عربي قديم

ابتسام لطفي وتحجيب الأغنية السعوديّة

أحمد الواصل ۰۵/۰۲/۲۰۱٤

حلقتا الأغنية السعوديّة: الحجازيّة والنجديّة

الاحتفاء بالرموز الثقافية هو اعتراف مسبق، وتكريم لاحق لمن يمثّلون ويمثّلن ثقافة مجتمع ما، وقد تكون إطلالة إعلاميّة كفيلة بتذكير لشواهد مرحلة. هذا ما حدث خلال شهر تشرين ثاني/ نوفمبر من العام الماضي ٢٠١٣، حيث سُمِعَتْ ابتسام لطفي في إذاعة صوت الخليج، وشوهد عبد الله الصريخ في روتانا خليجيّة اللذان اشتهرا خلال مرحلة السبعينيّات من القرن الماضي.

تمثّل ابتسام لطفي الحلقة الغنائيّة الحجازيّة التي ترأسها أستاذها ومن منحها اسمها المستعار طلال مدّاح، إضافة إلى لطفي زيني؛ اللذان انضم إليهما لاحقًا كل: فوزي محسون و سراج عمر وعبادي الجوهر. بينما يمثل الصريخ الحلقة الغنائيّة النجديّة التي ترأّسها أبو سعود الحمادي وعبد الله بن سلوم، واشتهر منها فهد بن سعيد وبشير حمد شنان وحمد الطيار. هاتان الحلقتان هما مكونات الغناء السعودي.

ابتسام لطفي تعلن ظهور الأغنية السعودية

دفعت تجربة لطفي الغنائيّة، التي انطلقت عام ١٩٦٩ بأغنية فات الأوان (إنتاج رياض فون)، باتّجاه بزوغ الأغنية السعوديّة في القرن العشرين. إذ بلورت الفنّانة المشهد الناشئ برمّته، والذي بدأ بالتململ لدى تأسيس فرقة الجيش الموسيقيّة، وفرقة الإذاعة بجهد المعلم طارق عبد الحكيم، وتكريس شركات الإنتاج والتسويق التي انطلقت باكرًا، سواء في الأحساء أو في الرياض وجدّة، إضافة إلى مواهب كبيرة في الشعر والتلحين والعزف والإيقاع. أتاحت هذه الأسباب الفرصة لابتسام ومحمد عبده وعبادي الجوهر وغيرهم لبداية غير متعثرة بفقر الثقافة الموسيقيّة وضعف الإمكانيّات الإنتاجيّة والتسويقيّة.

لكن ما ميّز تجربة لطفي أنّها استطاعت توثيق نماذج من تراث الغناء الحجازي التي عمل عليها عمر كدرس وفوزي محسون، فسجّلت من أنماط الدانة والمجرور والمجس والخبيتي نماذج وضعت بصمة صوتها عليها مثل: سافروا ما ودعوا، لا لا يا الخيزرانة، يا سارية خبريني، فارج الهم، قال المولّع ويا طير ماذا الصياح. كما غنّت عملان من فن السامري اللذان وضعهما سلامة العبد الله البارحة ساهر، ويا هلي، وهو الفن الذي برع طلال مداح أستاذها وملهمها في أدائه، سواء في صيغته النجديّة أو الزبيريّة أو الكويتيّة، في نماذج تمثل مراحل مختلفة من مسيرته منذ الستينيّات حتى التسعينيّات من القرن العشرين، وهي أعمال شهيرة مثل يا مسافر على البوينج، علامه ما ينابيني، لا تقول الليالي، يا كريم وخذ راحتك.

اعتنت تجربة لطفي بغناء فن القصيدة، والموشح أيضًا، وهذا مؤشّر لأمرين، أوّلًا: ثقافتها الغنائيّة والموسيقيّة عربيّة الطابع، والتي استفادت من تجربة غناء فن القصيدة في صيغتها المصريّة. إذ تعاونت مع رياض السنباطي في قصيدة وداع (١٩٧٤) من شعر أحمد رامي، وأحمد صدقي في موشّح لوعة من شعر أحمد رامي أيضًا، وعبد العظيم محمد ومحمد الموجي صاحب موشح بعد الحبيب من شعر أحمد رامي، إضافة إلى أغانٍ لشعراء مثل إبراهيم ناجي وفاروق شوشة، وعبد الحميد إبراهيم من المغرب. ثانيًا: وقفت لطفي وراء تطوّر فن القصيدة في الغناء السعودي، والذي لم يخل من تجارب فريدة قدّمها سمير الوادي وعمر كدرس وجميل محمود كملحنين، وطاهر زمخشري وأحمد قنديل وأحمد الرفاعي كشعراء. كما لا نستطيع تناسي بأنّها لحّنت بعض تلك القصائد تحت اسم أبو عماد، مثل قصيدة طاهر زمخشري النجوى الهامسة، بينما كتبت أغنيات باللهجة العامية لحنها سواها مثل أغنية باكر سفرك، باسم عهد.

لم تخل مسيرتها أيضًا من نماذج الأغنيّة الشعبيّة، إذا افترضنا أن الغناء الشعبي تكرّس مع معظم ملحني الحلقة الحجازية مثل عبد الله محمد وفوزي محسون (الذي وضع لها أغانٍ شعبيّة مثل: حاول كده وجرب، من بعد مزح وجد، وأغنية روح احمد الله وبس التي أعاد عبد المجيد عبد الله تسجيلها بصوته في التسعينيّات)، ومع من كان الغناء الشعبي أحد مساراتهم التلحينية مثل عمر كدرس وطلال مداح وسراج عمر.

يمكن النظر إلى ابتسام على أنّها نموذج غير إشكالي لتلك المرحلة، ذلك برغم الإشارة إليها كفتاة سعوديّة تمثل فئة اجتماعيّة تحدّتها بفضل والدتها، إضافة إلى أنّها كفيفة. لا يبرر ذلك حالة التعاطف التي قد تتطلّبها هذه المواصفات، إذ يطغى صوتها الجميل الذي يشبه صوت سعاد محمّد على الانطباعات المسبقة التي قد تقولبها، وقدرتها على بثّ الزخارف الصوتية المتبناة من آلتي القانون والعود. مع تمثيل الظرافة الحجازيّة في استثمار اللهجة الصوتيّة في أداء التعابير الشعريّة والصوتيّة، وهو ما جعلها تقترب بشكل عفوي من النمط الشعبي الذي برز مع ليلى نظمي ونجاة الصغيرة اللتان كانت تغني لهما في جلساتها الخاصة.

تمكنت لفطي كذلك من تطويع صوتها لألحان ذات مسافات نغميّة أطول تمنح صوتها طابع الخطابيّة، وهي إحدى مساوئ علمنة الغناء الديني لتكييفها مع متطلبات الموضوع والموقف والإيقاع. ففي فن القصيدة، حيث يبدو أنها تبذل جهدًا مضاعفًا لاختلاف الطابع بين اعتبار أم كلثوم النموذج الصوتي الأوحد لأعمال السنباطي، بينما يمكن الأخذ بالاعتبار نموذج نور الهدى ووردة، عدا عن أن السنباطي لا يختصر تيار تلحين القصيدة. إذ نجد في الجانب الآخر الملحّن الفلسطيني خالد أبو النصر وأعماله المسجلة مع زكيّة حمدان. غير أن القصائد والموشحات التي وضعها لها كل من عبد العظيم محمد وعبد الحميد إبراهيم منحت صوتها شخصيّته ولم تسحبه نحو مسار غير مسارها. لعل الأنموذج الأبرز قصيدة جميلة، أتحبني؟ من شعر طاهر زمخشري وألحان عبد العظيم محمد.

تحجيب الصوت النسائيّ

يعبّر توقّف لطفي عام ١٩٨٨ عن الغناء عن أكثر من حدث يخص ويرتبط بالحالة الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. فقد فرضت ظروف سياسية إقليميّة، مثل هبوط أسعار النفط وصعود الجماعات الإسلاميّة، أثرها المحلي والدولي على المشهد الثقافي. توفيت والدة ابتسام، ثم أحد داعميها الفنّان فوزي محسون، في نفس الوقت الذي انهارت فيه منظومة الغناء الشعبي، واحتدم الصراع الثقافي بين ممثلي حقول أكاديميّة وإبداعيّة وجماعات تجر إثم الهزيمة العربيّة والإسلاميّة، وتدعي المطالبة بحقوق الأمة بوكالة مزوّرة لا تخلو من ارتقاب الغنائم الشخصيّة.

لذلك، يمثّل توقّف (احتجاب أو اعتزال) لطفي اكتمال عمر مرحلة ثقافيّة. كما حدث مع تجربة غيداء المنفى (هيا العريني) الشعريّة التي تخفّت وراء اسم مستعار في أواخر التسعينيّات. غير أن تجربة لطفي تجايل في ذات المرحلة تجربة خاطفة للكويتية عالية حسين التي ظهرت منذ مقاعد الدراسة في المعهد العالي للموسيقى (١٩٧٢) في أول فوج، وحتى توقفها العام ١٩٨٠ واستمرارها كأستاذة في المعهد حتى تقاعدها. إضافة إلى تجربة عائشة المرطة التي اعتزلت وعادت عن اعتزالها حتى اختفت. مع الأخذ بالاعتبار تجربة مجهولة للمغنية المصريّة حوريّة سامي التي أنجزت أعمالها كلها باللهجة الكويتية بين الستينيّات والسبعينيّات.

لم تكن تجربة لطفي الوحيدة في السعوديّة، إذ ظهرت بعدها بقليل من اكتشاف محمد شفيق المغنية ذات الصوت المخملي سارة قزاز التي توقفت باكرًا، والتي تشكّل تجربتها بين عامَي ١٩٧٧-١٩٨٥ تمثيلًا للحداثة الغنائية التي تزعّمها طلال مداح ونقلها إلى مرحلة أخرى كل من: عبد المجيد عبد الله وطلال سلامة[Mtooltip description=” الخروج من المعبد، أحمد الواصل، ٢٠١٣، ص: ٢٤٢” /]. حدث الأمر ذاته مع أصوات في التسعينيّات وما بعد الألفيّة الثالثة مثل: حنان والجوهرة. يشابه ذلك ما حدث في الكويت حين ظهرت فنّانات الثمانينيّات: العنود والهنوف وأشواق وفتاة سلطان ثم توقفن لاحقًا. في الإمارات، رغم ظهور أصوات كثيرة بعد صوت العمانيّة موزة سعيد التي توزعت إقامتها بين الإمارات والبحرين، مثل سمر ورويدا المحروقي وريم المحمودي وفاطمة القرياني وأحلام، غير أنه لم تستمر إلا الأخيرة.

هنا لا يغفل الدور الذي لا يمكن إنكاره في ما قدمته بعض الحناجر النسائيّة العربيّة لغناء الجزيرة العربيّة، فإذا عرفنا أن أولاهن هي سليمة مراد التي سجلت من فن الصوت يعاهدني لا خانني العام ١٩٢٧، تبرز تجربة حوريّة سامي منذ ستينيّات القرن العشرين بالغناء في الكويت طيلة مسيرتها المهنية مع أغنيات مهمة أعادت تسجيلها كل من سميرة توفيق ونجاح سلام في أواخر الخمسينيّات، ومن بعدهما علية ووردة أواخر الستينيّات ومنتصف السبعينيّات، ثم عزيزة جلال وسميرة سعيد ورجاء بلمليح في الثمانينيات، ومن بعدهن أنغام وذكرى وأصالة في منتصف التسعينيّات حتى الآن.

لنا في نموذج من يتوقف من الحناجر لأسباب قاهرة ثم يعود بنجاح ساحق مثلما حدث في منتصف القرن العشرين الثاني، حين توقفت السيدة وردة لتسعة أعوام (١٩٦٣-١٩٧٢)، وشادي الخليج (١٩٦٥-١٩٧٦)، وطلال سلامة (١٩٨٥-١٩٩٣)، غير أنه احتُسبت لكل واحد منهم فترة الغياب، وحين عاد كل واحد منهم توفرت شروط تاريخية وجغرافية، بالإضافة إلى إمكانيّات وقدرات تسخّرت في بناء ومسيرة تجربة كل واحد منهم.

غير أن مسيرة لطفي ما بين ١٩٦٩ – ١٩٨٨ تمثل تجربة ثريّة في القيمة والكم من أعمال سواء سجلت في الإذاعة السعودية والمصرية والكويتية أو في أسطوانات أو في أشرطة كاسيت. إضافة إلى حفلاتها المصورة في الكويت، ووصولها السريع إلى ملحنين كبار مثل مطلق الذيابي وعمر كدرس، ومن جيلها سراج عمر. كما أتيح لها في الإذاعة المصرية الغناء لملحنين مصريين كبار مثل رياض السنباطي وأحمد صدقي وعبد العظيم محمد ومن المغرب عبد الحميد إبراهيم ومن الكويت عبد الرحمن البعيجان.

بل ربما كانت لطفي المسؤولة عن الوصول بتجارب أصوات نساء الجزيرة العربية إلى ذروة النضج، عبر الدفع قدمًا بهن من مرحلة الفرق الشعبية ونمط الغناء الجماعي في أغنيات تراثيّة وشعبيّة، نحو الغناء النسائي الفردي بأنماط وقوالب بعضها صعب مثل القصيدة والموشح والأغنية التعبيريّة، بل وحتى التمكن من تنويع الغناء لأكثر من ملحن يمثل معظمهم مدارس لحنيّة مختلفة.

إن توقفت لطفي عام ١٩٨٨ فقد سلمت الراية لأكثر من صوت، أبرزهم رباب التي تمثل تجربة متميزة في بحر غناء المرأة في الجزيرة العربية.

يُحتفى اليوم بابتسام لطفي على نطاق واسع، وهو حق لها وواجب علينا، لكن لا يجب الدفع بها إلى دور ليس لها، كأن تزج بأعمال جديدة خارج دائرتها الزمنية والذوقية مثلًا. الأوجب أن تدرس وزارة الثقافة والإعلام أو جمعية الثقافة والفنون مشروع إصدار أعمالها في أقراص مدمجة، ونصوص أغانيها في كتاب، خطوةً على طريق تكوين أرشيف ثري للغناء السعودي.

المزيـــد علــى معـــازف