.
بحث | نقد | رأي

الإلكترونيّة في الموسيقى، وتاريخها

ضياء البوسالمي ۲۰۱۸/۰۳/۰٤

ترجمة لدراسة عن تاريخ الإلكترونيّة في الموسيقى لصوفي غوسلين (طالبة دوكتوراه فلسفة بجامعة باريس ٨) و جوليان أوتافي (موسيقي متخرّج من مدرسة  الفنون الجميلة بمدينة نانت الفرنسيّة). يحتوي النص على شروحات قد لا تظهر عند قراءته كمقال فوري على فيس بوك.


كثيرًا ما نتحدّث عن الموسيقى الإلكترونيّة دون أن نعرف حقيقة إن كانت هذه التسمية تحيلنا إلى نمط موسيقي أو أنها تعني ببساطة الاستخدام المتزايد للآلات الإلكترونيّة – التي تحولت إلى آلات موسيقيّة – فيما يسمى الموسيقى المعاصرة. حسب التعريف الثاني، لا وجود للموسيقى الإلكترونيّة. فالتسمية “موسيقى إلكترونيّة” تعمل كحجّة تجاريّة حديثة لا كممارسة موسيقيّة متفرّدة. لذلك فإن تحليلنا لن يكون مهتمًا بالموسيقى الإلكترونيّة بل بالإلكترونية في الموسيقى. كنمط موسيقي لابد من توفّر مجموعة من الطرق التي يوظف فيها الإلكترونيّ في الموسيقى، تمشي التمشّي: ترجمة للكلمة الفرنسيّة démarche وهي تعني مجموعة الخطوات/المراحل المتّبعة للوصول الى غاية/هدف معيّن واضح وتموضعات فنيّة تنبني في علاقتها بالآلة الإلكترونيّة.

لذلك سنحاول الإجابة عن مجموعة من الإشكاليات: ما مدى تورّط الموسيقيين في التغير الذي طرأ على دور الآلات الإلكترونيّة؟ وكيف يؤثّر إدخال الآلات الإلكترونيّة ويعيد تكوين مجال الممارسات الموسيقيّة والسمعيّة؟ ثم كيف يُخفي مصطلح الموسيقى الإلكترونيّة تنوّع وكنه هذه المراحل الفنيّة؟

تاريخ الإلكترونيّة في الموسيقى، الذي عادة ما يقصد به تاريخ “الموسيقى الإلكترونيّة”، يؤخذ عمومًا إلى أصول تقنية تخص البحث والاكتشاف الإلكتروني، فيقع إهمال وتجاهل الأصل الفني. هذا ما ينتج مجموعة من القراءات المشوهة والمقتضبة لتاريخ الممارسة الفنيّة الموسيقيّة والسمعيّة في القرن العشرين. هذه القراءة المشوهة قد لا تكون نتيجة خطأ في القراءة، بل هي الحاجة (غير الواعية في أغلب الأحيان) لتبرير الهيمنة الإعلاميّة لخطاب فني حول الموسيقى.

الخطاب التاريخي بوصفه عمليّة بناء للماضي انطلاقًا من الحاضر، فالأموات الذين يعيدهم هذا التاريخ إلى ذاكرتنا يختلفون، حسب كاتب التاريخ، سواء كان الأمر يتعلق بإرساء وجهة نظر مهيمنة أو الإيهام بوجود ممارسة تعتبر أقليّة. من المدهش أن نرى عدد المقالات أو الكتب المخصصة اليوم لتاريخ الموسيقى الإلكترونيّة، والتي تعيد رسم هذه المغامرة منذ الاكتشاف العلمي للإلكتروني إلى الاستخدام الحالي المخصص لإنتاج الموسيقى من طرف ملحنين كبار (كارلهينز ستوكهوسن، بيار شافر، جون كايج) وصولًا إلى القطيعة في السبعينيات عندما فتحت تجارة الآلات الإلكترونيّة الطريق أمام ممارسات موسيقيّة  جديدة أكثر شعبيّة (تكنو، هيب هوب، هاوس، دي-جي…) يقع نسيان العديد من الأنماط الموسيقيّة الشعبيّة الأقل ظهورًا في الإعلام مثل الموسيقى الصناعيّة والتي تعتبر محوريّة في تاريخ تطوّر الممارسات الموسيقيّة المعاصرة. يمكن الاطلاع في هذا الإطار على مقال إيمانويل غرينزبان المنشور سنة ١٩٩٨ بعنوان الموسيقى الصناعيّة وموروثها.

هذه الرواية التاريخيّة الخطيّة لا يسعنا إلا أن نضعها موضع شك. هذا القطع التاريخي قائم على قطع سوسيولوجي لا فني للممارسة الموسيقيّة: الطبقة البورجوازيّة من جهة، ممثّلة بالموسيقى التي تسمى “راقية”، ومن جهة أخرى الطبقة الشعبيّة. يضاف إلى هذا التقطيع مجموعة من الكليشيهات التي وللضرورة تلازمها الكتابة من ناحية والشفهيّة من ناحية أخرى. مقال لباستيان غالي (٢٠٠٢)

هذا التحليل السوسيولوجي يخفي تموضعًا سياسيًا تحت غطاء التقدميّة. فهو يؤسس لفكرة مهيمنة وهي أن الطبقات الشعبيّة قد نجحت في احتلال مقدمة الساحة الفنيّة بسبب الانتقام الديموقراطي، في حين أن هذه الأخيرة ليست إلا واجهة إعلاميّة للشركات العالميّة لا يتعلّق الأمر بنقد تحليل عالم الفن من وجهة نظر سوسيولوجيّة بل هذا التحليل الاجتماعي الذي يفترض تحاليل ليست سوسيولوجيّة وإنما تاريخيّة أو فنيّة للممارسة الفنيّة المعاصرة. . قراءتنا للتاريخ لن تكون من وجهة نظر اجتماعيّة  هذه القراءة المؤدلجة للتاريخ هي التي يدافع عنها ويتبناها آليًا 'المختصون' في الموسيقى 'المعاصرة' الذين يحاضرون في إذاعة فرنسا الثقافيّة. بل فنيّة وبالتالي سياسيّة، ونعني السياسة دون أي أقنعة أو تخفي.

الممارسة الفنيّة هي بالأساس سياسيّة بما أنّها تنخرط في حقل علاقات القوى الاقتصاديّة، الأيديولوجيّة والرمزيّة. المعنى الذي نعطيه للممارسة الفنيّة هو مقاومة التلاعب الأيديولوجي الأيديولوجيا حسب التعريف الذي يقدّمه كارل ماركس في كتابه الأيديولوجيا الألمانيّة، هي دائما أيديولوجيا الطبقة المهيمنة. من خلال عمليات انحياز رمزيّة، هي حركة فرديّة تعطي معنى للعالم الذي نعيش فيه. لكن في المقابل، تكون هذه الحركة هي ما تحققه ممارسة معيّنة للإلكتروني في الموسيقى. لأنه لا وجود لموسيقى إلكترونيّة بصفة عامّة كنمط موسيقي مرتبط بتقنية معيّنة، بل هو مجموعة من المراحل الفنيّة لاستعادة التقنية من جديد. مصدر الموسيقى التي تسمى “إلكترونيّة” ليس ولادة الإلكتروني كتقنية بل في تعدّد الوسائل التي تستعيد الآلات الإلكترونيّة من خلال حركة انحياز رمزيّة.

هنا يُطرح سؤالٌ محوريّ فيما يتعلّق بتعريف معنى وجوهر الممارسة الفنيّة: مسألة العلاقة بين الفن والتقنية. ما الذي يميّز الفنّ عن التقنية؟ يعتبر الفن في الموروث الغربي، المرتبط بالفكر اليوناني، ضرب من التقنية نص لمارتن هايدغر: مسألة التقنية.. من هذا المنظور، لا يختلف الفن عن التقنية ولكن هو في علاقة معها. هذه العلاقة التي سنحاول ضبطها انطلاقًا من مثال تاريخي محوري في جزء كبير من التاريخ الموسيقي المعاصر: المستقبليون الإيطاليون.

الغاية من هذا المثال وعلاقته بمسألة الإلكترونيّة في الموسيقى سيظهر أثناء التحليل. لويجي روسولو (١٨٨٥-١٩٤٧)، وهو أهمّ الملحنين في الحركة الفنيّة المستقبليّة، لم يستعمل آلات إلكترونيّة في إنتاجه الموسيقي الجديد. هذا المثال لا يعدّ أقل أهميّة من مسألة استعمال الآلات الإلكترونيّة التي لا تأخذ معنى حقيقي إلا في نسق تاريخي للثورة الصناعيّة أي بظهور تقنية ستغيّر علاقتنا بالعالم (الكهرباء، الآلات …). هذا التغيير لم يحصل إلا على مستوى مادي (في الرفاهيّة التي يمكن أن تجلبها هذه الاكتشافات). بعبارة أخرى، هذا التغيير يبدّل نظرتنا للعالم، يعيد تقطيع وتشكيل المخططات التمثيليّة التي تنظّم علاقاتنا بالعالم: السرعة، النجاعة، الترفيع في الإنتاجيّة وبالتالي الترفيع في الاستهلاك، ارتفاع إمكانيات التدمير، تطوّر وسائل الاتصال، تغيّر محيطنا السمعي والمرئي … تكمن أهميّة المستقبليين، في تاريخ الفنّ في القرن العشرين، في قدرتهم على إظهار وإبراز المحتوى الرمزي لهذا التغيّر.

في السياق الذي تمّ الاستعداد من خلاله إلى الحرب العالميّة الأولى بوضع إمكانيات تدميريّة لم تشهد البشريّة لها مثيلًا، قام لويجي روسولو بكتابة بيانه فنّ الضجيج (١٩١٣) وابتكر أوركسترا بآلات تصدر ضجيجًا. ما الذي سعى روسولو لإبرازه؟

الآلات تُصنع لغاية براغماتيّة (نفعيّة). وهي مصمّمة كآليات/وسائل لبلوغ نتيجة محدّدة: مثلاً إجراء مكالمة وإيصال رسالة بالهاتف أو القتل، في حالة السلاح الرشاش.

بخلقه لمجموعة من الآلات التي تُصدر ضجيجًا بهدف إنتاج الموسيقى، قام روسولو بتغيير وظيفة الآلة لتنتج تمثّلات رمزيّة. عمليّة الانحياز الرمزيّة هذه، حسب رأينا، هي المعنى الحقيقيّ للفعل الفني، وهو ما يميّزه عن التقنية كوسيط مع عالم محدّد ومُمَكْنَنْ (المَكْنَنَة). من الممكن أن يكون هذا العمل الانحيازي الفني مطابقًا لعمل المخترع أو الباحث الذي يمهّد من خلال اختراعه لتقنية ما لظهور حاسيّة جديدة. كيفيّة عمل التقنية يأتي بعد عمليّة الاختراع، فهي نتاج سلطة تقديريّة توجّه الاختراع بالارتكاز على عدّة عوامل مثل النجاعة والمردوديّة. عمليّة الانحياز الرمزي ستتبع آليًا الاختراع. التضارب لا يوجد إذًا بين الفنّ والتقنية، ولكن في طبيعة العلاقة مع التقنية وكيفيّة اشتغالها.

عمليّة الانحياز الرمزيّ ثنائيّة: فهي تنحاز بالوسائل التقنية التي تحدّد ماهية علاقتنا بالعالم وتعمل على إعادة اكتساب رمزيّ لما يكوّن محيطنا من خلال جهاز ذي معنى يقطع مع كلّ ما سبقه. هكذا كانت أولى الآلات الموسيقيّة مجرّد أدوات مطبخ بسيطة تمّ تغيير طريقة استعمالها. وعمليّة التغيير حصلت في جلّ الإنتاجات الفنيّة ولكن وقع حجبها من طرف مؤسّسة الآلات والتقنيات المتخصّصة في إنتاج الموسيقى والفن. الثورة التقنية المفتوحة في العصر الصناعي تشجّع على تكرار هذه العمليّة بطريقة علنيّة وواضحة.

الانحياز بآلات إلكترونيّة لإنتاج الموسيقى ليس إلا إمكانيّة ضمن الإمكانيات المفتوحة من خلال إعادة التملّك الرمزي لآثار واحتمالات الثورة التقنية. هذا المصطلح الفضفاض، موسيقى إلكترونيّة، لا يأخذ بعين الاعتبار أنواع التمشيات التقنية التي تعيد تشكيل حقل الممارسة الموسيقيّة والمعاصرة. وهذا المصطلح منذ ظهوره في استوديو كولونيا في المدرسة الألمانيّة (١٩٤٩) والتي جمعت الدكتور الفيزيائي فارنر ماير-إيبلر (١٩١٣-١٩٥٥)، الملحّن والموسيقي هاربرت أيمر (١٨٩٧-١٩٧٢) والملحّن كارلهاينز ستوكسن (المولود سنة ١٩٢٦).

استخدم مصطلح موسيقى إلكترونيّة من طرف أعضاء هذه المدرسة بهدف التميّز عن المدرسة الفرنسيّة المعاصرة التي تعتمد الموسيقى الواقعيّة (راديو أر تي أف، جي أر أم في باريس) بقيادة بيار شافار. مثّل هذا المصطلح أكثر من مجرّد تميّز بل كان يهدف إلى معارضة استيطيقيّة تنحاز المدرسة الألمانيّة بالآلات والأدوات العلميّة للقياس والحسابات بهدف توسيع مجال النظريات التلحينيّة لأنطوان فابرن وموسيقيين آخرين مهتمين بالموسيقى التسلسليّة. وهو ما يعني إقحام الديناميكيّة، الكثافة والوفرة في الموسيقى التسلسليّة بنفس مستوى حدّة النوتات، طابع الصوت والإيقاعات. عمليّة التحوّل هذه وقع إجهاضها منذ بدايتها لأنّها لا تهدف إلاّ إلى إقحام إمكانيات تقنيّة في نظام تلحيني تقليديّ عوض أن تبحث عن أشكال جديدة للتّلحين الموسيقي المفتوحة عبر استخدام هذه التقنية. وصراع سياسي هدف المدرسة الألمانيّة، التي تمّ إسنادها من طرف المدرسة الفرنسيّة من موسيقيين مثل بيار بولاز، لم يكن فتح إمكانيّة خلق أشكال إبداع جديدة بل إعادة ترميم سلطة متداعية، هي السلطة التقليديّة للموسيقى الغربيّة المكتوبة. وككلّ سلطة تبحث عن خلق مؤسّساتها، تمّ اعتمادها على النظريات العلميّة وحول خطاب التمكّن من الحسابات والقياس وهو خطاب الحياديّة والحقيقة. في سياق ما بعد الحرب العالميّة الثانية وهزيمة ألمانيا.

عندما خَلقت المدرسة الألمانيّة الموسيقى الإلكترونيّة، أعادت خلق الموروث الغربي المكتوب: فهي تعزل آلة صوتيّة (الأصوات الإلكترونيّة “النقيّة” ضدّ الحدّة الصوتيّة المعدّلة من النظام الصوتيّ) تُعتبر “موسيقيّة”، في مقابل مجموعة من الأصوات التي تعتبر كأصوات غير موسيقيّة (الأصوات الواقعيّة الملموسة مثلًا). لقد تخلّصت من مسألة الانحياز من خلال تأسيس أداة صوتيّة مرتبطة بنظام تلحينيّ. وهي تعزل، بهذا الشّكل، مجالي التمكّن والمراقبة توم هولمز، الموسيقى الإلكترونيّة والموسيقى التجريبيّة. صفحة ١٠٣، الطبعة الثانية.. وهي كذلك تعيد بناء فضاء لترميم سلطتها. عمليّة العزل تجد مبرّراتها في خطاب يدعو إلى “الكمال” ميكاييل ينمان، ١٩٩٩، صفحة ٤٨. و”النّقاء” توم هولمز، صفحة ١٠٦، سنة ٢٠٠٢. الذي انتشر بطريقة غامضة بعد الحرب العالميّة الثانية ستوكسن تخلّى عن دوغمائيّته مع مرور السنوات من خلال التلحين الجامع بين الإلكتروني والصوتي في مقطوعة Gesang der Jünglinge.

لكنّ عمليّة الترميم جاءت متأخّرة لأنّها كانت بعد ثورة فنيّة مقاومة من فنانين مثل إيريك ساتي، إدغار فاراس والمدرسة الفرنسيّة مع بيار شافار وبيار هنري والمدرسة الأميركيّة مع جون كايدج وآخرين. في سنة ١٩٤٣، خلق بيار شافار (١٩١٠-١٩٩٥) الموسيقى الملموسة في استوديوهات الإذاعة الوطنيّة الفرنسيّة بباريس بتغيير وجهة آلات تواصليّة، خلق موسيقى قائمة أساسًا على التّسجيل، يعني إنتاج صور صوتيّة مقطّعة ومعزولة عن مصدر إنتاجها. يمكن أن تقع دراسة الموسيقى الملموسة أو فهمها كمجاز للتمشي الذي يعتمده الإنتاج الإعلامي، لا يقدّم أداة صوتيّة ولكنّه يركّز على عمليّة الانحياز بآلات التواصل الجديدة وبصفة كبيرة الآلات الإلكترونيّة.

من جانبه في الولايات المتّحدة الأميركيّة، اخترع جون كايدج (١٩١٢-١٩٩٢) مقطوعة أرض الهروب المُتَخيّلة رقم ٠١ (١٩٣٩) وهي تعتبر زمنيًا أوّل مقطوعة “موسيقى إلكترونيّة”. وفيها يستعمل تقنية الإلكترو-أكوستيك مع مزج أصوات ملموسة وأصوات إلكترونيّة.

بالنسبة لكايدج كما شافار، المهمّ ليس ضبط حدود الآلة الصوتيّة وإنما تحديد عمليّة الانحياز بالأدوات الإلكترونيّة لغاية إنتاج فني. وإذا ما اختلف التمشيان في الإنتاج الموسيقيّ فيكون ذلك في علاقة بالتّلحين والنجاعة: بيار شافار يدرج عمليّة الانحياز ضمن تمشي تلحينيّ في استوديو في حين يعتبره جون كايدج ممارسة ناجعة. يطوّر بيار شافار تفكيره حول وسائل الإعلام ووسائل التواصل في حين يهتمّ كايدج بالآثار الناتجة عن تدخّل فني في سياق اجتماعي.

ولكنّ تقاليد الموسيقى الملموسة بدأت في التلاشي اليوم مع آخر الناجين في عصرها الذّهبي (ما بعد الحرب العالميّة الثانية) ذلك أنّها نسيت عمليّة الانحياز التي كانت سببًا في ولادتها. لقد ركّزت على نظام التّلحين مع إقصاء كلّ من يجنحون إلى المسّ بـ “نقاء” مبادئها. بنسيانها لعمليّة الانحياز، ضاعت تقاليد الموسيقى الملموسة في طريق بحثها عن المعنى الذي ظنّت أنّها ستجده في عناصر الموروث الموسيقي الغربي المكتوب: العمل والملحّن.

من الجهة المقابلة، تواصل كلّ من المدرستين الأميركيّة (جون كايدج، تودور، كريستيان وولف، إيرل براون، ستيف رايش، ذ سونيك آرت يونيون ومجموعة ميوزيكا إلكترونيكا فيفا…) والإنجليزيّة (كورليلوس كاردو، مجموعة أ أم أم) عمليّة الانحياز دون خوف، في نظام تلحينيّ مضبوط مسبقًا. عمليّة الانحياز تواصلت من خلال الاكتشاف المستمر للأدوات الجديدة ولآلات صوتيّة وأشكال تنظيم جديدة للصوت في علاقة بالوقت (مقطوعة مصوّرة، ارتجال، تلحين مباشر بالحاسوب…) هذه الحركة الفنيّة سميّت بـ: الموسيقى التجريبيّة أو الفنّ الصوتيّ. هذه التسمية ترتبط باستعمال التقنية في عمليّة التمشي الفنيّة.

لم يقتصر عمل جون كايدج على أيّ نظام معدّ مسبقًا. وهو ما مكّنه من العمل مع مختلف الأنماط الموسيقيّة: الموسيقى الكلاسيكيّة، الجاز، الروك وأيضًا الرقص والعروض الركحيّة. استعمال الإلكترونيّة كان ثانويًا، فالتمشي الفني الذي اعتمده يرتكز على خلق طرق تدخّل تغيّر الحالة وقواعدها التنظيميّة. هدفَ هذا التدخّل إلى إظهار حالة ما. لم يعد التلحين بالنسبة لكايدج مجرّد التحكم والحصول على نتيجة ناجعة من خلال آلة محدّدة بل هو إنتاج لأشكال زمنيّة مستقلّة تنظّم عمليّة الاستماع إلى الأصوات في سياقات غير معلومة مسبقًا. كلّ الأصوات الممكنة يمكن إذًا أن تدخل في هذه الآلة الصوتيّة. تعاون جون كايدج مع العديد من الوجوه المهمّة في تاريخ الموسيقى التّجريبيّة: دافيد تودور، غودون موما وآخرين لا يتّسع المجال لذكرهم في مقال واحد.

يبدو لنا أنه من المهم عرض أعمال هذين الفنانين لفهم التمشي التجريبيّ. دافيد تودور (١٩٢٦-١٩٩٦) وهو عازف بيانو بتكوين كلاسيكيّ ولكنّه غيّر ممارسته الموسيقيّة بعد مقابلة جون كايدج. معًا، سيقدّمان عروضًا إلكترونيّة. دافيد تودور مازال يقدّم عروضًا ولكنّ اكتشافه للإلكترونية مكّنه من تطوير نوع جديد من العروض.  تمشّي قائم على التّلحين المباشر بآلات إلكترونيّة معدّة كمقطوعة موسيقية. دافيد تودور يصنع بنفسه هذه الآلات مراعاة لما يحتاجه في تجربته الفنيّة. أحد هذه المبادئ التي يرتكز عليها لبناء هذه الآلات هو الرّسكلة الصوتيّة: الأصوات التي تصدر عن الآلة الإلكترونيّة يُعاد بعثها داخل الآلة من جديد ويُعاد تشكيلها كذلك. وهكذا تكون للآلة استقلاليّة على مستوى الإنتاج  انظر المقطوعة الإلكترونيّة لتودور 'غابة مطيرة'. أبحاث تودور أعلنت قدوم “آلة موسيقيّة” ستحوّل الوضعيّة وطريقة العمل: نعني هنا الحاسوب.

يتعاون دافيد تودور باستمرار مع فنان آخر هو غوردون موما (المولود سنة ١٩٣٥). هذا الأخير وسّع من استعمال كايدج للكاسات ومضخّمات الصوت في الوقت الحقيقي وطبّق تمشّيًا يهدف إلى تحوّل إلكتروني للصّوت لمصادر أكوستيكيّة وإلكترونيّة. طوّر هذا العمل بإنشائه حلقات إلكترونيّة خاصّة به. لقد كان، مع تودور، مصدر ثقافة العروض بطاولة مليئة بالصناديق السوداء، الخيوط الكهربائيّة، المكوّنات المتقاطعة والمترابطة والتي يمكن أن يقع دمجها إراديًا توم هولمز، ٢٠٠٢، صفحة ١٩٨..

من الوجوه المعروفة أيضًا والتي تنحدر من المدرسة الإنجليزيّة، نجد كايث رو، وهو عضو بفرقة إ إم إم. كايث رو (المولود سنة ١٩٤٠) هو أوّل من انحاز بالغيتار كآلة تقليديّة ليحوّلها إلى جهاز إلكترونيّ تمكّن من أن يضيف إليه مجموعة من عناصر اليومي (آلات إلكترونيّة، مذياع، سكين، بطاقات بنكيّة…). لقد أعطى هذه العناصر التي حوّلها معنى رمزيًا يحيل إلى حركات فنان ستظلّ خالدة في تاريخ الفنّ. هكذا، كان يعزف على الغيتار ويقلبه على ظهره ويضعه فوق ركبتيه وذلك تيمّنًا بـ بولوك الذي يرسم على الأرض مباشرة. كما أنّه أقحم مجموعة من الأشياء التي يستخدمها يوميًا كما يفعل مارسال دوشومب مع أعماله ريدي-مايدز.

ارتكزت أعماله الموسيقيّة على تمشّي فنيّ يهدف إلى استعادة الأعمال المؤسّسة لتاريخ الفنّ كأشياء لتحويله: يُضاعف عمليّة التّحويل الأولى ويراهن من جديد على قيمتها الرّمزيّة.

يجب أن نتحدّث أيضًا عن المجموعات التي ضمّت هؤلاء الفنانين: سونيك آرت يونيون (المتكوّنة من غوردون موما، رويد ايشلي، دافيد بيهرمان وألفان لوسيار)، إم إ أف (ميوزيكا إلكترونيكا فيفا متكوّنة من فريديريك ريزووسكي، ريشارد تايلتليوم، ألفان كوران، ألان برانيت وآخرين) وأي أم أم (كايث رو، كورينلوس كاردو، ايدي بريفوست، لوغار وآخر المنظمّين فيما بعد جون تيلبوري). هذه المجموعات ضمّت ملحّنين من الموسيقى المكتوبة المعاصرة، موسيقيين من الموسيقى الكلاسيكيّة، موسيقيي روك وجاز. واحد من المبادئ التي تجمع الثلاث مجموعات كان تطوير العمل البحثي المباشر (وليس في ورشة بعيدًا عن أعين الجمهور). هذا العمل البحثيّ كان موضوعه العلاقات بين الآلات التّقليديّة والأجهزة الآليّة الجديدة، ابتكار أشكال جديدة للكتابة والتّلحين وإعادة تشكيل لعمليّة العرض في علاقته بالمجموعة وخاصّة عن طريق الارتجال.

هذه الوجوه التاريخيّة أفسحت المجال أمام تيار فنيّ يجمع مئات الفنانين (ملحّنين، موسيقيين مختصين في الصوت) من كل أنحاء العالم ومن مختلف التوجّهات الموسيقيّة. من المستحيل اليوم عزل أو تقديم بعض الوجوه دون الإنقاص من كثافة وتنوّع التمشيات التي تكوّن الموسيقى التّجريبيّة. الموسيقى الملموسة، الموسيقى الإلكترونيّة الألمانيّة، الموسيقى الارتجاليّة، موسيقى الحدّ الأدنى، الموسيقى الإلكترو-أكوستيكيّة، الشعر الصوتي، ممارسة الفنّ التشكيليّ والموسيقى … كلّ الحدود تتلاشى بين هذه الأنماط الموسيقيّة. لهذا السبب، تتجاوز الممارسة الفنيّة التجريبيّة التعارض بين الموسيقى “النخبويّة” والموسيقى “الشعبيّة”: هي تحتجّ على هذا النوع من التّصنيف.

الموسيقى التّجريبيّة كتمشي فنيّ يُعرّف عبر ثلاث نقاط:

– انفجار مجال الأصوات المحدّدة بموروث الموسيقى النّخبويّة من خلال إقحام مجموعة من الأصوات التي تشكّل محيطنا. الموسيقى لم تعد تمتلك مكانًا خاصًا بها، ولكنّها تتطوّر في قلب الممارسات اليوميّة. عمليّة التّشكيل (إنتاج مقطوعة صوتيّة) لم يعد مصاحبًا لعمليّة التشييء (إدخال سلسلة من الأصوات في نظام مغلق يحدّد الموسيقيّة) ولم يعد مُؤسّسًا على لغة أحاديّة مصطنعة (نظام الدرجة الموسيقيّة مثلًا) في مقابل لغة جماعيّة للاكتشاف اليومي جون كايدج هو حقًا من شكّل ومارس انهيار هذا التعارض وذلك من خلال الإقرار بأنّه للاستماع إلى الموسيقى، يكفي أن يفتح النافذة ويستمع إلى أصوات الشارع. للموسيقى والذي يمرّ عبر الأداء الصوتي الشعوب القديمة في شمال كندا (الإينوي) يمارسون ألعابًا صوتيّة. الممارسة الموسيقيّة تختلف هناك عن الطريقة الأوروبيّة. العزف هو معطى اجتماعي ينخرط في اليومي في حين أنّ الإنتاج الموسيقي كما تمّ توصيفه في الغرب يأخذ مكانه في وقت ومكان محدّدين (نقصد هنا العرض) خارج الحياة اليوميّة. الموسيقى التجريبيّة تُسائل وتشكّك في الحدود الموجودة بين الأداء الصوتي والممارسة النخبويّة للموسيقى. . عمليّة التشكيل تتمثّل في كلّ عمل يقوم به الفنان لخلق نظامه الخاص الذي ينظّم بواسطته الأصوات مع مراعاة عامل الزمن.

الموسيقى التجريبيّة لا تقصي الممارسة عن طريق التشييء الذي يقدّم النتيجة الجماليّة. وهي تضع في نفس المستوى الممارسة والنتيجة. وهكذا تزيح الحدود التي وضعها الموروث النخبويّ بين “الموسيقى” والإنتاج الصوتي في علاقته بالفنّ التشكيلي. الفنّ الصوتي هو تعبير فنيّ ناتج عن هذا التشويش.

لأنّها لا تتوخّى التمشي الذي يهدف إلى التشييء (عزل الصوت في مكان/ فضاء نخبويّ)، قلبت الموسيقى التّجريبيّة وضعيّة الفنان/ الملحّن – شخص معزول أمام عمله (متموضع في فضاء “نخبوي”). تتحدّد ممارسة الفنان الصوتي في إطار التقاليد الموسيقيّة “النخبويّة” (لأنّها تتبّع تمشيًا يهدف إلى التّشكيل) والاكتشاف الصوتي المتواصل (لأنّها لا تتحدّد في فضاء يستبق مجال الممارسة): بهذا المعنى، مكان تدخّلها المفضّل ليس المسرح ولكن الفضاء الاجتماعي. تدخّلها في الفضاء الاجتماعيّ يتحدّد في مستوى مختلف عن الممارسة اليوميّة: فهي تنحت وتجعل اليومي ظاهرًا من خلال أعمال انحيازيّة رمزيّة.

الممارسة الفنيّة التجريبيّة لفنان ما ليست بالضرورة أحاديّة، فهي يمكن أن تتكوّن بشكل فرديّ أو جماعيّ. ويتفوّق الجماعي على الفرديّ من خلال إنتاجه وتحقيقه للفضاء: الغطاء الذي تدور فيه عمليّة الانحياز الرّمزي، فضاء اجتماعيّ رمزي أين تختلط وتنقلب وضعيات وأدوار الممثلين والمشاهدين. الممارسة الفرديّة لا يمكن أن تنتج فضاء: تدخّلها يبقى في إطار التكتيك في مساحة مُحَاطة بعوائق رمزيّة يمكن أن يبرزها ولا يقدر على تحويلها.

الممارسة الفنيّة التي نطوّرها في جمعيّة الفنّ الصوتي، تأتي كاستئناف لهذه الحركة التي تمّ تجاهلها اليوم من تاريخ الموسيقى وكذلك تاريخ الفنّ التشكيلي. ذلك أنّ الموسيقى التجريبيّة لا تسعى أن تكون كالموسيقى “النخبويّة” بل تستعمل وسائل “غير نخبويّة” أو “شعبيّة” وهو ما يعني فرض نمط موسيقي جديد (مخالف للموسيقى الكلاسيكيّة). الموسيقى التّجريبيّة تحاول، على العكس، إحباط الهياكل والأشكال المنظّمة للإنتاج والتّقديم الفنيّ للصوت في مجتمعنا، وكبداية مفهوم “النّمط الموسيقي”.

مصطلح موسيقى إلكترونيّة يبدو رجعيًا لأنّه يحاول اختزال تمشي فنّي إلى نمط موسيقي، نمط بين مجموعة من الأنماط الأخرى، ولكن نمط جديد، شيء جديد للاستهلاك، مصدر جديد للربح الماديّ، وإن كان المصطلح قد عاد بقوّة اليوم، فذلك عائد لأسباب أيديولوجيّة متعلّقة بالسلطة. ولكن هذه السلطة لم تعد تلك السلطة التي تهدف إلى ترميم موروث في خطر، بل سلطة الشركات العالميّة التي تسعى لإيهامنا أنّه لنكون مواكبين للموضة الموسيقيّة، أي لنكون متجدّدين، لابدّ من شراء آلات إلكترونيّة مصنوعة على المقاس. هكذا، يقع توظيف الموسيقى الشعبيّة والتلاعب بها إعلاميًا وتحويلها إلى موسيقى تجاريّة تتحوّل الى موضة.

الذين اعتقدوا أنّهم استقطبوا، هم في الحقيقة مستقطبون. تضع وسائل الإعلام صورة ما ينسيهم جوهر ممارستهم، أي الهدف من استخدام آلات إلكترونيّة. هذه الصورة، التي تنتجها الشركات العالميّة، تجد مساندة من أشباه المثقّفين الذين يبرّرون الهيمنة التجاريّة من خلال خلق تيارات وحركات طليعيّة بطريقة اصطناعيّة. لكنّ عصر هذه الحركات قد ولّى، ولعلّ خير دليل على ذلك هو انتظار المؤسسات لحركة طليعيّة تضفي شرعيّة على وجودها.

المزيـــد علــى معـــازف