بالحبر السري | عن التشفير كلغة وحيلة في الموسيقى العربية

الحاجة إلى التشفير قديمة، فالعرب أظهروا منذ أزمنة غابرة اهتمامًا بفنون التمويه والخداع والملاحن وعلم التعمية الذي حاولوا من خلاله إخفاء المعنى الظاهر للنصوص، وظهرت لهم مؤلفات مؤسسة في هذا الميدان، خاصةً مع جابر بن حيان في كتابه حلّ الرموز ومفاتيح الكنوز، وأحمد بن خليل الفراهيدي في كتابه المعمى، بالإضافة إلى الكندي في استخراج المعمى. حديثًا أصبحت التسمية المعتمدة هي التشفير، نسبةً إلى الجذر اللاتيني للكلمة سايفِر Cypher والذي يعني الصفر. ظهرت بوادر التعمية في العربية قبل انتشار الإسلام، وخاصةً مع الشعراء الصعاليك الذين كانوا يتواصلون فيما بينهم بقول الشعر أثناء الإغارة، فيعمد أغلبهم إلى الترميز حتى لا ينتبه الأشراف وقبائلهم إلى فحوى كلامهم، ويتواصلون فيما بينهم بنفس المفردات المرمزة بغرض الاتفاق على شيءٍ ما حتى لا يتم اكتشاف أمرهم. كما أنّ أبو الحيان التوحيدي أورد في كتابه البصائر والذخائر حكاية مرور أحدهم بمجموعة من الناس كانت تتكلم لغة غريبة لم تألفها أذنه، ولم تكن لا فارسية أو عبرية ولا حتى إفرنجية. في سؤاله عن ماهية ذلك المنطوق، اكتشف أنّ النشالين كانوا يبتدعون لغتهم الخاصة حتى لا يفقهها عامة الناس.

بالإضافة إلى هذه السياقات، اعتمد العرب قديمًا تنوّع التسميات حتى لا يقتصر المعنى على كلمةٍ واحدة، منها ما كان يرجع إلى ثراء اللغة كالتسميات التي أطلقها القدامى على الأسد: جساس، درواس، غضنفر، فدوكس… ومنها ما كان بهدف التمويه أو التشبيه عبر التصوير الفكاهي والمجازي بغرض مجابهة تابوهات المجتمع وأخلاقياته شديدة التحفظ، فللأير مثلًا في معاجم العرب واستعمالاتهم اللفظية تسميات كثيرة كالحمامة والهرماق والفدلاك والخبّاط والأعور والدمّاع وأبو رقبة والشلباق، وللعضو التناسلي للمرأة نفس الثراء اللفظي والكلمات ذات الإيحاءات المتعددة، مثل أبو طرطور والقنفود والعضاض وأبو عنكرة والغلمون والقحفليز وغيرها.

إلى جانب التعمية وبقية الأنواع من التشفير، كانت هنالك الملاحن، أو اللحن، وهي طرق من الكلام كان العرب يستعملونها بغرض التعمية والتورية. كلمة اللحن في اللغة العربية تعني الفطنة، وبالنسبة إلى ابن دريد في كتابه الملاحن فهي تعني: “أن تريد الشيء فتدري عنه بقول آخر”، وجاء في لسان العرب لابن منظور: “ولَحَنَ له يَلْحَنُ لَحْنًا: قال له قولًا يفهمه عنه ويَخْفى على غيره لأَنه يُميلُه بالتَّوْرية عن الواضح المفهوم؛ ومنه قولهم: لَحِنَ الرجلُ: فهو لَحِنٌ إِذا فَهمَ وفَطِنَ لما لا يَفْطنُ له غيره. ولَحِنَه هو عني، بالكسر، يَلْحَنُه لَحْنًا أَي فَهمَه.” في سوريا وفلسطين قديمًا، كان هنالك ميل للتلحين تفنن فيه أهل تلك المنطقة وخاصةً اليهود الشاميون، حيث كان يضرب بهم المثل: ألحن من يهودي، أو يهودي ذو لسانين.

لا عجب ههنا أن تلتقي الموسيقى بالتعمية في تسميات العربية، ليتقاطع لحن اللغة مع لحن الصوت. فتلك الموسيقى تأتت من نفس البيئة التي ولّدت الحاجة إلى التشفير والتعمية واللحن، لذا فقد كانت بدورها عرضة إلى لعبة التورية والإخفاء، وأخرجت التشفير من سياقاته القديمة كاللصوصية والإغارة، ليصبح حاضرًا في الأغاني لغةً وحيلةً، إما عبر اختراع لغات مشفرة أو اللجوء إلى الترميز وممارسة لعب التعمية بغرض التمويه عن السلطة الأخلاقية أو السياسية.

القجمي في تونس | لزوم ما لا يلزم

في الأحياء الشعبية في تونس العاصمة قديمًا، كان للنشالين وأبناء نفس الحيّ لغتهم المشفّرة المسمّاة قجمي، يتقنون أسرارها ويتكلمونها فيما بينهم. يكاد يكون لكل حي قجميه الخاص، كشفرة جينية تميّز أبناءه عن بقية الأحياء، بغرض التواصل المرمّز عن الغرباء أيًّا كانوا، عابري سبيل أو عسكر، يهدفون من خلاله إلى رسم دائرةٍ مغلقة بغرض خلق حماية ذاتية وممارسة نوع من الانتماء إلى مجموعةٍ ما. لم توجد بعد دراسات بحثية في هذا المجال، ولكن أغلب الروايات الشفوية تشير إلى أنّ السجن كان مدرسة مهمة لتلقين وتداول القجمي، فالنزلاء هناك يتخاطبون فيما بينهم بلغة مشفّرة لا يفهمها السجّان ولا بقية السجناء، حيث قد يدور الحديث حول خطة هروب أو عملية احتيال على أحدهم.

ارتبط القجمي فيما بعد بسياقاتٍ لغوية وأحداث عابرة كانت في كل مرة تولّد ألفاظًا جديدة يتم تداولها كمادة سريعة الانتشار تنتهي بالزوال. كل فكرة تظهر وتسود تظهر معها مصطلحات تموت بفعل الوقت لتنتج حالات لغوية. أغلب صنوف القجمي يكون عبر قلب مواضع الحروف أو إضافة حروف أخرى كالكاف والسين.

يمكن لنا أن نفهم تداول القجمي من باب أنه يحقق شكلًا من التفوق النوعي لدى المتكلمين به، ويمكّنهم من آليات تنفيس وتضخيم عن طريق تحرير المكبوت من التابوهات التي تثقل المجتمع. من جهةٍ أخرى، كان القجمي رائجًا بين أغلاظ الحي ونشاليه، الباربوات أو الباندية في القاموس التونسي، وفيه استعراض للكلاميات الجديدة والألفاظ المولّدة حديثًا بغرض تضخيم الأنا، ذلك أن للكلمة صبغة سحرية وقوة تأثير على الواقع، إذ يتمّ شحنها من طرف المتكلمين بسلطةٍ خفيّة، فاللغة مهما كان شكلها، مشفّرة أم رسمية، تستمد استمراريتها من كونها حقلًا لاستراتيجيات الهيمنة وممارسة نوع من التفوق. يميل أولئك الباندية إلى استعراض طرق كلامية جديدة لا تكتفي فقط باستعمال كلمات ومصطلحات جديدة، بل بتلحين الكلام العامي عبر بتر آخر حروفه أو إشباع إحدى حروف العلة بطريقة فيها الكثير من المبالغة، وكأنهم بذلك يعمدون إلى تشويه اللغة الدارجة في استعراض للقوة بادعائهم أنهم يتملكون سلطة التشويه تلك – دون سواهم – إما ببتر الحروف أو بإشباع حروف العلة.

لا يزال القجمي متداولًا بشكلٍ محتشم في الأحياء، ولكنه عرف استعادة تاريخية مع الراب، وخاصةً في أغاني كلاي بي بي جي الذي لطالما عبّر عن ثقافة أولاد الحوم أبناء الحي. عند كلاي، تحوّل القجمي إلى ثقافة مقاومة وألسنية تمرد. في أغنية ثقافة حوم الجزء الثاني، يقول كلاي: “تحب تفهم عقليتنا، لازم تسمر القجمي إذا أردت فهم عقليتنا، عليك إدراك القجمي.” كما نراه في أغنية ثقافة حوم الجزء الأول يتكلم القجمي ابتداءً من الدقيقة الأولى، ومن ثم يقول: “القجمي متاعنا معقد ما يخطرش على بالك.”

حاول كلاي عبر استعادة القجمي خلق نوع من التفوق على السيستِم، وخاصةً البوليس الذي أتقن لغة السلطة ولكن غاب عليه أن يلمّ بثقافة الأحياء الشعبية التي كان كلاي أحد أبنائها، خاصة وأنه نشأ في حومة باب الجديد في تونس العاصمة. لكن فلسفة كلاي التي حاول من خلالها الرجوع إلى القجمي كوسيلة مقاومة، قابلتها من الجهة الأخرى معارضة GGA في أغنية علاش تقجموا، التي يتساءل فيها عن لجوء الرابرز إلى القجمي.

يعارض جي جي إيه النزوع إلى تكلم القجمي والالتجاء إليه في غناء الراب كفقر لغوي وشعري لهؤلاء، وخلافًا لكلاي فهو يعلن في إحدى المقاطع انتماءه إلى جهة سوسة “ربزنت سوسة موش فيلي philly” وليس إلى حومة معينة. بالمنطق الجغرافي والثقافي، الجهة أوسع من الحومة، وهو ما يقلل من مستوى الانصهار داخلها، والشعور بالانتماء الذي يظهر جليًا وقويًا على مستوى الحي. فعلى قدر ما كان المشترك بين مجموعة من الأفراد أقل تعقيدًا، يصبح الانتماء أقوى. لهذا كان القجمي ملتصقًا بالأحياء (خاصةً المدينية منها)، بل وأصبح من عناصر هويتها اليومية الخاصة، وعلامة تراثية وتحديثية في نفس الوقت.

ارتبط القجمي بالهندسة المدينية وأنهجها الضيقة والمتعرجة التي كانت حيزًا استراتيجيًا للباندية. في الخيال الجمعي للتونسيين هنالك دائما صورة علي شورّب التي تؤرخ للباندية في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. بدأ الرجل حياته ضد العسكر الفرنسي بدافع تمرد عفوي، ليحترف الصعلكة إثر ذلك ويصبح رمز الباندية وأيقونتهم الدائمة. من جهة أخرى، كان تصميم الأحياء في الحاضرة في تونس مقصودًا حتى يتمكن المدافعون في المضائق والمنعرجات من الدفاع عن أنفسهم ودرء الأخطار القادمة. كان القجمي حاضرًا في زمن الاستعمار الفرنسي، فحينما يهجم العسكر على شباب الأحياء ويطارد المقاومين، كانت هندسة المكان الضيقة داخل المدن وإتقان القجمي للتواصل إحدى الوسائل الناجعة للإفلات من قبضتهم.

بعيدًا عن الخصوصية التونسية، لم تكن اللغات المشفرة مقتصرة على الهندسة المدينية، فهي أيضًا بنت الأرياف الشاسعة والمدى المفتوح على مرأى المقاومين واللصوص من على مسافات بعيدة، حيث لا جدران ولا منعرجات ضيقة للتمويه والتحايل.

الملولاله في فلسطين | المقاومة أمّ الاختراع

في فلسطين، ظهرت لغات مشفّرة أفرزتها سياقات عدّة، ولعلّ أبرزها أدوار المقاومة ضد الاستعمار البريطاني. كانت الملولالة إحدى الأنماط التشفيرية التي علقت بالذاكرة الجماعية نظرًا لارتباطها بقصة أغنية يا طالعين الجبل. انتشرت تلك اللغة في الأرياف ولم تكن فقط مرتبطة بسياق المقاومة، فحتى اللصوص يتخاطبون فيما بينهم عبر الشيفرات حتى لا ينتبه أحدهم إلى ما يقولونه.

تسرد وقائع أغنية يا طالعين الجبل كيف أنّ النسوة كن يغنين للأسرى حول سجون الاستعمار في محاولة تمرير رسالة مفادها أن الفدائيين سيحررونهم من الأسر. تعتمد تقنيات الملولاله على إضافة حرف اللام إلى الكلمات لتمويه السجان والمخبرين. منشأ هذه الأغنية كان الشمال الفلسطيني، ومن الشائع أيضًا أنها من أغاني المقاومة الفلسطينية أثناء فترة الانتداب البريطاني، وهي تعبّر عن إعادة صياغة لقصة الأسرى وأولئك النساء الحاملات لرسائل مشفّرة، تحثهم على الصمود والمقاومة في انتظار تحرير الثوار لهم. قد تكون قصة السجن حقيقية، أما الأغنية فهي إعادة صياغة وبناء لتلك الحكاية. يقترب عالم الأغنية كثيرًا من الناحية التاريخية من فترة الثلاثينيات والأربعينيات، وهي فترة شهدت بداية النضال النسوي الفلسطيني من خلال بروز النساء اللواتي كن مع القسام واشتهرن باسم رفيقات القسام، وظهور تنظيمات سرية نسوية مسلحة مثل زهرة الأقحوان. إلا أنّ تلك الفترة ظلّت مهملة من التاريخ المدوّن، وتمّ فيها الاعتماد على صياغة تفاصيل تلك الحقبة من خلال التاريخ الشفوي والمرويات.

في هذا الإطار، ظهرت جهود جبارة لإعادة صياغة المنسي من ذلك التاريخ بالاعتماد على منهجية بحث تقوم على الإصغاء الواعي لشهادات شفوية ممّن عاصروا تلك الفترة أو سمعوا عنها، وترتيب المعلومات والأفكار إثر ذلك، وهو ما حرصت على القيام به الدكتورة فيحاء عبد الهادي التي أرَّخت للمساهمة السياسية للمرأة الفلسطينية منذ الثلاثينيات حتى سنة ١٩٨٢، ووثقت للعديد من روايات النساء. تشير الدكتورة فيحاء في مؤلفها حول أدوار المرأة الفلسطينية في الثلاثينيات، إلى أن المرأة الفلسطينية كانت تعمل على إخفاء السلاح، وتوصيله مع التموين الغذائي لرجال المقاومة في الجبال على الدابة، وكذلك نقل الرسائل السرية من وإلى المقاومين، والقيام بمهمات الاستطلاع، وإعطاء الإشارة للقيام بالعمليات العسكرية، وإخفاء رجال المقاومة عن الإنجليز وتسهيل تهريبهم، وابتكار مختلف الوسائل في هذه الأعمال. تشير الأغنية إلى  هذه الأدوار للمرأة الفلسطينية تضمينًا و تلميحًا.

مقاومة فلسطينية بريطانيا معازف

تقول فيحاء التي عاشت تجربة السجن في سجون الاحتلال بأنّ الأغنية كانت جزءًا أساسيًا في حياتهن، وخاصةً في الحزن والفجيعة، والصمود والمقاومة. كما أنّ الأغاني التي انتشرت في ثورة ١٩٣٦ هناك تسميات عديدة لها: الثورة الفلسطينية الكبرى. من المهم الإشارة إلى أنّ الثورة قد تمكّنت في بعض مراحلها من السيطرة على كامل الريف الفلسطيني وبعض المدن كانت مرتبطة بشكلٍ مباشر بفعل المقاومة.

ارتبط التشفير بالنشاط السري آنذاك، وانتشر بين المعتقلات والمعتقلين السياسيين. في حديثها إلى معازف، تقول فيحاء عبد الهادي: “تجسَّد التشفير من خلال تغيير كلمات أغنيات معروفة لبعض المطربين المعروفين كي تلائم الرسالة التي يريد المعتقل/ة إيصالها. كمثالٍ على ذلك، في المعتقل عام ١٩٦٩، كنا مجموعة فتيات أعمارهن بين ال ١٥-٢٧، وكانت الوالدة عصام عبد الهادي أكبرنا، في الأربعين. حين تصل معتقلة إلى السجن، كنا نغني:

أهلًا وسهلًا شرَّفونا حبابنا… أهلًا وسهلًا شرَّفتنا… ونذكر اسمها، كي تعرف جميع الأقسام بوصول معتقلة جديدة. كذلك إذا أرادت الفتيات الحثّ على صمود الزميلات اللواتي يخضعن للتحقيق داخل المعتقل، وعدم الاعتراف:

عا المسكوبية   عا المسكوبية

وصَّلني بليلة   وما طلَّ عليّ عليّ

يا كرباج لالي    دايمًا في بالي

وتقوللي اعترفي اعترفي    وانا أقولَّك لأاهلأاه

آه يا جنابي يا جنابي

(الأغنية لصباح، وكانت فيحاء ورفيقاتها يتداولنها في سجن نابلس المركزي وبالتحديد آذار ١٩٦٩. تعني المسكوبية معتقل في القدس، وبليلة: رجل المخابرات الإسرائيلي، المحقّق)

تبقى الملولاله وبقية الأغاني المشفّرة مؤثّرة في استحضار فصول الصراع من خلال تأجيج الجانب الرومانسي للمقاومة، ولعلّها كانت أكثر نجاعة من آلة إنيجما التي اخترعها الألمان في الحرب العالمية الثانية وأمّنت التراسل بين الجنود والثكنات بالاعتماد على طرق تشفير معقّدة من خلالها. من جهة أخرى، يمكننا القول بأن الملولاله كانت نتاج الذكاء النسوي ودوره العظيم في تاريخ المقاومة الفلسطينية من خلال تحويل الصراع إلى مستويات مختلفة عن الصدام الميداني كانت للنساء فيه السبق والامتياز.

لم تقتصر الملولاله على أغنية يا طالعين الجبل، ففرقة الفنون الشعبية الفلسطينية قامت باستعادة أغنية تراثية أخرى في نفس النمط وباعتماد نفس التقنية في شمالي يا هوا الديرة، ولربما يعود ذلك إلى اكتساب الملولالة في مرحلةٍ ما لسياقٍ مستقل عن سياقات المقاومة، فانتشرت كشكل غنائي قائم الذات نظرًا للجرس الموسيقي الذي تخلقه تقنية إضافة اللام.

هنالك حتمًا نماذج أخرى من اللغات المشفّرة انتشرت في المدن والأرياف العربية مع اختلاف سياقات استخداماتها. ففي حارات المدن السعودية، نشأت لغة هجينة هي عبارة عن رطانة مختلطة فيها الكلمات الجاوية، والبنجالية، والتركية، والأحرف المعكوسة. انتشرت الرطانة خاصةً بين الشباب، ومثّلت عقدًا لغويًا فيما بينهم، إذ أصبح لكل حارة رطانتها يحرص الناطقون بها على ممارسة فنونها أثناء مباريات كرة القدم حتى لا تفهم الفرق المنافسة فحواها، ويتكلمها البعض في المدرسة مواراةً لرقابة المعلم، أو حتى داخل نفس العائلة بين الإخوة لكي لا يفهم الآباء ما يدور من حديث بين الأبناء.

بعيدًا عن شرق المتوسط، في الضفة الأخرى المقابلة له وبالتحديد في معتقل تزمامرت في المغرب الذي ضمّ مساجين عسكريين كانوا قد شاركوا في العملية الانقلابية في الصخيرات (١٩٧١) وحادثة الطائرة الملكية (١٩٧٢)، اخترع السجناء لغةً مشفّرة للتواصل فيما بينهم كانوا يسمونها باللغة التزمامرتية. ذكرت كتب أدب السجون تداول تلك اللغة، ومنها كتاب المرزوقي (تزمامرت، الزنزانة رقم ١٠) حيث أشار إلى الذكاء السجني الذي ولّد آلية تواصل هامشية خارج مجال السلطة للإفلات من منظومة المراقبة والعقاب التي أحكمها النظام المغربي على المساجين. حتى في تجربة اليسار الستيني في تونس، حرص مساجين حركة آفاق برسبكتيف على استعمال تسميات مشفّرة كانت متداولة في السجن حينها، مثل السياسة الصغرى والسياسة الكبرى. في كتابه الحبس كذاب والحي يروح، يذكر فتحي بلحاج يحيى أحد مساجين تلك الفترة كيف أنه حين يدخل أحدهم السجن، ينحصر السؤال حول ما إذا كان ذلك مرده إحدى تلك السياستين؛ فالصغرى هي بدعة نعتية بغرض الإشارة إلى المثلية، وأما الكبرى فهي قضايا الرأي العام والمعارضة للنظام القائم.

المفقود من الأغاني | أسطورة اللاوندي 

في مصر، تشير بعض الروايات إلى انتشار لغة مشفّرة استمرت لفترةٍ ما كانت تسمى باللاوندية (وهو ما يفسّر ظهور إحدى العوالم التي كان اسمها سيدة اللاوندية)، حيث اقتربت من كونها لغة جندرية تتكلمها النساء، وتنظم بها الأغاني في مواضيع الحب والجنس تمويهًا على رجال الدين ونواميس المجتمع الثقيلة.

يعوج أصل الكلمة إلى الجند اللوند، وهم المسيحيون الكاثوليك من خلفية إيطالية وفرنسية الذين استوطنوا في تركيا في خضم الحروب الصليبية. لكن صار لسياق الاستعمال معنًى آخر، فعندما يقول أحدهم يضرب باللاوندي فذلك يعني أنّه يرطن بكلام غير مفهوم. اللاوندي له ارتباط آخر باللانداي، حيث يعوز البعض إلى أن اللاوندي يعود إلى الغجر المصريين الذين قدموا من الهند، وذلك لاشتباك تسمية اللاوندي مع اللانداي التي تعني حرفيًا الموجز أو القصير، وهي قصائد غنائية قصيرة جدًا برعت فيها نساء قبائل البشتون الأفغانية، حيث التركيبة القبلية القائمة على العصبية الدينية التي يملك فيها الرجال المحاربون الموالون للقبيلة كل السلطة، فيما كانت النساء في أسفل الهرمية المجتمعية. في تلك البيئة القاسية، ابتدعت النساء تقليدًا شعريًا شفويًا سميّ باللانداي (جمعه الكاتب الأفغاني سعيد بهو الدين مجروح في الشعر الشعبي للنساء البشتون، اللانداي) الذي تحوّل إلى متنفس يتداولن فيه مواضيع الجنس والغرام، وتجريب الممنوع، ومحاكمة الرجال الرمزية في خيالهن الشعري. تحوّل اللانداي إلى تقليد سري متداول بين النساء الأفغانيات البشتون وكأنّه ميراث جندري يكسبن من خلاله تفوقًا رمزيًا على حساب الرجل الطاغية الذي يلبس عمامة السلطة القبلية، ويطلق لحيته تدينًا، ويمسك بسكينه الأخلاقية على رقابهن. هاجر الكثير من البشتون إلى خارج أفغانستان نتيجة الغزو الشيوعي وما تلاه، ولربما يفسّر ذلك تسرب اللانداي إلى مناطق أخرى.

على شاكلة اللانداي، كانت هنالك لغة جندرية مماثلة في الصين تستعملها النساء دون الرجال هربًا من القهر الاجتماعي. أثناء الفترة الإقطاعية التي عاشتها الصين، كانت النساء محرومات من حقّ التعليم، لذا أنشأن لغة تواصل مشفّرة فيما بينهن تسمى النوشو، يتوارثنها عبر الأمهات وبناتهن عن طريق قسم معين هو بمثابة ميثاق شرف بينهن، حتى ينحصر تعلّم تلك اللغة فقط بين النساء. كانت التحف الخزفية والأقمشة والثياب والأنسجة بالإضافة إلى الأغاني، بمثابة المحمل أو المدوّنة التي حملت رموز وأسرار تلك اللغة المشفّرة، إلى حين قدوم الثورة الثقافية مع ماوتسي تونغ الذي أمر بالقضاء نهائيًا على تلك اللغة وآثارها.

نماذج من الأغاني المشفّرة | بين الجنس والحشيش والسياسة

في بدايات القرن العشرين، صدر أمر عن الحاكم العسكري البريطاني بعدم ذكر اسم سعد زغلول ومنع تداول أخباره حتى في الجرائد إثر منفاه. التقى سيد درويش ببديع خيري وألفا طقطوقة غنتها نعيمة المصرية بعنوان يا بلح زغلول للتمويه على سلطات الاستعمار، في حين كان مضمون الأغنية سياسيًا غير ما يظهره من التغني بالبلح الزغلول.

كان اللجوء إلى معجم شوارعي ملغّم بالإيحاءات والترميز لدى سيد درويش، حيلة للحديث عن الحشيش والجنس والإيماء إلى السياسة، ولعلّ أبرز الأغاني في هذا المجال اشمعنى يا كوخ الكوكايين كوخ التي غنتها منيرة المهدية.

قبل سيد درويش ظهر الترميز في الأدبيات الشعبية القديمة، ولعلّ أشهرها نعناع الجنينة وهي من الأدب الشعبي المصري، تتألف من رباعيات تحوي أكثر من ألفي بيت، وضمّت الكثير من الإيحاءات بدءًا بالتساؤل عن اجتماع النعناع وشجرة الموز بفكرةٍ واحدة، ثم بالانتقال إلى الحديث عن العسل والوصف الحسي للجسد: “مديت إيدي على الرمان اجني فيه ببصاره، قالت مستواش أخضر جنيته خسارة”، والرمان في معجم المصريين (وغير المصريين كذلك) يشير إلى الصدر والامتلاء.

انتقل الترميز إلى السياسة في عصور الاستبداد، فمع الثنائي الشيخ إمام ونجم، كان الشاعر بينهما يسمي مصر بتسميات عدة كبهية، ونور، وسلمى.

في نفس السياق في المغرب أثناء فترة حكم الحسن الثاني، التبس الأمر على الجميع في أغنية داويني لفرقة لمشاهب، وبالذات في مقطع “واحيدوه”. استمر الجدال طويلًا حول ما إذا كانت الفرقة قد غنت واستعملت كلمة واحيدوس التي تشير إلى رقصة شعبية مغربية، أم واحيدوه التي تعني اخلعوه في الإشارة بشكلٍ مباشر إلى الملك الحسن الثاني. دافع أحد مؤسسي الفرقة، محمد البختي، عن المغزى السياسي للأغنية، فيما نفى عضو آخر من الفرقة، مبارك الشاذلي، ذلك.

في تونس أيضًا، خلال عهد نظام بن علي، كانت الأغنية الملتزمة في طورها إلى الانقراض لولا الاستعادات المتخفية في مناسبات الحماسة الطلابية والشوارعية، أو الاحتفالات الضيقة المحتشمة داخل الجامعات والنقابات. لكن ظهور بندير مان سنة ٢٠٠٨ وابتداعه لأسلوب ذكي وطريف بعيدًا عن ثقل الكلمة السياسية المباشرة كان له صدىً واسع. أنشأ الشاب التونسي معجمًا لحاله ألّف به أغانيه ونجح الناس بسهولة في فك رموزه، فمرّة يغني عن السيستِم في “ما تمسش السيستام لا يضربك الضو” ليقول: “برشة خيوط وبريزات نعملوا سيستام جديد” (من خلال خيوط كهربائية ومقابس سنصنع سيستمًا جديدًا)، أي لنقوّض النظام القائم ونصنع آخر جديدًا.

في أغانٍ أخرى كان يستعمل كلمة بنديرلاند المشتقة من اسمه بندير، وهي آلة نقر يشار بها إلى الوشاة والمتمسحين للنظام في تونس وبنديرلاند تعني تونس، أو أرض البندير، أي أرض الوشاة في عهد بن علي، إذ غصّت بالكثير منهم.

بعيدًا عن كهرباء السياسة ومقابسها، ظهر معجم الغلال كدلالة رمزية على حقل الجنس والمتعة. ففي أغنية يا رمانة يا رميمنة من التراث التونسي، الإشارات الجنسية واضحة حول امرأة تخرج إلى الشارع فيما يتغنى الرجال بمفاتنها الظاهرة وتشبيهها بالرمان.

في فيلم عصفور السطح، تظهر مجموعة من النساء مجتمعة يتوسطهن الطفل نورا. تشرع النساء في الغناء حول الرغبة والسرير بالاعتماد على معجم الغلال والتفنن في ذكر مفاتن الجسد الذكوري وتشبيهه بذات المعجم “وليلة عرسي وأنا جاني بحذا فرشي / وراو جاني سيد الرجالة، وهداني باذنجانة / اه يا للة، ملكة فندق الغلة، تحب القفة بالكرموس وهي تفركس على الفقوس (الخيار بالتونسي) / تحب القفة بالشاشية وهي تحب اللحمة الطرية.”

في أغنية شطحة لحسن الدوس، تظهر الإشارات الجنسية المثلية من خلال الاعتماد على ثنائية التفاح والشيشة (النارجيلة) في نص الأغنية: “في يدي تفاحة بنية وفي الأخرى جباد الشيشة.”

قديمًا، كان التشفير ينطلي حتى على الأغاني العاطفية والغزلية، ففي بعض الأغاني التراثية التونسية، كانت الإشارة إلى الحبيب بالخال أو الأخ. في أغنية من تراث الشمال الغربي، يا لسمر خويا، ليس الأخ الأسمر بالتأكيد هو موضوع القصة، وإنّما هو الحبيب الأسمر. كما غنت صليحة خالي بدلني التي تغزلت بالخال الدحنوس “هو يغضب وأنا نرضيه” والحال أنها تتكلم عن حبيبها. في يللي نسيت خالك، يرد الهادي الجويني على معجم النساء بنفس مفرداته.

كلها إشارات إلى الحبيب لأنّ المجتمع الذكوري لا يقبل بالأغاني التي تتغزل فيها النساء بالرجال ويكون فيها إيحاءات جنسية، أو حتى فقط في موضع الحب العذري لا غير. حاولت المغنيات خلق مساحة رمزية آمنة بعيدًا عن الملاحقة الأخلاقية وسوط القبيلة الناهر، حتى تصبح الأغاني مقبولة اجتماعيًا.

انتفاء بعض الحاجة وبقاء التشفير

تكمن جماليات التشفير في الخيال الواسع وذكاء الحاجة اللذان يدفعان إلى الخلق والاختراع، فيتولّد نص أو خطاب يكسر النمطية القائمة في نوعٍ من الرياضة اللغوية، ذلك أن “الإنسان مضطر إلى الخيال بطبعه” على حد تعبير الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي في كتابه الخيال الشعري عند العرب. توزعت اللغات المشفرة بين الريف والمدينة، اللصوصية والمقاومة. فيما كان القجمي ذكوريًا في منبته وفيه استعراض لفحولة لغوية ما، نشأت الملولاله كلغة نسوية تعتمد على جرس الصوت والإيقاع وتنظم فيها الأغاني. في سياقٍ آخر، ضد القجمي واللغات المشفّرة، كانت الزبوبية لعبد الرحمان الكافي، وكس أميات نجيب سرور أكثر النصوص تطرفًا على مستوى الصدامية والإشارة إلى الأشياء بشكلٍ مباشر. أغاني مها عبد الوهاب، وبهية المحلاوية، والعوالم في مصر، أشارت إلى الرغبة بكل جنوحها من دون اعتبار إلى التحفظ أو اللجوء إلى الترميز والتشفير، فهل الحيلة في ترك الحيلة؟ تجيبنا أغاني الملولاله بالكثير من الجمال، فيما يغرينا عبد الرحمان الكافي بالقافية الواضحة.