عربي جديد

إحياء الغناء الصوفي | ثلاثة نماذج من المشرق والمغرب

حسن نصّور ۳۱/۰۵/۲۰۱۷

في الأعم الأغلب ترتكز موسيقى التصوف فيما يتصل بفرقها المحدثة على الخامة الصوتية المفردة (أحمد الخليع، فرقة ابن عربي مثالًا). لكنه الصوت الذي يكون متّسقًا في العمق مع رمزانية الأشكال والأساليب الصوفية في إقامة المزاج. نعني المزاج الذي ينشأ من تأثيرات المقام الموسيقيّ المخصوص الذي تتناسق به روح المقاطع النصية المغناة إيقاعيًا ومن ثم دلاليًا. نتحدث عن القدرة على مواءمة الكلمات والألفاظ والمعاني بأداة الصوت مع تفاصيلِ شكلانية الفرقة الغنائية المخصوصة؛ أدوات أساليب إضاءة وطرائقَ تنسيق الأمكنة على خشبة المسرح، وصولًا إلى تفاصيل اختيار لون اللباس. إنه المزاج المتكامل الذي يراد من خلاله تأدية وظيفة الإحياء بنقل المتلقي إلى قلب التراث، أو بإحياء التراث بشكل من الأشكال على نحو مخصوص في قلب كل سامع. يبدو هذا واضحًا في شغل فرقة ابن عربي للموسيقى الصوفية التي انبثقت من أحضان الزاوية الصدّيقية الدرقاوية، إحدى أشهر الزوايا الصوفية في المغرب العربي، وهي طريقة تنتهي إلى المتصوف الشهير العربي الدرقاوي المولود في بني زروال (١١٥٩ للهجرة) من نسل علي بن أبي طالب. هي طريقة شاذلية سنية الأصل.

نأخذ مثالًا حفلة مسرح قصر النيل في مصر قبل بضع سنين:

إذًا، يواكب النبرُ الصوتي في مثل هذا التقديم تقنياتٍ دائرية مشبعة بالإحالات، أو هي مستويات شكلية / معنوية يراد لها أن تتسق مع مزاج يتصاعد بالسامع في نشوة الجمع، من حركات دائرية تفصيلية صغرى إلى حركة دائريّة مثلى هي شكل الحضور الأمثل في الفهم الصوفيّ. فالدفّ مثالًا دائريّ والعود يكاد يأخذ شكل التدوير، والإضاءة النازلة من عتمة مجهولة مدوّرة أيضًا وتموقع أعضاء الفرقة مرارًا في شكل نصف دائري قابل مرارًا وتكرارًا لاستكمال الحركة. فضلا عن الزوائد التي يمكن أن تضاف على الخشبة، فإنه لا ينبغي إلا أن تندرج في ذلك النسق الدائريّ، وهو النسق الذي لا يمكن فصله بحال من الأحوال عن تأسيسات الإيقاع الموسيقيّ، إذ إن فكرة الدائرة وتقسيماتها إلى بحور وحركات إيقاعية هي فكرة نظرية مؤسّسة في مذاهب الغناء العربي منذ مطلع القرن الثالث الهجري.[Mtooltip description=” انظر مقدمة الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني” /]

يلزم إحياءَ هذا النبر الموسيقيّ إحياءُ مجمل التفاصيل والأحوال التي تحيل إليها تلك النصوص الثمينة المغنّاة. يُلزِم هذا أيضًا معرفة أو اشتباك السامع على نحو مخصوص بذلك الموروث إن أراد الإقامة على نحو ممتع في المزاج. نتحدُث، وفرقة ابن عربي مثالًا، عمّا يشبه محاولات حثيثة بتلك الخامة الصوتية المفردة لإعادة خلق النصوص عبر إخراجها على ذلك النحو وفي مثل ذلك الترتيب الشكلاني المتقن. نعني بخلق النصوص إنشادها على نحو يشعر المتلقي بكونها نصوصًا قد اختُرعت للتوّ من على ثغر المنشد، ونعني بالخلق قدرة المنشد على إنشاء جدّة للنص المغنَّى، جدّة بالحال واللحظة، وهو يقترب من فكرة الارتجال في الأداء وفي تقنية توصيل وتخريج النصّ المعاد كل مرة على نحو مغاير. يحيل ذلك كله إلى مفهوم الخلق عمومًا باعتباره ابتداعًا لحظيًا كلّ مرة من خارج القصد سوى ما يقيمه حدس واستغراق المنشد في المزاج. لا يكون هذا الخلق ناجعًا إلا حين يأتي متوائمًا مع مجمل النسق البصريّ الخافت الذي يطغى في عين المتلقّي والذي هو حالٌ من حدث القول والإنشاد كلّه. فالقول هنا مخلوقُ من لغة، واللغة لا تنتج في مثل هذا المجال الموسيقي إلا عن حركة دائريّة مُثلى تحيل مرارًا وتكرارًا في نفس المتلقي إلى حركة الأفلاك التي تنتج في فهم الصوفية كلّ الموجودات. لذا فالسامع إذ يعي مركزية تلك الحركة في مجمل هذا النوع الفنيّ فإنه يحيا بالدرجة نفسها سماعًا، حركة النفَس المغنّى المتباطئ إذ يحاكي نصف الدائرة. حركة ما إن تكاد تخفت حتّى يباغتها إيقاعٌ فجائيّ كأنه الإفاقة أوالتنبيه لاستئناف كامل حركة الخلق الدائريّ.

يمكن القول إنّ حيوية المنجز الموسيقيّ لفرقة ابن عربيّ المغاربيّة ليست في تقديمها توليفة موسيقيّة أدائية غير مسبوقة، بل إن هذا الأداء يظل في مستوى من المستويات متوقَّعًا وكلاسيكيًا لجهة التوليف بين مجمل الأدوات. الفارق أو الملفت في هذا المزاج، وهو ما يجدر بالسامع الانتباه إليه، هو كلاسيكيته ذاتها، ونعني تلك الإيقاعات الصوتية التي تحافظ في أغلب المقطوعات المؤداة على نمط غنائي/ أدائيّ لا يدين في جماليته للتنويع مقامًا أو لعبًا بالتراكيب، بل هو يدين للخامة الصوتية الصافية التي تناسب هذا النوع من النصوص، والتي إلى ذلك تبدو كأنها مهجوسة بإنطاق الأحوال والأرواح أو البيئة التي أنتجت تلك النصوص مدفوعة باللهجة المغاربية الواضحة في قراءة المتون، إذ تغنَّى ونعني ذلك التشديد المرقّق الذي يكون أشبه بالوقف في قراءة ونطق الفصحى بخلاف اللهجة المشرقيّة التي هي أكثر انسيابًا في القول والإفصاح والنطق.

تندرج فرق الموسيقى الصوفيّة المحدّثة في مستوى من المستويات في أنماط الإنتاج الموسيقيّ الحديث شأن الأصناف الموسيقيّة الأخرى، بمعنى أنها مندرجة بوعي ضمن الأنساق المعروفة والمتوقّعة في التقديم والتلقي والتفاعل مع جمهور واسع من المهتمين بهذا النوع الفنيّ. في هذا الحيز، تجد هذه الفرق مجالاتها الحيويّة عملًا وتقديمًا لا بالضرورة من طرائق التصوف الشعبيّ الذي يكاد يكون عفويّا وغير واعٍ بالسياق الفنيّ، بل إن هذه الفرق تقيم صناعتها الذوقية في قلب المدينة العربية الحديثة ذات التراث العميق (دمشق، طنجة، بيروت، القاهرة…). ويكون الشكل المحدَث في التواصل هو التماس مع جمهور هو الشكل الذي يناسب أيّ نوع غنائيّ حديث أنتجته المدينة العربية المعاصرة. إنه نوع مفكَّر فيه إذًا على نحو يراعي مزاج النصوص وإمكاناتها اللحنية، وفي نفس الوقت يعيد استمزاجها في مجالها المحدث المدنيّ، في المتروبول.

لم يباشر بشار زرقان تأليفه او أداءه الموسيقى بإيقاع الموسيقى الصوفية، بل انتقل إليه من خبرة في أداء الأغنية السياسية في الثمانينات (أصدر ألبوم في البال بالتعاون مع أخية أيمن زرقان ١٩٨٦). على أن انشغاله الأساسيّ، وهو القادم من بيئة دمشقية طافحة بالموروث الصوفي، بسؤال العلاقة الإشكالية بين الكلمة والايقاع والأداء / الحركة قد أقامه في التجربة الجديدة منذ منتصف التسعينات إثر سفره إلى باريس عام ١٩٩٢، حيث أتيح له أن يرفد تجربته باستاجات لمسرح الصوت والأداء الموسيقي في ستوديو بيجماليون.

يفترق مزاجٌ مشرقيّ في الموسيقى الإحيائية الصوفية عن مزاجات مغاربية في سمات عديدة، لعل أبرزها أن الموسيقى الإحيائية الصوفية بشقها المشرقيّ لو صح التعبير تميل في أكثر الأحيان إلى الابتداع عبر الاشتغال على تفاوتات الطبقات الصوتية والإيقاعات. تفاوتاتٌ تسمح للمؤدي المفرد (السوري بشار زرقان مثالًا) بتزخيم صلة النص مع السامع أو المريد، متكئًا لا على قوة أو حضورية النص التراثيّ أو غيره من نصوص الشعر الحديث بالضرورة، بل على جعل نصه التراثيّ أو المحدث (قصائد أو نثريات) جزءًا من تلك الحرارة أو الحساسية الشعورية التي تتلبس الأداء. نتحدث عن نصوص تؤدى على نحو لا يَدين لإيقاع كلاسيكيّ مكرور شأن إيقاعات الصوفية الكلاسيكية المستمدة من طرائق الذكر وتقنيات التكرار.

يحتاج التفصيل في ظاهرة الإنشاد إلى مطولات ليس هذا النص مكانها بالضرورة. ما يشغلنا هنا هو ظاهرة الإنشاد الديني الفردي المتصل بإبداعات نصّية أدائية وارتجالات إيقاعية لشيوخ من بيئات مخصوصة تدفعنا لإدراج هذا النوع في نمط من الموسيقى أو من الإيقاع الصوفيّ الذي يفترق بسماته شكلًا ومزاجًا عمّا ورد أعلاه من فرق التصوف المحدثة[Mtooltip description=” توضيح هذا المقطع وارد أدناه بعد مقطعين ‘تفترق سما هذا النبر” /].

لا يمكن للسامع أو للمهتّم بموسيقى التصوّف أو بإيقاعات هذا النمط إجمالًا إغفال تقاطعات هذه النماذج مع ظاهرة الإنشاد الدينيّ الإسلاميّ. على أن هذا التقاطع يتّصل في العمق بالمجال الحيويّ للنصّ الصوفي وثيماته، ولا يتصل بالضرورة بمجمل التقنيات والأدوات التي يتوسلها المؤدي للوصول إلى مستوى فتنويّ يحدس به السامع. إلى ذلك، فإن الإنشاد الدينيّ ذاته ليس شكلًا متسقًا مفردًا لجهة النبر والإيقاع بل يتعدد بتعدد الهياكل أو البنيات أوالبيئة حيث تكون نشأته، إلا أنه يفترق كنوع عن تلك الفرق بكونه أقرب إلى مزاج الاجتماع الدينيّ في كل بيئة مخصوصة. إنه بتعبير آخر منتَج البيئة ومنتج أنماط التدين والتمذهب فيها.

ياسين التهامي ( ٦ ديسمبر عام ١٩٤٩) المعروف بالشيخ ياسين التهامي منشد ديني مصري، ولد في قريه الحواتكة مركز منفلوط . يتصل أداء التهامي بشكل رئيسيّ بالحضرات الصوفية في البئيات الشعبية التي تقيم في دوائر أضرحة الأولياء وإحياءات المناسبات الدينية الفرعية الإسلامية في الأرياف. يعود انفلاش ظاهرة التهاميّ وأترابه في العقود الأخيرة إلى تحول بطيء في مستويات توصيل هذا النوع من الإنشاد بمعنى إحداثه اختراقات جديّة من خارج دوائره السماعيّة الصغرى. الارتجال الفائق والمعقّد المتكئ على إيقاعات بسيطة هي إيقاعات أو دقّات الذكر ـ  والحضرة الكلاسيكية تسمح للمنشد أو للمؤدي باختبار طبقاته الصوتية التصاعدية على نحو لا يمكن إغفاله وعلى نحو من شأنه توسيع دائرة التعريف في هذا الشق من النبر الصوفي.

تفترق سمات هذا النبر أو هذه الحلقات عن أنماط محدثة وشائعة أخرى من موسيقى التصوف بكونها عفوية لا تتوسّل في العمق تقنيات المزج ولا محاكاة أنماط إيقاعية تسلكها بعض فرق الموسيقى الصوفية المحدثة. فالأداء الصوتيّ بطبقاته وتلاعباته وتفاوتاته يكاد يكون أداءً مخترَعًَا في لحظته وغير مفكّر فيه. إنّه الأداء الحدسيّ الذي لم يخضع لأي تمرين أو جدولة أو بروڤا، بل إنّ المناسبة بحد ذاته هي بروڤته، وضمانه هذا التوصيل هو الجذب والسماع وقدرة المريدين الدافقين من كل حدب وصوب على التفاعل والانتباه لا بالضرورة إلى المنشد ذاته بل إلى المزاج بأسره.

لا يمكن للسامع فيما يتصل بموسيقى التصوّف إغفال نسبتها في شكل من الأشكال إلى ما يعرف تراثيًا بالحضرة الصوفية. والحضرة هي تحلّق جمع من المريدين حول الشيخ أو الإمام يتوسل الذكر. والربط هنا أن السامع في حضرة هذا الإحياء لا يكون منفصلاً عن تلك الإحالة إن على مستوى شكلاني أو على مستوى المعاني والمضامين. فالفرقة الصوفية هي حضرة محدثة أو هي حضرة لا غائية أو يمكن القول إنها حضرة بمريدين لا ينتسبون بالضرورة للغاية التراثية ذاتها بل يتفاوتون في أسباب التحلق أو الإجتماع إلى هذا السماع الإحيائي الجديد.

في المقابل ليست الموسيقى المحدَثة التي تتّصل تعريفا بثيمة التصوّف نمطَا إيقاعيّا واحدَا في كلّ حال. على أنّ القول إنها موسيقى مختًصة بالتصوف مردّه إلى كون متونها المغناة أو المُحياة غناءً في العقود الأخيرة هي غالبَا متونُ أعلام المتصوفة الكبار في الحضارة العربية الاسلامية. إذًا، تكون الإحيائية في هذا الحيّز إحياءً لمزاج تلك النصوص إنما في سياق ينزاح جزئيًا عن بنية النصوص الشعرية الأصلية الغائية في تراث المتصوفة. إنه مزاجٌ ينحو نحو استخدام الحساسيّة الشعورية المتأتية من جماليات المعاني والمفردات الصوفية ائتلافًا وتنسيقًا، ومن ثمّ يدفعها بالصوتِ الفائق واللحن المتباسط تارة والمعقد طورًا إلى نبرٍ لا كامل الجدّة بالمطلق، بل هو المربع الذي يتم فيه استدخال التصوف بإيقاعاته في البنية المفهومية التعريفية للفن بمعناه المحدث، بمعزل عن غائيات التقرّبية الدينية في سلك المريدين والتقاة.

المزيـــد علــى معـــازف