أوتوتيون الزمن الجميل

في حفل لـ تامر حسني في استاد القاهرة، التُقط فيديو انتشر بعناوين مثل: “فضيحة تامر حسني”. يُغني تامر في الفيديو يا مالي عيني وتحصل مشكلة يصعب الجزم بطبيعتها في هندسة الصوت، ما منح فرصة لكارهيه للمسارعة إلى تأويل ما حصل بأنه انقطاع مفاجئ للأوتوتيون، واعتبار ذلك دليلًا على أن تامر لا يملك صوتًا يؤهله للمكانة التي يحتلها. هذا النوع من النقد ما زال حساسًا لكل مغنٍّ عربي، حتى إن كان مثل تامر، غير مهتمٍّ بالأساس بتقديم نفسه على أنه امتدادٌ لزمن الطرب.

لا نجد في برامج استضافة نجوم البوب الغربي اختبارًا في إتقان الضيف لفن القدامى، لا يطلب المذيع منه مثلًا أداء أغنية لـ فرانك سيناترا أو بينج كروزبي. لكن لا بد من أن يؤدي كل مغني بوب عربي بارز تقريبًا أغنية لـ أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، نجاة الصغيرة، فايزة أحمد، عبد الحليم حافظ، أو وردة بين آخرين، حتى يثبت جدارته كمغني. كان هذا الأمر ورطة حقيقية بالنسبة لنجوم الثمانينات والتسعينات، أنجى معظمهم منها كون القنوات المحلية والفضائيّة العربية قليلة وبدائيّة في ذلك الوقت. مع دخول الألفية الجديدة زادت القنوات والمتابعة، لكن الاختبار نفسه لم يعد بتلك الخطورة، فهناك دومًا طرب الأوتوتيون.

كون الأوتوتيون يُصلح الخروج عن النوطة، يزعم معارضو الأوتوتيون أن استخدامه للأداء الطربي يتنافى مع كون الاختبار اختبارًا، كأني أعطيك ورقة أسئلة ونموذج الأجوبة لأختبرك في إمكانية نقل الأجوبة. لكن هذا طبعًا ليس صحيحًا، فالأوتوتيون لا يُصلح ما انكسر. بقدر ما يبتعد الأداء عن العلامات الصحيحة بقدر ما يظهر استخدام الأوتوتيون. هل يشفع ذلك لمستخدميه؟

في معظم الأحيان، لا. كما في حالة ردات الفعل على فيديو حفلة تامر حسني. مواقف كهذه تبرر تقدم الكثير من المغنّين إلى اختبار الطرب حتى إن لم يُطلب منهم، لتجنب تحيُّن الناس “فضيحةً” ما لهم. لا أحد ينتظر فرصة إيجاد خطأ في أداءات فنانين مثل مدحت صالح وعلي الحجار، رغم كثرتها في الوقت الحالي، لأنهم أثبتوا قدراتهم الصوتية منذ البداية، وهذا ما يسعى إليه الجميع، الخروج من دائرة الشبهات.

إليسا مثلًا، غنت في بداياتها طب وانا مالي لـ وردة وكانت هذه تقريبًا نهاية علاقتها بالقديم على مدى قرابة عقد ونصف. ثم عادت فجأة لتقديم أغاني أخرى لوردة وعبد الحليم حافظ، ربما لمواجهة انتقادات نشازها في الغناء الحي، وإن كان الأوتوتيون أهم سلاح لتلك المواجهة. بالفعل أصبح عشاق إليسا يستعملون طربياتها دليلًا على أنها مطربة وليست مجرد مؤدية. أما نانسي عجرم، الفائزة بالميدالية الذهبية في مسابقة الطرب في برنامج نجوم المستقبل وهي في الحادية عشرة من عمرها، لم تعان من انتقادات التنشيز، ونسبيًّا، يُشيد الموسيقيون ببراعتها أكثر مما يفعل غالبية الجمهور، الذين يرون أن استعراض المغنية لجمالها وإثارتها كافٍ لاعتبار صوتها دون المستوى المطلوب مهما كان أداؤها متقنًا. تنتقي نانسي طربياتٍ لا يقوى الأوتوتيون على إعانة مؤديها إلا في تفاصيل بسيطة جدًّا، خاصةً أنها تقدمها بأداءٍ حي، حيث يصعب أن يعمل الأوتوتيون بشكل لحظي بالكفاءة التي يعمل بها إن كان الوقت متوفرًا لاستخدامه في الاستوديو. أغان مثل دارت الأيام ومستنياك ويا مسافر وحدك قدمتها نانسي بأداءاتٍ جيّدة ومتمكّنة حتى مع الجوابات والعُرَب الصعبة لأنها تحبها، لا لإثبات براعتها الأدائية. لا حاجة للذهاب بعيدًا لهذا الحد إن كان إثبات البراعة وتفادي الانتقاد هما غايتاها الوحيدتان. في النهاية، وفي حالتَي إليسا ونانسي، وصلت طربياتٌ جميلة إلى جمهورٍ أوسع، فمثلًا، مستمعو مستنياك بصوت نانسي عجرم على يوتيوب يزيدون على مستمعيها بصوت المطربة الأصل عزيزة جلال بأكثر من ٤٢ مرة. لا أعتقد أن الأوتوتيون يُلام على ذلك.

حتى شيرين – المطربة المشهود لها – لا تعتبر الأوتوتيون خطيئة وإن لم تكن حاجتها إليه ملحة، ونجده يبرز بشكل غير محبب لدى غنائها عودت عيني لـ رياض السنباطي وأم كلثوم. ربما تتفق شيرين مع ماركو ألبرت، نائب رئيس شركة أنتارِس المطورة للأوتوتيون القائل إن “الأوتوتيون قد ينقذ أداء العمر.”

دلائل صحة ما قاله ألبرت كثيرة. لنأخذ مثلًا عبالي حبيبي لـ إليسا ونسمع تسجيل الاستوديو، ثم نسمعها في أي حفلة. رغم بساطة لحن الأغنية إلا أن فيه علامات حساسة لا تتقن إليسا الوصول إليها جميعها، بل وتبتعد عنها بشكل يجعل أوتوتيون الحفلات يعجز عن التقريب بين ما تغنيه وبين الأصل. لكن في النهاية تبقى هذه الأغنية من أجمل وأشهر ما قدمته إليسا. كذلك وافترقنا لـ فضل شاكر. لو سمعنا بدايةً من “وكان الليل حضنه سارقنا” في تسجيل الاستوديو وفي حفلة سنجد أن الأوتوتيون أنقذ أغنية من علامات مسيرة فضل شاكر. حتى أصوات تعتبر قوية وقادرة كأصوات أحلام وآدم تفاجئنا أداءاتهم الحية وتجعلنا نكتشف كم كنا سنخسر لو كان الاعتماد الرئيسي عليها فقط. خلص الدمع لـ آدم بين الاستوديو والأداء الحي تتعرض لجرائم أدائية لا يُمكن تجاوزها. قد لا يكون الأمر بالسوء ذاته مع أحلام، لكن ناويلك بين الاستوديو والحفلة تقول الكثير عما وراء الكواليس. هل كان ملحنو تلك الأغاني سيكسبون الحريات ذاتها مع أصوات مغنيها دون الأوتوتيون؟

في مقابلة يُرجّح أنها مُتخيّلة على عكس طبيعة السنباطي التي نجدها في مقابلاته الإذاعية والتلفزيونية، ينال السنباطي في هذه المقابلة المكتوبة من أغلب الملحنين والمغنين البارزين، ويذكر أن لحن دارت الأيام أكثر لحن استغرق منه وقتًا، رغم أن اللحن لـ عبد الوهاب. انتشرت في المنتديات ووسائل التواصل الاجتماعي، سُئل السنباطي عن صوت فايزة أحمد فأجاب: “صوتها جميل وإحساسها أدق من صوتها. عكس وردة تمامًا اللي صوتها أقوى من إحساسها. وردة تقول لك أشياء جادة ولكن تمنعك انك تعيشها.” قد نصدق أن هذه الإجابة وردت بالفعل على لسان السنباطي، أكثر من لغط آخر كثير نُسب إليه. لنفرض أن السنباطي عاش حتى زمننا، ووجد فايزة أحمد تؤدي لحنه الكبير لـ وردة لا تقل لي ضاع حبي باقتدارٍ لم يتوقعه منها، هل سيُسعَد باجتماع قوة الصوت والإحساس أم سينتظر ريثما يتأكد إن كان الأوتوتيون هو المسؤول عن هذا الاجتماع فيُدين فايزة وأداءها؟ هذه الاحتمالات الجديدة هي ما تمنحنا أغاني من أكبر محطات مطربيها دون أن يكون هؤلاء المطربون قادرين بالفعل على أدائها، لكنهم قادرون على الإحساس بها ومنحها خامات أصواتهم المحببة، ثم بفضل الأوتوتيون، إضافة الأداء الأنسب.

إن أخذنا وردة وميادة الحناوي أمثلةً على أساطير صنعوا أمجادهم قبل اختراع الأوتوتيون، وسمعنا آخر أداءاتهم الحية، سنكتشف عظمة الجميل الذي قدمه مبتكرو الأوتوتيون بأن منحوا قاماتٍ فنية كبيرة الفرصة ليستطيعوا الاستمرار بمقابلة جماهيرهم حتى بعد تراجع قدراتهم الصوتية والأدائية مع التقدم بالسن. بفضل الأوتوتيون استطاعت وردة أن تودع جمهورها بغناء “إيام ومنعدا / ولو فينا نردا / كنا رجّعنا أوقات / صارت هلأ ذكريات / لكن يا خسارة الحياة / بتمرق ما فينا نردا”، ليثير سماع الأغنية الحسرة على رحيلها لا الشفقة على ما وصل إليه حال صوتها. الشفقة التي واجهتها ليلى مراد مثلًا لدى عودتها القصيرة بعد الاعتزال.

“صوت عبد الحليم حافظ صوت ميكروفوني محدود المساحات، صغير وفقير، ولكنه مع هذا يمتاز بالعاطفة (…) الميكروفون خدم صوت عبد الحليم خدمات جلّى، فزاد في جمال ما يضمه من صفات مقبولة، حتى جعلها آسرة، وأخفى العيوب التي تشوبه حتى باتت لا تبين إلا نادرًا.” كتب صميم الشريف في صوت عبد الحليم حافظ لدى حديثه عمن أسماهم أصحاب الأصوات الميكروفونية. بينما قال عن الميكروفون نفسه: “والميكروفون هذا الدكتاتور المخيف (…) الأصوات الهزيلة غدت بفضله سيدة الغناء، والأصوات القوية تراجعت أيضًا بفضله أو احتلت زاوية قصيّة.” رغم تعصُّب الشريف الواضح تجاه الميكروفون، رحب بدوره في أثر صوت عبد الحليم الذي وجده بفضل الميكروفون آسرًا.

تلوم منيرة المهدية ظهور الميكروفون على انتهاء مسيرتها لسببين، أولهما عدم إتقانها التعامل معه، والثاني إفساحه المجال للأصوات الضعيفة، وكثيرون من كان موقفهم من الميكروفون كموقفها معتبرينه الفاصل بين زمنٍ جميل وزمنٍ هابط. الآن يُعتبر عبد الحليم حافظ من أساطير الطرب، رغم أنه ممن استطاعوا دخول الساحة الفنية بفضل الميكروفون. يُعامل الأوتوتيون اليوم كما عُومل الميكروفون في بداية ظهوره، وغدًا ستصبح إليسا عنوانًا لزمنٍ جميل.