطوعة الشاطئ الآخر بعد أن قامت هي وفيرنر بتقديمها مرّات عديدة. ولعل هذا التساؤل يعكس أهمّية المقطوعة ووميض، إذ توفّر حافزاً للمزيد من التجريب وطرح التساؤلات الجذريّة حول اختيارات موسيقيّة أصبحت مفهومة ضمنا، مثلما هي علاقات القوّة بين المحاور في المقطوعة: أيها يحدد ملامح المعزوفة في نهاية المطاف؟ وخاصة عندما تأتي المحاور من أماكن وأزمنة مختلفة. وأيّة تغييرات تطرأ على معاني القصيدة حينما تصبح جزءاً من الأغنية.

*أي الدرجة الأولى والخامسة في السلم الموسيقي الطونالي Tonal music الغربي. ويعود دور الدومينانت لخلق التوتر والسعي للاستقرار المتمثل بالتونيك وبالأساس بالدرجة الاولى في السلم الموسيقى، إذ تشكل هذه الدرجة مركز باقي الارتفاعات في السلم.   

المزيـــد علــى معـــازف