.
بحث | نقد | رأي

التصعيد التكراري | إيقاع الرحمن على رؤوس الأشهاد

حسن نصّور ۲۰۱۸/۰۲/۰۲

عمومًا، وبقدر ما تبدو سورةُ الرحمن انسيابيّة، فإنها تبقى سورةً ملغّزة إلى حدود بعيدة. والإلغازُ هنا ليس إلغازًا في المعنى، بل إلغازٌ يتصل بمستويات الإيقاع. مستويات لا تنحصر في التقسيمات الشكلانية المقطعية بين الآيات لناحية توازنها، بل تُجاوز ذلك إلى بث تساؤل عميق حول فاعلية البناء الإيقاعيّ المتكئ على تصعيد المناخ الروحي من خلال آية واحدة مكرّرة: “فبأيّ آلاء ربّكما تكذبان”.

ترِدُ الآية، “فبأي آلاء ربكما تكذبان”، إحدى وثلاثين مرة في سورة فيها أقل من ثمانين آية. تكرار يكاد يلامس نصف سوَر الآية عددًا، على نحو قد يُعد مخاطرة بلاغية، إذ إن محاذير التكرار في نصّ بلاغيّ شعري أو نثري، بالدرجة الأولى تبقى حاضرة لناحية احتمالات الغرق في التنميط الإيقاعيّ أو حرف الإيقاع في مواضع معينة عن مناخ النص الأصيل وحساسيتة العميقة. وإلى ذلك فإنَّا لسنا إزاء تكرار بسيط من بضع مرات أو تكرار متوازن لناحية طول الفاصل / الآية التي تقع بين تكرارين أو لناحية نبرها، بل إزاء تكرار يمسك بالسياق الإيقاعي كلّه ويضبط المناخ المعنوي الذي تسبح فيه الآيات.

لا تُفتتحُ سورة الرحمن بالآية المفتاح، بل إن الآية المكرّرة تردُ بعد إحدى عشرة آية تصفُ خلق الكون والإنسان. كأنّ الآية إشهاد إيقاعي من الإله على حضوره. لكنه، في هذا المجال، ليس الحضورَ المثبَت بالجدل المنطقي على نحو ما يَرد في سور أخرى. إنه، في العمق، إشهاد بالقدرة الفائقة على كسر الأنماط التعبيرية النثرية الشائعة عند العرب بالنمط النثريّ الإيقاعيّ المركّب. والتركيب هنا هو إدماج أو تذويب لأنماط عدة من الاستخدامات النثرية الإيقاعية الشائعة في منتَج لا يضاهى.

تبدأ السورة خافتة على أنها سرد لبداية الخلق. سرد لا يخلو من تسجيع ثنائيّ بالقافيتين: (ان / ام). وهو سرد يتصاعد متدرجًا في مناخ يكثّف الفعل الإلهيّ عبر صيغ الماضي المطلق البسيط، على نحو قصدي، يراد عبره إشعار المتلقّي براهنية أفعال الإله. كأنها أفعال خبرية / إنشائيّة في آن، تحدث لتوها في نسيج الإيقاع (خلق الإنسان / علّمه البيان والأرض وضعها للأنام / فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام). هي صيغ متوازنة تمهّد النص لاستقبال الصيغة الاستفهامية الإنكارية المفتاح: “فبأي آلاء ربّكما تكذبان”.

تُحدِث الآية التكرارية، إذ تدخل في السياق، تصعيدًا إيقاعيًا؛ ونلحظ، على نحو واضح، خروجَ النص نسبيًّا من حساسية الآيات السابقة ودخوله في نبر الآية المخصوصة. كأنها آية يراد لها أن تمتصّ أنفاس الآيات السابقة وأن تنزاح بالنص، في آن، صوب حيّز تصير فيه آية مهيمِنةً، وممسكة بالمعنى والإيقاع. إنها بكلمة آية الخلْق، بمعنى قدرتها على إضفاء هذه الوظيفة المعنوية / النفسيّة (خلقَ المعنى في نفْس المريد) على التقنية التكرارية.

التكرار الحرّ

ليس التصعيدُ الإيقاعيُّ الساحر في سورة الرحمن تصعيدًا ذا نبر أو سلّم جامد أو متوقّع، بل إنه تصعيد تكراري حرّ بمعنى عدم قدرة المتلقي على التنبّؤ، ولو على سبيل التقريب، بقياسات الجمل والفواصل أو بمستويات الإيقاع التي تقيم فيها تلك الآيات. نحن إزاء فواصل قد تكون عبارة عن آية مفردة واحدة، نحو: مُدْهَامّتان أو آية متوسطة الطول من ثلاث كلمات: “فيهما عينان تجريان أو آية طويلة عبارة عن تركيب مكتمل يضمّ صيغة نداء وصيغة شرطية وصيغة إخبارية: ”يا معشر الجن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا، لا تنفذون إلا بسلطان“؛ وإلى ذلك، فإنها صيغ، على تنوعها النفسيّ، تبقى واقعة في سلم التصعيد الإيقاعي للنبْر وتبقى تخدم في العمق الخطاب الروحي / المعنوي للسورة حتى النهاية. نهاية ليست بالضرورة قفلة إيقاعية بل هي وصول الإيقاع إلى ما يشبه اكتفاءً لناحية إقامة الحجّة الجمالية على رؤوس المخاطَبين / الكفار، الذي يجهدون في كَفْر / ستْر إعجاز السورة.

أسلم قيس بن عاصم المنقريّ بعد سماعه الرحمن من النبيّ ثلاثًا، وهو يقول: أعدها عليّ. قرأ النبيّ على أصحابه الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا. فقال: لقد قرأتها على الجنّ ليلة الجنّ، فكانوا أحسن مردودًا منكم. كنت كلّما أتيت على “فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان” قالوا: لا بشيْء من نعمك ربَّنا نكذّب.

لا تخفى على أحد قيمة السماع التلاواتيّ الأوليّ للقرآن في إسلام غير واحد من الأعراب. فالحجة الإيقاعية البلاغية آنئذ لم تكن موضوعًا خارجيًا يقبل الجدل عند المتلقي على نحو جدليات الجنة والنار ذوات الطابع المنطقيّ بين قريش والنبي. إنها إيقاعات توقظ بألفاظها، على نحو بدهيّ، حسّ الفائق اللغوي الصافي في نفس العربيّ، قبل الانتباه والتفكّر بالمعنى وتقليبه. فالمعنى، في مستوى من المستويات، هو نفسُ الإيقاع. بتعبير آخر، لا يتحقّق معنى الرحمن مكتملًا في ذهن المتلقّى دون الشحنة الإيقاعية الخالصة.

بهذا المستوى، يمكن فهم قدرة هذا المتن ومتون غيره من القرآن على إيقاظ تآويلَ خاصة بالسورة، مرارًا وتكرارًا، ومن دون توقف أو اعتبار لمعنى ثابت ينتهي عنده التأويل. بهذا المستوى أيضًا نفهم إصرار فرق كثيرة في المجال الإسلامي الحضاري على استبطان هكذا نصوص والخروج من ظواهرها إلى بواطن تلتهب تحت قشرة اللغة الفائقة. بواطنُ يعمّقها الإيقاع الفائق مرة بعد مرّة، فالدافع الحدسيّ والبدهيّ هو الانشداه بالتلاوات والقراءات الأولية للسورة (وكلّ تلاوة فائقة أوّلية عند المريّد). انشداه لا يجد مريد الرحمن تفسيرًا له غير التسليم والمباشرة باشتهاء المتن والحفر تحت إيقاعاته ومعانيه.

المزيـــد علــى معـــازف