إنترتينمنت | جانج أف فور

في إنكلترا السبعينات، كان الاضطراب الطبقيّ في أوجه. تألف محيط كثير من الجامعات من منازل عمّال مهجورة مهيأة للهدم. في أماكن كهذه ولدت حفلات البَنك، وتفشّت الخلافات الطبقية في هذه الحفلات، فالبَنك بطبيعته وبفلسفته كان مخالفًا للميول المحافظة التي كانت مهيمنة. عام ١٩٧٦، من خشونة هذه المدينة وشوائبها، ضمن محيط جامعيّ كالذي ذُكر، خلال فترة بدأت بتجاوز البَنك، اتفق أربعة شبان على إنشاء فرقة سُميّت تيمنًا بالفصيل العسكريّ الأوفى للقائد الشيوعي الصينيّ ماو تسي تونغ.

بعد ثلاثة أعوام على إنشاءها، أصدرت جانج أف فور ألبومها الأوّل، إنترتينمنت. قدّم أفراد الفرقة (دايف آلن لاعب الجهير ومغني، هيوغو بورنهام لاعب الطبول والإيقاع ومغني، آندي غيل لاعب الغيتار، مغني ومصمم فنيّ، جون كينغ مغني، لاعب الميلوديكا ومصمم فنيّ) إلى العالم كنزًا من التنافر السمعيّ والتلاعب اللغويّ والعنف الصوتيّ، محطمين مفاهيم البَنك. بينما حافظوا على غضب وتحيّز البَنك السياسي والاجتماعي، قاموا بمزجه بإيقاعات ريغي وداب وفَنك.

ينتقد عنوان الألبوم المستوى المنحدر الذي وصل إليه المجتمع كي يرفه عن نفسه في العام ١٩٧٦. يكشف غلاف الألبوم على ميول الفرقة للأمميّة الموقفيّة، وهي حركة ثوريّة شكلّها مثقفون وفنانو الدادا والآفان غارد. كانوا مؤيدين شرسين لكارل ماركس، ومنتقدين للرأسماليّة وما يمثلها. يتكون الغلاف من مربعٍ أحمر، على يمينه ثلاث نسخات معدّلة بتأثيرات من الصورة عينها: هنديّ يصافح يد راعي بقر. استبدل وجهيهما باللونين الأبيض لراعي البقر والأحمر للهنديّ، اللونان النمطيّان لهذين العرقين. كُتب حول الصور “الهنديّ يبتسم. هو يعتقد أنّ راعي البقر صديقه. راعي البقر يبتسم. إنّه سعيد لأنّه خدع الهنديّ. الآن يمكنه استغلاله.”

على الغلاف الخلفي صور متلاصقة لرّب أسرة وأفرادها. يقول الأب “أنا أنفق أغلبية مالنا على نفسي كي أبقى سمينًا”، تقول العائلة “نحن ممتنون للحصول على فضلاته.” على الغلاف الداخلي للأسطوانة، صور لمشاهد من التلفزيون مرفقة بجمل تظهر آراء الفرقة بالتغطيّة الإعلاميّة الخادعة والمضللة، مثل “الوقائع تُقدم بشكل محايد كي يكوّن الجمهور رأيه الخاص” ، “الرجال يتصرفون ببطولة كي يدافعوا عن وطنهم”، “الشعب يحصل على ما يريد.”

تمثِّل الأغنية الأولى، إيثر، حوارًا بين فردٍ من المجتمع البريطاني وآخر من الجيش الجمهوري الإيرلندي. لم تكن حكومة ثاتشر حكومةً رحيمة، وما قامت به ضد الجيش الجمهوري الإيرلندي في السجون سيضيف إلى تاريخ بريطانيا الإمبرياليّ الطويل بسحق الشعوب. يُظهر الحوار التفاوت في حياة الفردين: بينما يتمتع البريطانيّ بملذات الحياة، وهو حرّ ليلاحق سعادته الاستهلاكيّة الأبديّة، يقبع الإيرلندي في سجن قال عنه رئيس أساقفة آرماغ “لن يسمح المرء لحيوان بأن يبقى في ظروف مماثلة.” تنتقد الأغنية تعامل الحكومة البريطانيّة مع الإرلنديين، وتعلن أن تعلق بريطانيا بإيرلندا اقتصادي بحت، عبر ذكر حوض روكال الغني بآبار الغاز والنفط.

تبدأ أغنية ناتشورالز نوت إن إت بالتساؤل: كيف يمكن للرفاهية أن تكون مشكلة؟ تتحدى الكلمات المفهوم الدارج لما هو طبيعيّ، مشيرةً إلى أن الطبيعي أو العادي هو ما تحدده قوى الواقع. على سبيل المثال، الفقر جزء من تراتبيّة المجتمع. بالتالي، لا يشكك الناس بمفهوم الفقر ولا بسبب وجود الفقراء أو المشردين – نمّر بهم ولا نرى بشرًا، بل مجرد جزء طبيعي من الواقع.

استخدمت الموجة النسوية الثانية شعار الخاص السياسيّ للتشديد على اتصال العلاقات الشخصيّة بشكلٍ مباشر بالبنى الاجتماعية والسياسية. يدافع جانج أف فور عن حق النساء بالمساواة، يعلنون للبشر أنّ السعادة أمرٌ ممكن من دون سلع، ويدعوننا للتشكيك بما قيل لنا إنّه طبيعيّ، على وقع أنغام تبعث السرور وذات جاذبية سمعيّة. فيما تطرح ريترن ذ جيفت مشكلة العمّال على مستوىً وجودي، حيث تختزل حيواتهم في التحول إلى وقود لماكينة الاستهلاكية المفرغة من المغزى، دون هامش أو فرصة للتوقف والتأمل في معنى وجودهم في الحياة.

تنتقد أغنية ليسوا رجالًا عظماء (Not Great Men) ذكورية الواقع عامةً، ونظرية الرجال العظماء بالخصوص. تنص هذه النظرية على أن التاريح يُحاك بفضل أثر رجال عظماء أو أبطال، قادرين على تغيير مجرى الواقع بفضل تفوقهم أو جسارتهم أو وحيهم المقدس. “لم يكتبه الرجال العظماء”، تتكرر هذه العبارة في الأغنية في إشارة إلى التاريخ، وإلى رفض الفرقة لنظرية توماس كارلايل التي تفرض هيمنة الذكور على التاريخ والتأريخ.

تنتقد أغنية داماجد جوودز الرأسمالية التي حوّلت معاييرنا لإيجاد شريك إلى شخص يتماشى مع أسلوب حياتنا الاستهلاكي. تغريب وتنفير الآخر بسبب الرأسمالية، وحبنا الحصريّ لها. بينما تحكي آي فاوند ذ إسنس رير عن رغبتنا المنقبضة بالحصول على علاقة أو وجود حقيقي ودائم، وسط البرمجة القمعيّة التي نتعرض لها. نحن نصدق الأكاذيب، ونقتنع بالأخبار المضللة بينما نعرف حقيقتها. أرادت شركة الإنتاج أن تكون هذه الأغنية المنفردة الأولى من الألبوم، بفضل موسيقاها التي قد تجعلها الأكثر شعبيّة ورواجًا بين الجمهور، لكن الفرقة رفضت ذلك، منتهزة الفرصة لتطبيق مواقفها، كما رفض أعضاء الفرقة بالمثل استبدال كلمة الواقي الذكري لتأدية أغنية آت هوم هيز أ توريست في برنامج توب أف ذ بوبس، الذي كان الأكثر شعبية في تلك الحقبة. وجد منتجو البرنامج الكلمة مهينة، فيما وجدها أعضاء جانج أف فور واقعية، وتم إلغاء ظهورهم.

يقول جو كينغ إن الإلهام خلف أغنية جانز بيفور باتر أتى من ملصقات جون هارتفيلد، التي قللّت من شأن الحكم النازيّ. كما أنّ بعض الجمل مقتبسة من خطاب ألقي في العام ١٨٦٢ للمستشار الألماني أوتو فون بيزمارك، الذي كان مؤمنًا بسياسة القوة. يأتي اسم الأغنية من النموذج الاقتصادي الحرب أو المؤونة – المأخوذ بدوره من اقتباس لوزير البروباجندا النازي جوزيف جوبلز، وبالعموم من استراتيجيات وضع الأولوية للحرب على حساب الشعب.

في كونتراكت، يتجلى تأثر الفرقة بالأمميّة الموقفيّة، التفكيكيّة، وفلسفة فوكو ولاكان، التي تقارب العلاقات الإنسانيّة بعقود للمصالح المشتركة. تدعو الفرقة المستمع إلى تخطي ما يضعه تحت خانة الخصوصية، وتتحداه للتوصل إلى المعنى المبطّن من خلال المعنى الواضح. فيما توضح الفرقة في لاف لايك آنثراكس، أن المشكلة ليست في الحب بحد ذاته، بل في الأطر التي وضعها المجتمع حوله. تدمج الفرقة الغناء بالكلمات المحكية (spoken words) في استلهامٍ من فيلم نوميرو دو لـ جان لوك جودار.

تفتتح أغنية ‫.٤٥ بجملة قالها آندي غيل: “كيف لي أن أشرب الشاي بينما تسيل الدماء على التلفزيون؟” كبشر، أصبحنا معتادين على فصل أنفسنا عما نراه على التلفاز، وكأنّه يحصل في بعدٍ آخر. نرى الناس في أعمال شغب، تُطلق النيران عليهم وتسيل دماءهم، بينما نشاهدهم وكأننا في سينما. إنّه التغريب الذي ولدنا في كفنه، والذي نادرًا ما نتخطاه لأننا غير مدركين لوجوده. تبحث أغنية جلاس في نفس هذه الثيمات، رؤيتنا للعالم وكأننا لسنا جزءًا منه، وابتعادنا الوجودي عن الكوكب حيث نحيا.

تريدنا هاتان الأغنيتان، والألبوم بالعموم، أن نصحو من سباتنا الاجتماعي، لندرك أن تجاربنا الشخصيّة تشكل العالم كما هو، وتفاعلنا مع الأمور الصغيرة من حولنا يحدد قدر هذا الكوكب. يختار ألبوم إنترتينمنت السرد والقصص كطريقة لاختبار العالم حولنا. نجد في زوايا أغانيه حضورًا لإيميرسون، آنجلز، بريخت، دون ديليلو وكابوتي، إذ اختارت الفرقة صورًا ومجازات من الثقافة الشعبية، قلبتها رأسًا على عقب، وحولت المستمع إلى مشاركٍ في العمل.

أصبح إنترتينتمت من أهم ألبومات البَنك بسبب تجاوزه البنك على وجه التحديد. تجاوزت الفرقة تمرد البَنك التقليدي، الذي لا يتجاوز حدود غضب المراهقة على كل ما يفرضه المجتمع، لتضيف الفلسفة إلى تمردها. دعمت جانج أف فور أفكارها بحجج ومنطق، وأقتباسات من الأدب والفلسفة، لتنفي عن موسيقاها مظهر الشعبوية، وتتحدث بلغة مفهومة للجميع عن دور الفرد في عجلة النظام.

تجاوز الألبوم البَنك التقليدي على المستوى الموسيقي أيضًا، كالجمع بين ما اعتبر عدوّين في ذاك الحين، البَنك والفَنك. أدخل جانج أف فور آلة الميلوديكا الرنانة على موسيقاهم، وابتعدوا عن كليشيهات أغاني الروك كسولوهات الجيتار. أضافوا نغمات من البلوز والجاز، وإيقاعات الفَنك والآر إند بي وطبول الديسكو، تأثروا بارتجالات جيتار هندريكس، وحولوا البايس إلى آلة ذات صوت سائل يترسب في الأغاني بشكلٍ مثاليّ، كما استعاروا الجوّ السمعيّ الضبابيّ من ذ فيلفيت آندرغراوند. تأثرت العديد من الفرق بجاتح أف فور منذ الثمانينات حتى الآن، من آر إي إم إلى نيرفانا. في أواخر التسعينات، شهد العالم إعادة إحياء البوست بَنك مع ظهور فرق مثل كلايرز وبلوك بارتي، مما أعاد جانج أف فور إلى الواجهة، ليستمر ميراثهم في الحضور بالموسيقى التي تحيط بنا حتى اليوم.