.
يقول موراكامي: “تعلمت أهمية الإيقاع من الموسيقى، وخاصةً الجاز. يحتاج الأسلوب إلى إيقاع جيد وطبيعى وثابت، وإلا فلن يستمر الناس في قراءة عملك.”
يمكن لإيقاع الموسيقى أن يشكل الأسلوب الأدبي ويؤثر فى الخيال. سواءٌ في حالة كاتب يحاول التقاط الإلهام بالموسيقى، أو قارئ لاحظ يومًا نصوصًا تُقرأ بسلاسة، وأخرى تبدو مفككة أو مملة، يلعب الإيقاع في الحالتين أهمية كبرى فى تطوير عملية السرد، وتشكيل النص وإبرازه، أو حتى جعله مملًا يتعذر الاسترسال فيه.
تنشّط الموسيقى عامةً المناطق الإبداعية في الدماغ، والمسؤولة عن الخيال. كما تفعل أحلام اليقظة، تحفز الموسيقى أيضًا الانفصال المؤقت عن الواقع والاندماج فى عوالم خيالية، ما يوفر مساحة آمنة يعمل فيها اللاوعي ويستكشف احتمالاته الخاصة.
يحوز الإيقاع أهمية في الكتابة لا تقل عن أهميته في القطعة الموسيقية، ويمكننا القول إن الإيقاع أرضية واحدة تقف عليها الموسيقى والكتابة معًا؛ فما هو الإيقاع أصلُا؟
بشكل عام، الإيقاع هو التكرار المنتظم للعنصر الزمني في العمل الفني، سواء كان مسموعًا أو مقروءًا، ما يخلق نمطًا يضفي على العمل الفني أو الأدبي طابعًا مميزًا.
فى الموسيقى، الإيقاع هو تناوب الأحداث الصوتية فى تسلسل منتظم، وأنماط متكررة من الضغوط القوية والضعيفة، ويخلق هذا النظم فى اللحن إحساسًا بالحركة والوقت، والشد والإرخاء، بحيث يساعد المستمع على تمييز بداية الجملة اللحنية ونهايتها، وتصعيدها وانفراجتها.
أما في الكتابة، فالإيقاع هو بالأساس تناغم داخلى، ناتج عن توزيع كل عناصر النص، من الجمل إلى الكلمات والمقاطع، وحتى الفقرات؛ ويتناوب هذا التوزيع بين التكثيف والترقيق، أو التوتر والانسياب. الإيقاع في الكتابة ترس رئيسي فى ماكينة الأسلوب، أو كما تقول فرجينيا وولف: “الأسلوب كله إيقاع.”
يميل الإيقاع في الموسيقى العربية إلى التعقيد والتفاعلية، ومن شان ذلك التعقيد الإيقاعي أن يلهم الكتاب في بناء كتاباتهم، حيث يمكن للإيقاع أن يظهر في النصوص ليضفي عليها طابعًا موسيقيًا يجعل النص أكثر تأثيرًا.
من المشهور عمق التقدير الذي يكنه نجيب محفوظ لأم كلثوم، فبخلاف تسميته لإحدى بناته فاطمة على اسم آخر أفلامها، والثانية أم كلثوم، صرح نجيب محفوظ مرارًا بولعه الشديد بسماع الست. ورد على لسان أحد أبطاله في رائعته خان الخليلي: “اسمعوا القول الفصل، أجمل ما تسمع الأذن، سي عبده الحامولي إذا غنى يا ليل، والشيخ علي محمود إذا صعد مئذنة الحسين وأذن لصلاة الفجر، وأم كلثوم في دور إمتى الهوا ييجي سوا.”
يدخل قارئ نجيب محفوظ في حالة تشبه الطرب، تمامًا كما نطرب للست. كان محفوظ يكتب لمن يقرأ على مهل، كما تغني أم كلثوم للمستمع المتأني. وظّف محفوظ جمله وألفاظه لنقل المشاعر المعقدة وخلق تجربة حسية بإيقاع لغوي متميز، مثلما نجد في بداية روايته خان الخليلي:
“انتصفت الساعة الثانية من مساء يوم من سبتمبر سنة ١٩٤١، موعد انصراف الدواوين، حين تنطلق جماعات الموظفين من أبواب الوزارات كالفيضان العارم، وقد نهكها الجوع والملل، ثم تنتشر في الأرض تطاردها أشعة الشمس الموقدة، انطلق أحمد عاكف – الموظف بالأشغال – مع المنطلقين.”
الافتتاح هنا تكثيف موسيقي محسوب، تتراكم فيه الصور الحسية تمامًا كما تتراكم الجمل اللحنية فى دور غنائي، ويمهد نجيب محفوظ لظهور البطل مثلما يمهد زكريا أحمد لغناء الست.
لم يخف الحكيم يومًا ولعه بالعوالم. علقت في ذاكرته منذ الطفولة فرقة عوالم شعبية صغيرة كانت تحيي الأفراح، وكتب عنها بعد ما يقرب من ثلاثين سنة في روايته الطويلة عودة الروح، وأتبعها بعد ذلك بسنوات بقصة قصيرة عنونها بـ العوالم.
يصف توفيق الحكيم فى قصته مشهدًا طريفًا وحيًّا لفرقة عوالم الأسطى حميدة، على قطار متجه إلى الإسكندرية. يصف “دربكة” الفرقة وعفويتها، كأنها جسد واحد لا أفرادًا متفرقة، وتنتهي القصة بأن تصل إلى الذروة والهدوء في آن، حين تبدأ الأسطى حميدة بالغناء فتسترعي انتباه الركاب، ويقف القطار كله من حلاوة صوتها – بتعبير توفيق الحكيم – على رجل.
اهتم الحكيم دومًا بالحوار كأهم بطل للنص المسرحي؛ ومن السهل أن نسقط ولعه القديم الطفولي بفرقة العوالم على ولعه بالحوار في الكتابة. أهم عنصر لجناس فرقة العوالم هو الحوار المتبادل بين كل من الآلات الموسيقية والأسطى العالمة التي تغني الدور أو الموال، تماما كما يقوم أسلوب الحكيم على حيوية الحوار وبنائه الداخلي.
اعتاد موراكامي الكتابة بينما يستمع إلى الموسيقى. يقول موراكامي في مقابلة مع مجلة ذا نيويوركر: “لقد تعلمت الكثير عن الكتابة من الموسيقى. أعتقد أن هناك ثلاثة عناصر مهمة: الإيقاع والتناغم والارتجال الحر. لقد تعلمت هذه الأشياء من الموسيقى، لا من الأدب، وعندما بدأت في الكتابة حاولت أن أكتب كما لو كنت أعزف.”
اعتاد موراكامي – قبل امتهانه الأدب – أن يدير حانة لموسيقى الجاز فى طوكيو. في الواقع، تتشابه كتابات موراكامى في انسيابيتها مع موسيقى الجاز، حيث تتتالى الجمل كموجات العزف. مع أسلوب موراكامي، كالمقاطع الطويلة في الجاز، لا يغمر المتلقي دفعة واحدة، بل يتسرب إليه. أيضًا، الموسيقى حاضرة دائمًا في خلفية كتاباته، حتى أنها موجودة فى عنوان إحدى قصصه، الغابة النرويجية، المسماة على اسم إحدى أغاني البيتلز.
في أربعينات القرن القرن الماضي نشأت حركة أدبية تسمى جيل بيت Beat Generation، وترجمتها الحرفية جيل مضروب. تحيل التسمية مجازيًا إلى جيل ساخط، معارض للقيم السائدة. الحركة مذهبها الأساسي التجريب، الوصول لما بعد التحرر، والانغماس الكلي في اللذة، لذلك لم يضع “الجيل المضروب” اعتبارًا لشيء إلا اللذة البوهيمية التي جعلوها مركز انطلاق كتاباتهم.
انغمس وليام بوروز مع صديقيه أعضاء الحركة جاك كيرواك وآلن جينسبرج في استهلاك المخدرات كالمورفين والكوكايين، بشكل تجريبي في العموم، والدافع – كأغلب المبدعين الذين استغرقهم الإدمان – هو رغبتهم فى تحفيز الإبداع؛ وانعكس ذلك بالطبع بشكل أو بآخر على كتاباتهم، حيث أنتجوا أدبًا لا يشبه شيئًا قبله.
مثلًا، حاول وليام بوروز فى إنتاجاته الأدبية التمرد على اللغة نفسها، بوصفها نظامًا قمعيًا للأدب، ما ينافي مبادئ حركته الساعية للتحرر الكامل.
لم يعتمد بوروز في إيقاع الكتابة على التناسق والانسياب، بل تمرد على الشكل والمحتوى، وعمل على تفكيك ما اعتُبر خطابًا مستقرًا، وتقويض النمطية من الأساس، فاستخدم في كتاباته نظام التقطيع الأدبي أو القص واللصق، وهي تقنية تقوم بالأساس على تقطيع النصوص وإعادة تركيبها عشوائيًا، فهو لا يقدم لقراءه تناغمًا من أي نوع، بل بالأحرى صدمة إبداعية وتداخل فى المقاطع.
أثر بوروز، بتقنياته الثورية، في الموسيقى وتأثر بها، فقد شابهت تقنية بوروز في التقطيع التجارب الموسيقية التي استخدمت تسجيلات الصوت المشوشة لصنع فجوة مقصودة في النمط الإيقاعي.
بثورته على النمطية، ألهم بوروز لاحقًا بشكل عميق ومباشر موسيقيين بعينهم، وأبرزهم ديفيد بووي الذي استخدم تقنية التقطيع في كتابة كلمات أغنياته فى فترة السبعينات.
كما استلهم كيرت كوبين من فرقة نيرفانا من تجربته المباشرة مع بوروز، حيث كان بينهم مشروع موسيقي لم يكتمل، لكنه قال أنه قد تعلم الكثير من بوروز من خلال كتبه ومقابلاته، وصرح بتأثره بتقنيات بوروز مبينًا أن كلمات أغانيه مكتوبة بأسلوب قص ولصق صريح.
من المهم هنا أن نذكر تجربة موسيقية تأثرت عميقًا بتقنية التقطيع، ففي سنة ١٩٦٨ أصدرت فرقة البيتلز تراك ريفولوشن نامبر ٩، الذي امتدت إثارته للجدل من الستينات حتى اليوم. يتألف التراك بشكل أساسي من ضوضاء غير منتظمة، ودمج بين أصوات متداخلة، وموسيقى غير مكتملة، بالطبع مع العبارة المتكررة “رقم ٩” التي أصبحت أيقونية.
مع كل ما فيه من إزعاج وتشويش وشعور بعدم الراحة، يلتقط التراك بشكل جوهري أسلوب بوروز في فوضويته المقصودة، والتعبير عن القلق، ومخاطبته المباشرة للعقل الباطن.
أعلن البيتلز عن وليام بوروز كواحد من ٥٨ شخصية أثرت في مرجعيتهم الموسيقية، عندما ظهر على غلاف ألبومهم سارجنت بيبرز عام ١٩٦٧.
نشأ جيمس بالدوين في هارلم، في الضاحية الفقيرة من نيويورك التى ضمت مجتمعًا بائسًا من الأمريكيين السود. عمل بالدوين في صغره مبشرًا بالكنيسة، فعايش الغناء كجزء أساسي من الطقوس الدينية. تأثر الصبي الذي كانه في الكنيسة بالموسيقى والآهات والكورال، وحمل كل ذلك لاحقًا إلى نثره، حيث يظهر الإيقاع إحساسًا لغويًا مرهفًا يقوم على الاهتزاز والتكرار، كأنه يقرأ على أنغام ترنيمة وعظية، أو على خشبة مسرح.
قال بالدوين في أحد نصوصه: “الموسيقى هي شاهدنا، وحليفتنا. الإيقاع هو اعتراف، يعترف بالزمن ويغيره ويقهره، وعندها يصبح التاريخ ثوبًا يمكننا ارتداؤه.”
هذا المعنى الذى لا يقدر أن يصوغه إلا شخص منغمس في الموسيقى بكليته، وبه يظهر بالدوين تأثير الموسيقى على أدبه، فهي – مع نثره – تزعزع السردية البيضاء للزمن، وتعطي مساحة للسود لإعادة بناء تجربتهم من منطلق الذاكرة الجمعية والهوية التاريخية السوداء، لا من المنطلق الاستعماري للرجل الأبيض.
استكمالًا لنظرة بالدوين للموسيقى كآلية لغوية للتحرر، كان من الطبيعي نشوء صداقة متينة بينه وبين الناشطة الحقوقية والمغنية نينا سيمون، التي جمعت في صوتها عدة تصنيفات موسيقية قوامها السود، مثل البلوز والجاز والجوسبيل. جسدت نينا بصوتها ما كتب بالدوين، من توصيف الحزن للذاكرة الجماعية السوداء، وسرد الحزن الفردي الممتد، والغضب.
تعتمد جمل بالدوين التي يملؤها الإيقاع على التكرار كأداء الكورس، والتنويعات الصوتية كموسيقى الجوسبيل، والارتجالات كمقطوعة جاز. السرد عند بالدوين فى مجمله شبيه بالعظة، يجعل من الكلمات ترانيم تغنى، ويوقظ، كالموسيقى، الذاكرة الجمعية للروح والجسد.
للكتابة دائمًا ظلٌّ ملازمً: الإيقاع؛ والذي لا يقتصر على الجمل والتراكيب، بل يصل بينه وبين الكتابة بكل الاحتمالات السردية والأسلوبية التي تحملها الموسيقى، حتى لو كانت انحرافات عن العقلانية النمطية، كما سبق ورأينا.
أما بالنسبة لنا، ككتاب عرب، لو تأملنا في الإيقاعات غير المألوفة في السماع العربى، كالموشحات مثلًا، سنجد أنها تضمر احتمالات بإيقاع متحرر من السرديات المألوفة، قد تعيد تخليق النثر إلى مجازات طازجة، وجماليات منعشة.
يغذي التأثر بالموشحات في الكتابة الذهن بالصور الشعرية التي تفيض بها الموشحات، ما يخلق مجالًا واسعًا يرمح فيه الخيال وسط صور وأخيلة قليلًا ما يتم التطرق إليها، وهي أيضًا بلغتها تؤثر على لغة الكاتب، تنقل السرد من الهمس إلى البوح، ومن التقرير إلى التلميح، ومن الممكن أن تؤثر بنية الموشحات نفسها في بنية النص، من المطلع الجمالي، إلى الصور الحسية، واللازمة التى تشبه النبضات فى إيقاع النص، إلى الخاتمة التي تحيلنا إلى نقطة البداية. بالتالي يمكننا القول إن سماع الموشحات أثناء عملية الكتابة هو تمرين متفرد للإبداع والخيال.