fbpx .
هلا باليلعب | الجوبي من الغربية إلى التيك توك

هلا باليلعب | الجوبي من الغربية إلى التيك توك

حسن شغيدل ۲۰۲۵/۰۵/۲۷

دم دم دم تك دم تك تك، ما أن تسمع هذا الإيقاع في العراق، تشعر برغبة في رفع قدمك اليمنى ثم الانسحاب خطوتان ثم رفع قدمك الأخرى، ممسكًا بالإبهام والسبابة مسبحة أو قطعة قماش تلفها بقوة حول كف اليد المقبوض. هذه الخطوات المتناغمة التي تؤدى ضمن صف جماعي عادة، يتشابك فيه المشاركون بأيديهم ويتحركون تبعًا لِإيقاع الطبول والغناء، هي الجوبي. 

فن غنائي شعبي نشأ وانتشر في مدن غرب وشمال العراق: الأنبار والموصل وصلاح الدين وديالى وكركوك، يقع ضمن تصنيف الدبكة في بلاد أخرى، إيقاعه الزمنيّ ٨-٨ غالبًا، مضاف إليه زخارف وتنويعات إيقاعية أخرى.

لم ترد كلمة جوبي بلفظ الجيم ch / تش في المعاجم العربية، لكنها من الكلمات الأعجمية التي تحضر بقوة في العامية العراقية المرفودة بكلمات من الجوار الجغرافي مع الحضارتين الفارسية والتركية. إضافة للاستعمار الطويل الذي ورّد للهجة عديد المعاني.

الجوب كلمة فارسية تعني الخشب؛ ويردّ إليها الباحث في الموروث الشعبي أمجد المالكي أصل كلمة الجوبي. بيد أن الرقصة ليست مرتبطة بالخشب، “فهو ليس رقصًا بالعصا كما ذهب الشيخ جلال حنفي.” لذا يحيل عبد المجيد الشاوي أصل الكلمة إلى الجوبة، التي تعني في اللهجة الشعبية العراقية فسحة من الأرض بين البيوت، يمكن استخدامها بصفتها مساحةً وميدانًا للرقص. 

كما وردت كلمة الجوبي choby في قاموس الرقص على أنها تشير إلى لون من ألوان الغناء الشائع في شرق أفريقيا يرافقه رقص بالعصي و الضرب على الطبول. وفي هذا يقترب من الجوبي العراقي إلى حد ما. 

بخلاف التسمية غير المتفق عليها عند الباحثين، يتفق الراقصون رجالًا ونساءً في إتقانها وتسمى أحيانًا جرن ومعضّد، جرن للرجال والمعضّد للنساء. تذهب غالبية المعاني للرقصة دون الغناء، إذ مهما تعددت الأغنيات تبقى الرقصة نفسها بحركات ثابتة مكررة. يسمى الذي يجيد الرقصة مجوبجي ومن خلال تأديتها يقال له يجوِّب. 

تختلف الجوبي في طريقة الأداء من منطقة إلى أخرى، فبينما تبرز في غرب العراق بطابعها البدوي الصحراوي، تحمل في الشمال تأثيرات كردية وتركمانية ذات بيئة جبليّة، تضفي عليها تنوعًا فريدًا في أسلوب الأداء والموسيقى المصاحبة لها.

للجوبي شروط ثلاث هي الغناء والإيقاع والرقص؛ وكما هو حال غالبية الفلكلور الشعبي، عاني الجوبي من غياب التدوين والأرشفة. لا يوجد تاريخ لأقدم مطربي الجوبي أو راقصيه أو فرقه، لكن انطلاقًا من أرشيف الإذاعة والتلفزيون العراقي يمكن اعتبار سعدي الحديثي هو الرائد في المجال. بخلاف ذلك تبقى شهرة ونشاط رواد هذا الفن محصورة داخل الحيّ أو المحافظة. مثل المطرب أبو صلاح الشيحاوي وغيره.

انتشرت هذه الرقصة في كل أنحاء البلاد، كما أن تحدّر السلطة السابقة في العراق من المدن التي تنتشر فيها جعل منها الرقصة غير الرسمية في المحافل. إذ رقصها صدام حسين وحسين كامل، كما ساهمت أغاني الجوبي في الترويج للسلطة كما هي سائر الفنون الأخرى وقتها، ما منحها بعدًا سياسيًا قد يكون أثر عليها سلبًا؛ وهذا ما يشير له سعدي الحديثي في كتاب جذور الغناء في الثقافة العراقية: 

“لم تكن أغاني الجوبي تحظى باهتمام الجمهور بالشكل الذي تمتعت به في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن المنصرم، ومن العوامل المؤثرة في ذلك، كما أعتقد، هو الهيمنة السياسية لأبناء المناطق التي ينعقد فيها الجوبي في كل مناسباتهم.”

 لكن الجوبي في نهاية الأمر جزء من الفلكلور الشعبي العراقي الذي تمتد جذوره أبعد من السلطات. 

شرعنة الجوبي

يطلق على الجوبي في المدن المحافظة مثل الأنبار وصلاح الدين لعب، ومنها جاءت “هلا باليلعب جوبي / هلا برجال الجوبي”، أي مطالبة الرجال باللعب؛ واللعب عند العرب غير بعيد عن الغناء واللهو: “يلعب على آلة العود.” لكن في العراق لا ترتبط كلمة اللعب في الغناء والموسيقى إلا بالجوبي. 

يقول مهدي زياد، ٢٨ عامًا، من أهالي الأنبار: “الجوبي لعب كما تعلمنا وليست رقصة. عندما نقول لعب أي للرجال لأننا نعتبر الرقص للنساء؛ لذلك محترفي الجوبي هم الرجال وليس النساء في مناطقنا”، وبحسبه لا ينطبق هذا على الجوبي في الشمال والموصل، حيث يتشارك النساء والرجال اللعب. ربما يعود الذهاب لوصفها باللعب إلى التحريم الذي يحيط فعل الرقص إجمالًا، بينما لا يترتب على اللعب ذلك الإشكال الشرعي. 

في الأفراح والمناسبات، تقسّم أوقات لعب الجوبي والأدوار، فصاحب المناسبة يمنح كل مجموعة أصدقاء أو كل قبيلة “فصلها الخاص”، أي وقتًا يؤدون فيه لعبتهم / رقصتهم، وهو حصتهم في الميدان.

الحزن مشمول في الجغرافية التي تؤطر الجوبي كممارسة، كسمة تغلب على الغناء العراقي؛ فعادة ما يسبق غناء الجوبي مواويل حزينة، تشبه إلى حد كبير من ناحية المعنى المواويل التي تنتشر في جنوب العراق. بخلاف ذلك تشبه الحركة الإيقاعية في الجوبي إلى حد كبير حركة الهوسة أو الأهزوجة، التي تستخدم من ضرب القدم في الأرض وسيلة إيقاعية، والجامِع بينهما الكلمات الحزينة.

بالنظرة العامة قد تهيمن على غناء الجوبي الأنساق البدوية، إذ تحوي أشهر الأغاني البرنو، البيكيسي، والأسلحة المنتشرة عند القبائل والمفاخرة بالعوائل وأسمائها؛ وعندما ينتقل الجوبي لبغداد، ترق كلماته: فيريد كاظم الساهر قطف الورد لحبيبته ويرغب ماجد المهندس بالزواج من ابنة عمه. أي تتغير اللغة والاغراض وفقًا للزمان والمكان وذوق المستمع، حيث يفضل أبناء البادية الشعر النبطي لكن بقية المحافظات قد لاتفهم معنى “البارحة خيل تسومي حنه كسرنا باسها / ربعي جما عنان العزومي اللي كوي راسها.” 

إلا أن العناية بالكلمات قد تكون تراجعت حسب المختصين؛ فيقول سعدي الحديثي “تحتل الكلمات المكانة الأولى في هذه الأغاني، الأمر الذي لا تراعيه الأجيال الجديدة التي ابتعدت قليلًا عن التقاليد الموروثة. جعلت هذه الحقيقة أغاني الجوبي تفقد كثيرًا من عناصر تكوينها ولا تحتفظ إلا بالإيقاع واللحن الذي لا يتجاوب مع المعاني بما هو مطلوب.”

إيقاع الشهرة

تجاوزت رقصة الجوبي حدود المدن التي تنتشر بها، وشاركت في المهرجانات الوطنية العراقية مثل مهرجان بابل، إضافة لمشاركتها بمهرجانات دولية مثل مهرجان أبها في السعودية وعدد من المهرجانات الفلكلورية، لكن في اعتقادنا مرد شهرتها في السنوات الأخيرة إلى عاملين: 

الأول هو إقبال عدد من كبار المطربين على إنتاج أغانٍ على إيقاع جوبي، ومن أشهرها: لاقعدلك عالدرب وغاب الكمر، التي حققت شهرة واسعة خارج البلاد. 

رغم أن المطرب سابقًا كان يقدم أغنية يتيمة بهذا الأسلوب بصفتها جزء من التراث، أما الآن وبفعل السوشيال ميديا، العامل الثاني، أصبح الجوبي هو الذي يقدّم المطرب وليس العكس. بل صار يعطي شهرة إضافية حتى للمطربين العرب، كما في حالة ميريام فارس في الدبكة هي الجوبي التي تكاد تكون أشهر أغنية للمطربة داخل العراق.

قدم أغلب الفنانين العراقيين الشباب أغانيًا بهذا الأسلوب، لكن ياسر عبد الوهاب بعد نجاح أغنية قلبي بالاشتراك مع زيد الحبيب عمل على أكثر من أغنية من نفس النوع، منها على هونج وعراقية، بسبب النجاح الذي يحققه الأسلوب، رغم أن ياسر لا يعتبر من مختصي هذا الغناء.

عودة إلى الواجهة 

ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في إعادة انتشار رقصة الجوبي، بعيدًا عن مطربي الاستوديوهات والمطربين المحترفين. يبدو أن السوشيال ميديا أعادت لهذه الرقصة شعبيتها الحقيقية، فقد انتشرت مقاطع عديدة يظهر فيها مطربو الأحياء وهم يؤدون الجوبي في المناسبات، دون الحاجة إلى توزيع موسيقي أو فيديو كليب احترافي. ترافقهم أحيانًا فرق رقص متخصصة، إضافة إلى مشاركة أبناء الحي، ما يعكس طابعها الشعبي ويعزز حضورها في المجتمع.

أشهر مغني الجوبي الآن هم: محمد الجبوري وأحمد الطيب ووليد العيساوي، حيث عرف الثلاثة من خلال فيديوهات انتشرت لهم على السوشيال ميديا داخل الأعراس وهم يقدمون الجوبي، بعد أن حققوا نجاحًا داخل محافظاتهم، ثم اشتهروا على مستوى العراق مثل أغنية رماني لوليد العيساوي. في الوقت نفسه قدم أحمد الطيب اغنية أنت الشيخة، ومحمد الجبوري وصلي لابوج اخباري، وهم لا يعتمدون على توزيع موسيقي حديث ولا على فرق كبيرة، حيث تتكون الفرقة من “الطبال وعازف الاورج وعازف مطبق والمطرب” حسب الفنان محمد الجبوري، الذي بدأ الغناء في ٢٠٠٩ مع فرقة الفهد. 

ورث الجبوري الغناء عن والده الذي كان قارئًا للمقام، وتطوّر في حرفته حتى بات واحدًا من أشهر مطربي اللون في الوقت الحاضر. يقول: “الأطوار التي نستخدمها في الجوبي: ازّعلان والميمر والعَرْنة والمولية، أما فرقة الرقص عادة يطلبها صاحب المناسبة، وغالبًا نعتمد على الحاضرين خصوصًا في المناطق الريفية لأنهم جميعهم يجيدونها، مع الأخذ بالاعتبار الزي الرسمي والتراثي لها، وهو الدشداشة.” وعن نوعية الحفلات التي يحييها عادة مطربي الجوبي يقول: “نحيي أعراس ونحيي النوبات (مرّات) مهرجانات أو افتتاح مكان تجاري.”

أثرت عوامل عديدة في انتشار فيديوهات الجوبي على السوشيال ميديا، مثل الكلمات، إذ تحمل بعض المقاطع كلامًا يعتز بقبيلة أو محافظة، ما يدفع أبناء القبيلة أو المحافظة إلى نشره بكل ما يملكون من وسائل، مثل مقطع “روحي نخلة بتكريت”. كذلك، قد يكون للكلمات تأثير بطرق أخرى، مثل أغنية “أنتي الشيخة و الدلة وأنت الفنجان”، التي تغازل جميع بنات الوطن والأوطان المجاورة. 

أيضًا، أخذ سحر الرقص حصته في التأثير، إذ يصعب تجاوز مقطع لمجموعة رجال يتراقصون بإيقاع منضبط وجميل وكأنهم فرقة كرنفالية، سواءٌ كانوا فرقًا محترفة أو مجرد مجموعة من قبيلة واحدة أو أصدقاء. كما أن مقاطع فيديو لرجل مسن يجيد اللعب، يلف سبحته ويؤدي حركات إيقاعية متقنة أو لطفل صغير يقوم بذلك، تحظى بانتشار واسع؛ وعلى الرغم من أن أبناء هذه المناطق يتعاملون مع الجوبي كجزء من هويتهم، فإن الآخرين يرونه استعراضًا للمواهب.

أما الجمال الشكلي فخدم بعض المجوبين دون غيرهم. تنتشر لهم فيديوهات لأنهم وسيمون يؤدون الجوبي بإتقان، ما يجعل جمال الرقص والشخص نفسه عنصرًا مؤثرًا على مواقع التواصل الاجتماعي؛ وأحيانًا يكون الجمال بشكل آخر، كما حدث عند انتشار مقطع فيديو لطفلة تردد إحدى الأغاني، فأصبحت الطفلة العنصر الأساسي في انتشار الأغنية، بعيدًا عن لحنها وكلماتها.

المزيـــد علــى معـــازف