.
عند نهاية الثمانينيّات، كانت مدينة الجزائر تعيش بداية بؤسها وانحطاطها الذي يزداد مع ازدياد السكّان ومعه المشاكل الاجتماعيّة. على المستوى السياسي، كانت الخطط الاشتراكيّة تفشل، والديون تتضخّم يومًا بعد يوم، وبدأت البهجة التي تغنّى بها مغنّو الشعبي (وَلِيدُ المدينة) تفقد ألقها. كان كل شيئ يسير بالبلاد نحو انتفاضة كارثيّة شهدتها المدينة يوم ٥ تشرين أوّل / أكتوبر ١٩٨٨.
في عام ١٩٨٩، غنّى محاسب جريدة ألجِري أكتواليتيه algérie-actualité السابق، وهو مغنٍّ شعبي خارج الدوام اسمه عبد المجيد مسكود، أغنية يا دزاير العاصمة التي اشتهر بها. موقع الأغنية بين الأغاني التي غنّت عن المدينة (ولا تزال) جد مهم، ربّما لأن السياق التاريخي التي ظهرت فيه الأغنية شكّل علامةً فارقة للبلاد بشكل عام والمدينة بشكل خاص، وربّما لأن الأغنية – بشكل أو بآخر – أجهزت على ريبرتوار الأغاني الشعبيّة التي تمجّد جمال المدينة وترثيها، والتي، في نفس الوقت، تنبّأت بما سيأتي لاحقًا.
لم يكن مغنو الشعبي في الجزائر العاصمة مهتمين كثيرًا بأن يتغنّوا بمدينة بنيت ضدّ الغناء الشعبي. نستطيع تتبّع هذه المواجهة منذ أن أوجد الحاج محمد العنقي هذا اللون من خلال افتتاحه عام ١٩٤٧ لكنسرفتوار الجزائر، مؤسّسًا أول أوركسترا شعبيّة في راديو الجزائر، ليعلّم أولاد الشعب موسيقى جديدة، مازجًا فيها الموسيقى الأندلسيّة الكلاسيكيّة (والتي يقول عنها الشيخ لمين هيمون في الفيلم الوثائقي القوسطو أنّها كانت موجّهة للناس المرتاحين ماديًا والعائلات الغنيّة) مع الموسيقى الأمازيغيّة، ومتكئًا على نصوص من الشعر المغاربي القديم (الحرّاز مثلًا). كان هذا الغناء الشعبي مرتبطًا بمكان مولده كأي لون خرج عن الأندلسي الذي وفد قبل قرون لشمال أفريقيا؛ وكما كان الأندلسي يرثي حضارةً ضاعت ويمجّدها، كان اللون الشعبي في العاصمة (والمالوف في قسنطينة مثلًا) يمجّد المدينة التي يسكن قمّتها فقط – القصبة – حيث أن المدينة الجديدة كانت حكرًا على المستعمر الذي بناها.
كان أبرز من غنّى للمدينة في الأربعينيّات والخمسينيّات إمّا أوروبيون أو يهود جزائريون، أشهرهم ربما ليلي بونيش، المغني اليهودي الذي كان تعليمه في الأصل يرتكز على الموسيقى الأندلسيّة الكلاسيكيّة، قبل أن ينخرط في راديو الجزائر ويتعلم ألوانًا جديدة كالرومبا والجاز، ليمزج بين كل هذه الأنواع. ما جعله من أبرز وجوه الفرانكو أراب في الكباريهات والصالونات في فرنسا. قدما بونيش موسيقى جميلة وخفيفة ترقّص الناس، في أغانٍ مثل بومبينو، أنا في الحب، أنا الورقة، يا يما، لوريِنتال، والتي برزت أكثر من كل ما سبق:ألجِر ألجِر.
كلمات الأغنية خليط بين الفرنسيّة والعربيّة تحكي عن شخص يشتاق لمدينته، الجزائر. واصفًا جمالها ومكانها في روحه، ومكانها بين كل مدن العالم. نلاحظ أيضًا أن جزائر هذه الأغنية هي جزائر ألبير كامو، باريس الأخرى المتوسطيّة، جزائر البحر والشواطئ والخمر الجيد وأكلة السمك اللذيذة، جزائر الشمس حيث يكتسب سكانها سمرة خاصة، وجزائر ماري كاردونا صديقة ميرسو في رواية الغريب، عندما تقول: “كيف هم الناس في باريس؟ أهنالك شمس في باريس؟“
اكتشف الجيل الذي أتى بعد الحاج العنقى، في موسيقى الشعبي، التفاوت بين واقع المهاجرين والنصوص المغنّاة في ذلك الوقت. هذا الجيل الذي صارت له بداية الستينيّات مدينة ما ظنّ أنه سيملكها يومًا. مثل دحمان الحراشي الذي سافر نهايات الأربعينيّات إلى فرنسا حيث اختلط بالجيل الأول من المهاجرين المغاربة في المقاهي والكباريهات. نستطيع أن نتبنّى تجربة الحراشي كنموذج لهذا الجيل الذي اكتشف هذا التفاوت فاشتغل على نصوص من الشعر الملحون المغاربي من القرن الفائت ليغنّي عن الغربة، خاصة في أغانٍ مثل يا الرايح. اللافت أيضًا عند عند الحراشي وجيله من أمثال الهاشمي القروابي، عمر الزاهي، عبد القادر شاعو وغيرهم أنّهم قبل أن يغنّوا المدينة كموضوع أساسي للأغنية (ومع استمرارهم في غناء ريبرتوار نصوص الشعبي القديمة من قصائد أندلسيّة ومغربيّة عن الغرام والهوى) غنّوا قيم المدينة، أو ما يشكّل مدينة إسلاميّة متوسطيّة، تلك التي حملها أجدادهم من الريف إلى القصبة وأخذوها بعد الاستقلال إلى المدينة الأوروبيّة الجديدة.
حتى الحراشي في أغانٍ مثل خبّي سرّك يا الغافل، يا ربّي يا ستّار، إذا كانك عوّام، قالوا الصابر ينال، كون فاهم، أو حتى ربّي بلاني بالطاسة (التي يحكي فيها عن مدمن كحول)، نجد له صوت مصلحٍ أخلاقيّ يلعب دور ضمير المدينة الحارس. أما في أغانٍ أخرى مثل بهجة بيضا ما تحول ويا البهجة، نجد صوت المغترب الذي يريد العودة إلى مدينته، مستذكرًا شوارعها وجلسات الرفاق بطريقة تقصي كل ما هو غير جميل. ذلك ما نجده أيضًا لدى الهاشمي قروابي في أغنيته آلو آلو.
في نهاية السبعينيّات وبداية الثمانينيّات صار هنالك جيل ولد بعد – أو خلال – الاستقلال. كبر ابناء هذا الجيل مع أنواع موسيقيّة متنوعة متأثّرًا بفورة موسيقى الروك مثل بينك فلويد والبيتلز. إثر ذلك، أنشئت فرق عديدة لم يستمر أغلبها ولم يخلّف أثرًا وراءه. بقي في الذاكرة عددٌ قليل من هذه الفرق أبرزها تي٣٤، وهي مجموعة التقت في البناية تي من الحي الجامعي ببن عكنون، العاصمة، الغرفة رقم ٣٤. أشهر أغاني الفرقة بوعلام الفار وعن يوم في حياة شاب عاصمي. أما الفرقة الثانية الأقل شهرة فهي كي-جي-٢، وأغنيتهم الأهم: عاصمة.
ظهرت كل أغاني تلك الفترة تحت عباءة فيلم مرزاق علواش: عومار قاتلاتو (١٩٧٧)، الذي صوّر حياة شاب عاصمي مليئة بالمظاهر والمغامرات الصغيرة والأوهام الكبيرة التي يستمر في إقناع نفسه بها، وهو الواقع الذي – كما سنكتشف بعد سنوات – لم يكن يمثّل الشباب فقط، بل حال أهل البلاد الفتيّة كلها، الذين حاولوا إقناع أنفسهم بأوهام العدالة الاجتماعيّة والأسواق الاشتراكيّة (أسواق الفلاح) التي سيطر عليها المحتكرون، والتي ضاعفت من البؤس الاجتماعي لتؤدّي إلى مركزيّة المدينة وفقر الجهات الأخرى، وبالتالي النزوح نحو الشمال. ربّما كانت هذه التجارب التوصيف الأفضل للنظام الذي توقّف عن العمل فجأة، وعبارة: “إنها لا تفلح” التي طُبّقت على البلاد على مدار عقد كامل قبل تسعينيّات الدم، والذي تخللته الإضرابات والمظاهرات قبل أن تنفجر الثورة يوم ٥ تشرين أوّل / أكتوبر ١٩٨٨.
في عام ١٩٨٨ لم يكن هناك فيسبوك ولا وسائل إعلام ولا فضائيّات ولا إنترنت، ولا تعريفات أخرى لكلمة ثورة، عدا تلك التي عرفها الناس منذ ثلاثة عقود. أدت كل هذه الأسباب وأخرى إلى تسمية هذا اليوم بـ أحداث، رغم أنّه اليوم الذي سيحدّد مستقبل البلاد. جرت الأحداث في أكثر من مدينة، لكن نصيب الجزائر العاصمة كان أكبر. في فيلم غداً الجزائر القصير لـ أمين سيدي بومدين، نشاهد ٤ أصدقاء في اليوم الذي يسبق الأحداث، بكلامهم عن اليوم المشهود وتردّدهم، بينما كان رابعهم يستعد للسفر، في إشارة إلى كل الناس الذين تركوا البلاد في العقد التالي.
بعد أقل من عام، سيصدر مغنٍّ شعبي غير معروف خارج الوسط العاصمي اسمه عبد المجيد مسكود شريطًا بعنوان يا دزاير يالعاصمة، مرثيّة للزمن الذي راح وتأكّد عدم رجوعه، وهجاء للدخلاء على المدينة. منذ ذلك اليوم صارت الأغنية نشيدًا غير رسميّ للمدينة، يسمعه أولادها ويكرهه ذوو الأصول الريفيّة (مع العلم أن قليلين هم من لهم أصول عاصميّة، وغالبًا ما يكونون من بقايا الأتراك في القصبة). لكن في السنوات الأخيرة، وبعد أن صارت مدينة الجزائر عاصمة حقيقيّة من حيث السكان، أي أنّها صارت تحوي شرائح من كل المدن الأخرى، تراجعت الأغنية وصارت تعتبر أقرب الى مانيفستو عنصري، وهذا ما يظهر في تعليقات الأغنية على اليوتيوب.
رغم أن كلمات الأغنية بسيطة وترثي عادات وأناس راحوا – في نفس الوقت لا يمكننا إغفال الروح المنغلقة على نفسها لسكان المدينة والرافضة لكل تغيير في نسق الحياة الهادئ المتوسطي – إلا أنّ أقوى المقاطع هي التي تتحدّث عن الوافدين: “من كل جيه جاك الماشي، الزحف الريفي جاب غاشي“، في إشارة لكل من لا ينتمي للمدينة، وأولئك الذين أتوا من الريف تحديدًا.
اشتهر كمال مسعودي كمغنّي الشعبي الشاب منذ نهاية الثمانينيّات وحتى نهاية التسعينيّات (حين رحل في حادث سيارة) بأغانيه الحزينة والعاطفيّة. غنّى مسعودي عن مدينته، التي رآها مدينة الوحوش والأغنياء الجدد التي أنكرت أبناءها (حسب ما تنبّأ به مسكود) في أغنية يا دزاير راه طاب القلب، وجزائر الخوف وخُلوّ الأحياء من الرفاق، ليس لأنهم تركوا البيوت للدخلاء – كما عند مسكود – بل لأنّهم ماتوا أو هاجروا، أو كما يقول: “القلب خاوي والعقل طاش، ما تسمع غير يا من عاش.“
كان العام ١٩٨٩ مهمًا، ففيه كانت “الإصلاحات”، ومنه كانت بداية التدهور. سواءٌ ظهرت أغنية يا دزاير العاصمة بالصدفة أم بقصد، متمرّدة على ما سبقها، فهي لسان حال سكان العاصمة القدامى الذين يؤمنون بأن التدهور والبؤس سببه الدخلاء ولا شيء آخر. لكنّهم يسقطون في خطأ قاتل، فالمدينة التي لا تستطيع احتواء أناس كُثُر، خاصةً العاصمة، هي مدينة عاجزة. أما سبب عجزها فليس آلاف الناس الجدد فقط، بل الأسباب التي دفعت بهؤلاء إلى الزحف نحوها.
أجازف بالقول إن أهل العاصمة الذين ردّدوا وراء مسكود أغنيته كانوا هم أنفسهم منبوذين يوم كانت المدينة ملكًا للأوروبيين. كانت جنتهم المحرّمة، جنّة الجميع. وعندما ملكوها حوّلوا ذلك النُبذ نحو الوافدين الجدد والذين بدورهم ريّفوها و لم يتمدّن أكثرهم. ربما ساعدهم – أهل المدينة – إقصاء الغير وإظهار نية الاستئثار بالمدينة في التأقلم معها، هي التي بنيت ضدهم.