.
في معظم المقالات والدراسات، غالبًا ما يُستخدم مصطلح الأغنية الشعبية السورية للإشارة إلى الأغاني التراثية الفلكلورية من مختلف المناطق السورية، في ميلٍ لإهمال الأغنية الشعبية الدارجة، أو الإشارة إليها بدونيّة وكأنها مادة لا تستحق البحث. في أحسن الأحوال، يقع الكتّاب في فخ الخلط بالمفاهيم، فيستخدمون مصطلح الأغنية الشعبية السورية للدلالة على نوعين متباينين من الأغاني: التراثية، والشعبية الدارجة التي يتداولها السوريون.
لذا دعونا نتفق من البداية على أنّ مصطلح الأغنية الشعبية يجب أن يُطلق على الأغاني التي يستمع إليها الناس، على الراديو وفي الأعراس والحفلات والمواصلات العامة، والتي يرددونها في الرحلات والجمعات. أما الأغاني التي انتقلت إلينا بالتواتر الشفوي من عصور ما قبل الجرامافون، والتي تتسم ببساطة اللحن وجماعية التأليف، فمن الأفضل أن نستخدم لوصفها مصطلح الأغاني التراثية، دون إغفال أن بعض النسخ من أغاني الفولك من الممكن أن تصبح أغانيًا شعبية دارجة، وذلك عندما يعاد توزيعها فتنتشر على نطاق واسع من جديد. مثال على ذلك تجربة لينا شماميان في نهاية العقد الأول من الألفية، إذ أعادت توزيع بعض الأغاني الفلكلورية من الساحل السوري، مثل يا محلا الفسحة وهالأسمر اللون، بأسلوب الجاز الشرقي.
لا يأتي هذا الخلط بين المفاهيم من فراغ، إذ يعود على الأغلب إلى ضعف الإنتاج الفني السوري المحلي، وندرة الأغاني الشعبية الدارجة المنتجة باللهجات السورية، وتخصيص الإذاعات السورية بعض ساعات البث الأسبوعي للأغاني الفلكلورية، ضمن فقرات تحت مسمّى الأغنية الشعبية السورية.
بسبب هذا النقص في الإنتاج الجديد للأغنية السورية، أصبح السوريون يرددون في حفلاتهم ورحلاتهم أغانٍ بلهجات عربية مختلفة، كالمصرية واللبنانية والعراقية. بل إن معظم المغنين السوريين الذين تمكنوا من اكتساب شعبية كبيرة القرن الماضي، تمكنوا من ذلك عبر بوابة لبنان أو مصر؛ ففريد الأطرش وأسمهان بدؤوا رحلتهم في القاهرة وغنوا باللهجة المصرية، فيما كانت بداية جورج وسوف الحقيقية في لبنان. حتى أصالة وميادة الحناوي وفهد بلان لم يعلُ شأنهم إلا بعد خروجهم من سوريا، ومعظم أغانيهم التي رددها الشارع السوري لم تكن بلهجته.
لم يشذّ عن هذه القاعدة سوى مطربي القدود الحلبية، الذين حققوا الشعبية دون أن يخوضوا تجربة الاغتراب في البلاد العربية التي تزدهر فيها صناعة الموسيقى؛ إذ أنجبت حلب عددًا كبيرًا من المغنين الشعبيين انطلقوا من خلفيتهم في القدود، أمثال صباح فخري وشادي جميل ونور مهنا. في بقية المدن والقرى السورية، كان يظهر بين الحين والآخر مطربون ذوي شعبية، لكنها شعبية تنحصر ضمن نطاق القرية أو المدينة، مثل خولة الحسن في الرقة ومحروس الشغري في دوما وعمر سرميني في حلب.
لذلك من غير الممكن الحديث عن الأغنية الشعبية السورية دون فهم خصوصية تركيبة البلد وانقسامه الثقافي المناطقي، ودون فهم التجاذبات والتقاربات مع دول الجوار. قبل أن تسمح الحكومة السورية بانتشار صحون الدش اللاقطة سنة ١٩٩٥، لم يكن هنالك ما يربط بين السوريين ثقافيًا سوى المحطتين المحليتين للتلفزيون السوري، واللتان وظفتا معظم ساعات البث لبرامج سياسية مرتبطة بتكريس مفاهيم حزب البعث، تتخللهم بعض الهوامش الفنية والرياضية.
لم تخصص هذه القنوات سوى ساعة واحدة للأغاني أسبوعيًا، في برنامج ما يطلبه الجمهور، إضافةً إلى بعض الأغاني التي تمر كفواصل يومية، والتي قد تمر بينها بعض القدود الحلبية وأغانٍ لميادة الحناوي وعصمت رشيد وموفق بهجت، لكن معظمها كانت أغانيًا وطنية، تتغنى بالقائد والحزب. أما برنامج ما يطلبه الجمهور، فكانت معظم الأغاني التي يبثها مصرية، لعمرو دياب ولطيفة ومحمد منير ووردة وآخرين، ما كرّس المركزية الفنية المصرية داخل سوريا. كما تخللت البرنامج أحيانًا بعض الأغاني اللبنانية والعراقية والخليجية، لكاظم الساهر ووليد توفيق وراغب علامة وآخرين. أخيرًا، يجب ألا نغفل أغاني المسلسلات والأفلام، والتي كانت من أكثر الأغاني الشعبية انتشارًا في سوريا، فبهذه الطريقة أصبحت فطومة لدريد لحام من أكثر أغاني الثمانينات انتشارًا وشعبيةً.
على الجهة المقابلة من البث التلفازي، لم تكن الإذاعات واحدةً في مختلف المحافظات في سوريا. في الجنوب، استقبل السوريون بث إذاعة دمشق، وفي الشمال استقبلوا إذاعة حلب. بينهما اختلاف كبير في المحتوى، لا يجمعهما سوى البرامج السياسية، وفقرة أغاني فيروز الصباحية وأغاني أم كلثوم ليلًا. على كلٍّ، لجأ السوريون في مختلف المناطق إلى بث إذاعات دول الجوار، فكانت إذاعة سترايك اللبنانية الأكثر شعبيةً في دمشق والمناطق الجنوبية والساحلية، بينما كانت إذاعة بغداد الأكثر شعبية في المناطق الشرقية والشمالية.
ساهمت الإذاعات المختلفة التي يستقبلها السوريون من دول الجوار في انقسام الذائقة الشعبية، فمال أبناء دمشق والمناطق الجنوبية إلى الأغاني اللبنانية، بينما مال أبناء حلب والمنطقة الشرقية إلى الأغاني العراقية. لذلك خصصت إذاعة دمشق بعض ساعات البث فيها للأغاني اللبنانية، فأحب الناس في تلك الحقبة أغاني عازار حبيب وملحم بركات ونجوى كرم، بينما خصصت إذاعة حلب بعض الساعات للأغاني العراقية، فكان سعدون الجابر وناظم الغزالي الأكثر شعبية في تلك المناطق.
كان لمحافظة حلب تحديدًا خصوصية في علاقتها مع موسيقى دول الجوار، إذ اشترى أبناء المدينة، الذين كانوا يسافرون بشكلٍ مستمر إلى دمشق وبيروت، لاقط إشارة ضخم يتمكن من التقاط تردد راديو سترايك، فعرفوا من خلاله الأغاني الشعبية اللبنانية وتبنوها، وكانوا يعتبرونها أكثر مدنية من الأغاني العراقية التي يفضلها أبناء ريف حلب.
مع الألفية الثالثة، طالت سوريا موجة العولمة، ودخلت أجهزة الديجيتال بيوت السوريين ومن بعدها الإنترنت، وحدثت العديد من التغيّرات السياسية والثقافية التي أثّرت على الأغنية الشعبية السورية؛ أبرزها حرب العراق ونزوح مئات آلاف العراقيين إلى مختلف المناطق السورية. كذلك سُمح بإنشاء محطات راديو خاصة، فظهرت عدّة محطّات مثل صوت الشباب وصوت الغد وراديو المدينة في دمشق، وراديو شهباء إف إم في حلب.
أدّت هذه التغيّرات إلى ولادة عدّة موجات من الأصوات المحليّة الجديدة، التي ساهمت في تطوير الأغنية الشعبية السورية. إذ حافظت الإذاعات الخاصة على تقاليد الإذاعات الحكومية، فخصصت ساعات بثها الأولى لأغاني فيروز، تتلوها في دمشق فقرة لأغاني الثمانينات اللبنانية. تسبب قالب البث هذا مع الوقت بظهور موجة من المغنيات السوريّات، اللواتي سعين إلى تقديم أغانٍ تبدو امتدادًا لفيروز، مثل لينا شماميان وفايا يونان.
بسبب توافد العراقيين إلى سوريا، باتت الأغاني الشعبية العراقية الأكثر انتشارًا في الملاهي الليلية في دمشق وريفها، ونجم عن ذلك انتشار أغانٍ عراقية شعبية في شوارع المدن السورية، مثل البرتقالة وقلب قلب وغيرها، ومن هذا الباب ظهرت أصوات جديدة، أبرزها سارية السواس، التي قدمت أغانٍ سورية تبدو كامتداد لهذه الموجة.
أمّا مع انتشار المحطّات الفضائية، ومشاركة العديد من السوريين في برامج المواهب العربية، دخلت موجة جديدة على الأغنية الشعبية في سوريا، قوامها فنانون عرفهم الجمهور بعد ظهورهم في تلك البرامج، مثل رويدة عطية وشادي أسود وناصيف زيتون وغيرهم. أنتج هؤلاء أغانٍ حصدت شعبية كبيرة في سوريا، القاسم المشترك بينها أنها تبدو امتدادًا للأغاني الشعبية اللبنانية التي رددها السوريون في دمشق ومحيطها نهاية القرن الماضي.
قد تكون موجة الأغاني الساحلية الشعبية الأهم والأكثر تأثيرًا، إذ اجتاحت كل المدن السورية. بدأت هذه الموجة مع أغنية الحاصودي لعلي الديك، التي حظيت بدعم الإذاعات السورية، الحكومية والخاصة، ومن المفارقة أن هذه الإذاعات صنّفت الأغنية حينها ضمن خانة الأغاني الفلكلورية. ربما يعود ذلك إلى كون أولى أغاني هذه الموجة قد تناولت الطقوس الريفية موضوعًا لها، مثل الحاصودي وطل الصبح ولك علوش وخمس صبايا حد العين، لكن سرعان ما طرأت عليها بعض التغييرات، ودخلت عليها الكلمات العاطفيّة.
لا تزال الانعكاسات الثقافية والسياسية لكل هذه التغيّرات تتردد حتى اليوم، إذ تحفل صفحات السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي بسجالات حول الانقسام الثقافي في البلاد، ما دفع البعض إلى نشر أفكار داعية لتقسيم سوريا، فظهرت الشهر الماضي دعوات إلى ضم دمشق ومحيطها والساحل إلى لبنان، والاستغناء عن المنطقة الشرقية، فيما ظهرت على مدى الأعوام دعوات مشابهة في الشمال السوري لضم أجزاء من البلاد إلى تركيا. هذا إلى جانب نزعة بعض أبناء المدن الكبرى للحط من شأن الثقافة الريفية السورية، والتعاطي معها بدونية، وهي نزعة ليست بالجديدة، شهدنا إحدى تجلياتها قبل أعوام حين عبّر الكثير من السوريين عن رفضهم لاختيار عمر سليمان كممثل لسوريا في حفل النوبل.
هكذا يصبح السجال حول الأغنية الشعبية السوريّة، وطبيعتها وماهيّتها وحدودها، مرآةً لسجالات وقضايا إشكالية أكبر على مستوى البلاد، كتفتت الهويّة الوطنيّة / المدنيّة السوريّة إلى مجموعة انتماءات مناطقية ومدينيّة ضيّقة. كما يبدو أن تتبع أسباب تفتت هوية الأغنية الشعبية السوريّة، يتقاطع في الكثير من الأماكن مع تتبع أسباب تفتت الهويّة الوطنيّة للبلاد، ما بين ضعف الإنتاج الثقافي في البلاد، والتحوّل المفاجئ من انغلاق ثقافي ضيّق إلى انفتاح تام على العولمة، في غياب وسادة الثقافة المحليّة التي عادةً ما تخفّف من وطأة تحوّل مماثل.