الإخفاء

كتابةهيا المويل - October 10, 2017

الإخفاء ألبوم لحني وآلاتي أكثر منه غنائي، تتزاحم فيه الآلات أحيانًا، وتتردد فيما بينها، توهم المستمع بإعطائه شيئًا سرعان ما تسحبه. هو في الوقت نفسه عمل لم يبخل فيه الموسيقيون بطرح نتائج ما أدهشهم أمامنا كدهشة تامر حين علم أن موريس يعزف على الجيتار مثلًا – فنتج العمل مثلما الدهشة، غير مريح في بعض الأحيان، وقادر على تملك حواسك في معظمه.

كلمات الأغاني جميعها من أعمال ميدو زهير، تلفها الكآبة والسخرية اللاذعة بقالب واحد. إلا أن هذا الاتساق لا ينطبق على الموسيقى، إذ طغى عليها طابعان، الأول صاخب يقترب أكثر لموسيقى موريس بما يميزها من تطريب شعبي، كأغنية مزيكا وخوف التي تدعمها الدربوكة وصوت تامر ومريم وآلات نقرية أخرى، ساندة التنويعات الإلكترونية التي يقوم بها موريس، ومقتربةً أكثر من فكرته عن استخدامه للإلكترونيات  يقول موريس في مقابلته مع رامي أبادير إنها حاجةٌ أكثر من كونها قرار، وإنه :'من الأول لو معايا آلات كنت هقلل صوت الإلكترونيك في شغلي.'.

الطابع الثاني هو النشوة الهلوسية التي نجدها في أعمال تامر. أغنية الشهوة والسعار مثلاً، يترأسها جيتار موريس، ثم يساعده صوت تامر المعدل إلكترونيًا، وعوده الذي يدهشنا تامر دوماً في قدرته على إنطاقه هذه اللغة الهلوسية، رغم الصورة الرصينة التي التصقت بالعود. في الأداء الحي لمتحف فنون الغش، لم يبدُ العود دخيلًا على السريالية التي شكلتها تفاصيل كالضوء الخافت، الدخان، شَعر مريم، السِّنث، الجيتار الخفيف، صوت تامر ومريم معًا، دق الطبول المرعب، والوتيرة التي تتصاعد مع الوقت، بل بدا متأصلًا فيها معززًا إياها. فقط اسمعه كيف يأتي من العدم في الدقيقة ١:٢٨ من الأغنية المسجلة، ثم يختفي ليظهر ثانيةً ويستمر في ذلك.

الألبوم بطابعيه لا يخلو من الغرابة، إلا أنها ليست غرابة قادمة من خارجك، بل غرابة تشبه نفسك التي لا تفهمها في كثير من الأحيان. هي غرابة تألفها. صوت مريم مثلاً، الذي يشكل حالة جذابة بما فيه من عيوب وميزات، تشعر حين تسمعه كأنه يخرج منك لا من أحد آخر، يتماهى بسلاسة مع الموسيقى، خصوصاً في كنت رايح، وعايز أوصل. إذا قارناه بصوتها في ألبوميها السابقين مش بغني وحلاويلا، فهو كأنه كان يبحث عن شيء ما، ووجده.

يقودك العمل بشكل هادئ أحيانًا، ضبابي أحيانًا، مضطرب ذو إيقاع مكسور أحيانًا أخرى، لكنه دائمًا بلا نهاية محددة، يرمي لك خيطًا بآخر كل أغنية على شكل آلة لم تنهِ مهمتها، كما في مكونش وكون التي نسمع في آخرها صوت قطرات ماء وطبل يحتضر، أو على شكل صدى صوت كما في تسكر تبكي حيث تتمرجح الموسيقى في نهايتها وتختفي تاركة صوت مريم وحيدًا في غرفة فارغة “لأجل العشق ف بختك ميّل.” أو على شكل كلمات لا تقدم حلولًا، فقط تصف أحوالًا، ترسم دوامات، وتطرح ترددات كما في نفسي فـ عقلي “أنا شايف أنا عارف بس مش عارف.”

ما يلمح إليه غلاف الألبوم، ثم يثبته العمل، هو أن الألبوم قاهري بامتياز. استمعت إليه بحالات نفسية ومناطق مختلفة من القاهرة. أحدها طريق كورنيش المعادي ليلًا الذي سرّب إلى نفسي سكينة، تزايدت، ارتفعت ثم تناثرت كألعاب نارية كلما سمعتُ المزمار في وشوش الليل. في مترو الأنفاق، حين كنت متجهةً إلى وسط البلد، خلق الازدحام نزقًا سرعان ما جرفه الصخب ككل المشاعر الأخرى، ولم يبقَ لدي سوى حركة يجبرني عليها ريتم المسير. كانت إيقاع مكسور مواتية آنذاك، تناغمت في أذني مع الصورة بإيقاعها المضطرب، وزخمها الذي لا يبقي حيزًا لغيرها في الرأس. استمعت للإخفاء كاملاً، مرة بعد مرة، أثناء انتقالي للسكن في غرفة في بيت عتيق في الدقي، تناوب على سكنه أجانب ومصريين وعرب مغتربين، وملأت أرجاءه كتبهم وملصقاتهم وآثار اهتماماتهم المختلفة. تماشى فضولي وحماسي للبيت مع ما سمعته من أضداد استجمعت حسنًا فأظهر الضدُّ حسن الضدِّ.

دفوف وطبول وبايس والكترونيات وصوتان معتقان لتشكيل ثالث وكلمات تلقائية وتعابير عامية، عناصر يلف بعضها بعضًا عمل عليها تامر ومريم وموريس، بالإضافة إلى خالد ياسين (إيقاعات) ومحمود والي (بايس) ليخلقوا الإخفاء، صوتٌ يحاكي فوضى القاهرة اليومية ببشاعتها وجمالها. في أول استماع بدا لي الألبوم ككبكوبة خيوط ملونة لم أستطع إمساك أولها من آخرها، لكنها أخذت تنفلت أمامي وحدها مع الاستماع المتكرر. الألبوم على غرابته طبيعي جدًا، حيث نهاية كل مسار طرق أخرى واحتمالات أخرى، لا نور ولا ظلام، لا أسود ولا أبيض، فقط كثافة تدور وتدور، كلما عدْتَ إليه انتبهتَ لخيط جديد، أو لون جديد، أو عقدة جديدة.