الخطوة الأخيرة | مسلَّم

كتابةفادي حيدر - February 13, 2017

وسط العدمية التي تدفعه للقول: “فش اشي يرمم فش اشي يسكر الجروح، فش اشي يجيبك فش ايش يطفيلك النور، فش اشي يخلي واحد زيّي هونا مزتوت، فش اشي لكن انا هونا بحكي ولك أخ، فش اشي تحبه تفنيله حالك لتموت، فش اشي يجاوب فش اشي يبني فش أه”، يحلم مسلّم، في آخر أغاني الألبوم والتي تحمل اسمه، الخطوة الأخيرة، بكوخ تشاركه به فتاة أحلامه، دون ماديات، دون ماورائيات، ودون ارتباطات. يحلم مسلّم بحياة بسيطة لا تعقيد فيها، وتشعر بتوقه إلى هذا العالم البوهيمي الخيالي الذي يجمع بين الزهد الرومنسي الوسوفي الذي تفوح منه رائحة الحور والكينا، وبين الفانتازي اليسارية الزيادية المشمئزة من مادية الحب. في هذا الهروب إلى يوتوبيا شخصية، والمؤدى بطريقة غير مواجهاتية على خلاف الكثير من أغاني الراب الاحتجاجية، يصور مسلم الموت كخطوة أخيرة لا يمانعها، مكررًا عبارة “بعديها أموت” عدة مرات في نهاية كل من مقطعي الأغنية بصوت هادئٍ.

انطلاقًا من النهاية، من الخطوة الأخيرة، لا يخفى أن مسلّم يصارع امتعاضه من هذا العالم بأي طريقة متوفرة، لأن هذا ما يفعله الحالمون الذين يصارعون، وحافزهم الأول هو حبهم لهذا العالم حقيقةً. فكيف يصارع مسلّم هذا العالم البارد المليء بالألم؟ قبل وصوله للخطوة الأخيرة الهروبية يجرب مسلَّم عدة طرق أخرى بعضها مواجهاتي، إصلاحي أو سلبي، وبعضها الآخر هروبي.

بدءًا من المواجهاتية التي تأتي كاستجابة طبيعية لمجتمع يجده مسلِّم محافظًا ورجعيًا بشكلٍ لا يترك العديد من الخيارات، حيث الفارق بين مسوقي الستاتس-كو وبين المتمردين يختزل بقدرة الفئة الأولى على كبت الذات، يعبِّر مسلّم في أكثر من أغنية عن سخطه على مجتمع يريد أن يضبط الجميع ويسوقهم وفقاً لمشيئته ومحطماً فردانيتهم.

في أغنية خاوة يؤكد مسلّم على أن الأمور ستسير وفقاً لمشيئته غصباً عن كل المشككين، متحديًَا تشاؤم العينة الصوتية من أغنية شارة المسلسل السوري ما في أمل المستخدمة في اللازمة، والتي تؤكد بصوت أمومي: “ما رح تزبط معك، ما في حدا يسمعك”. أما في إدوارد سعيد ينتقد مسلّم بلهجة أكثر إصلاحيةً الناس الذين يعتاشون على الأمجاد، يقول “قديش بدنا لنبطل نفخر ونعرف مش مهم اختراعنا للصفر واحنا زيو”، ثم يتابع انتقاده لوجه آخر من العيش في الماضي وهو التشبث بالتقاليد، حيث يرفض مسلَّم قناعات مجتمعه إن كانت تتناقض مع قناعته الشخصية: “بديش تكون إنت وأخوك عإبن العم وإنت وإبن العم عالغريب، بدي تكون دايماً مع الحق ولو عراس أخوي رح مشي”.

لكن التمرد والرغبة بالتجديد عند مسلَّم لا يقتصران على المستوى المجتمعي، بل أيضًا على المستوى الجمالي في الراب، الذي لطالما كان التمرد فيه عنصرًا رئيسيًا. يطرح مسلّم موضوع علاقته مع الموسيقى في أكثر من أغنية، منها بكتب بغني التي تتحدث مباشرة عن التأليف وكتابة الأغاني، ثم في ربابة يردد إن “هذه موسيقى للناس التمام مش للقطعان، يعني هذه موسيقة أحرار”. ورغم أن كلامًا مماثلًا قد يتهمه بالنخبوية إلا أن سياق الألبوم يبرئه من هذه التهمة، حيث أن مسلّم مهتم بالحفاظ على  فرديته والتواصل مع المستمعين الذين يشاركونه نفس الرغبة.

أغنية مسودة أرشيف فهي أشبه بملحمة كلامية استبطانية يصف فيها بشكل مفصل وخام مقاربته للموسيقى وعلاقته بها. من الصعب جداً أن يستطيع رابر الحفاظ على انتباه المستمع لمدة ثلاث عشرة دقيقة، نظراً لكمية الكلمات اللازمة خلال أغنية بهذا الطول، لكن ذلك ليس بمشكلة في هذه الأغنية بفضل تدفق مسلّم المتقن والمتنوع، إضافة إلى مقاربته الميلودية التي تتناغم بشكل ممتاز مع إيقاع غني ومليء بالتغيرات من الأركيديوسر.

في أغانٍ أخرى مثل ما بدي سلامك، وهي الأغنية الوحيدة غير المنتجة من قبل الأركيديوسر، يتبدل مسلم من المواجهاتية إلى النفور العدائي، حيث تأتي اللازمة “أنا ما بدي كلامك أنا ما بدي سلامك أنا ما بدي شوفك أنا ما بدي” على إيقاع المنتج عاصفة، معبرةً عن عدم اكتراث مسلّم للعلاقات الاجتماعية. تأتي بعدها أغنية ما ترن علي لتكمل ذات الفكرة لكن بنبرة مختلفة أكثر هدوءً ومساحة إيقاعيةً، إضافة إلى أداء مسلّم الأكثر غنائية.

مثلما ركز مسلَّم في الأغاني الثلاث الماضية على أسباب النفور والهروب، يركز في أغانٍ مثل اليوم امبارح على المهرب، حيث يشعر مسلّم بأنه “صايع”، لا يستطيع التمييز بين الأيام بسبب الكحول ومغامراته مع النساء، ليبين عن طريقة أخرى يجابه بها هذا العالم. يدمج مسلّم في أغنية سفالة بين الرومانسية والشجن المطعمين بالتهكم، خصوصًا عبر استخدام كلمة سفالة في العنوان وتكرارها في اللازمة عدة مرات، مقدمًا في كلا الأغنيتين المتعة أو الحميمية كملجأ، وهو طرح يتكرر في الخطوة الأخيرة كما رأينا.

إنتاجيًا، يضم الألبوم عدداً من الإيقاعات السلسة والغنية. زوَّد الأركيديوسر مسلّم بإيقاعات ملائمة لأدائه الكاريزماتي، سهلت عليه التنويع في تدفقه نظراً للترسانة الغنية من العينات الصوتية والموسيقية، إضافة إلى أذن موسيقية تجد التوازن المناسب والتناغم العضوي بين مختلف مكونات الإيقاع حسبما يتطلب من التراپ الراقص الذي يذكرك بأنغام TNGHT على أغنية ستنضنوا، إلى التراپ الأكثر فساحة في أغنية خاوة إلى الشرقي على إدوارد سعيد إلى الداون تمپو Downtempo في سفالة وما ترن علي والخطوة الأخيرة، إلى التقليلي في بكتب بغني.

هناك علامتان فارقتان في إنتاج الأركيديوسر ظهرتا في الألبوم، الأولى هي حبه للعينات الصوتية النسائية التي شكلت مع صوت مسلّم الخشن تناقضاً لافتاً وجميلاً، كما في خاوة حيث أجاد مسلّم التفاعل مع العينة الصوتية وإضافة نكهته إليها، وثانيهما تركيزه على القفلات Outros، حيث استعمل هذه المقاربة في أكثر من أغنية من إدوارد سعيد إلى ما ترن علي إلى بكتب بغني وغيرهم.

في الوقت الذي يصل فيه مسلم إلى الخطوة الأخيرة من رحلة هروبية إلى يوتوبيا حلول شخصية، نصل كمستمعين إلى خطوتنا الأخيرة مع ألبوم ينجح بتعزيز مكانة مسلّم في ساحة الراب العربي كرابر متفرد ومتنوع ومتمكن على المايك، يعرفنا خلال هذا العمل على عالمه ثلاثي الأبعاد المكون من كلماته وإلقائه من جهة، وأنغام وإيقاعات الأركيديوسر من جهة ثانية، وأخيرًا الجو الأخوي الشللي الناتج عن حضور كاز الأمم وكرست الزعبي والسنابتك والوسام وعاصفة ورامي جي بي وعامر الطاهر الذي عزز كثافة الألبوم وغِناه.