التبسّط اللغوي والتصعيد البكائي في الدعاء الشيعي

ليست ثيمة الحزن وحدها، مجرّدةً، هي ما يضفي تماسكًا غير قابل للانفصام على المتون السردية الشيعية، الدُعائية على وجه الخصوص، وإن كانت هذه الثيمة جوهرية من حيث اتصالها بالحدث الشعوريّ المؤسّس عند هذه الطائفة من المسلمين. على أن الذي يُحيي هذه المتون ويبقيها متماسكة هو سلسلة من الإرواءات الصوتيّة المندلقة في الأدعية. إرواءاتٌ بعضها ظاهر ومعروف وملموس وأغلبها مضمرٌ ولكنّه محدَسٌ بهيمنته على الذاكرة الجمعية في الأمكنة والزوايا والتكايا والدساكر الشيعية. وهو إرواءٌ صوتيّ يعيد قولبة الحزن الأصليّ أو شدّ السردية، لا بوقائع مادية تتصل بتاريخ المذهب على نحو الضرورة، ولكنه إرواء يشدّ المتون والأنفس المشتبكة معها نحو نقطة مجهولة في المستقبل، ونعني نقطة الخلاص الأرضيّة المهدويّة.

فالمتون الشيعية المناجاتيّة وإن كانت متماسكة على المستوى البلاغيّ، لكنها ليست آية في البلاغة إذا استثنينا كلام علي بن أبي طالب. إنها متونٌ جرى تداولُها في فترات اكتمال المدونات الشيعيّة الكبرى وما بعدها. دعاء الافتتاح، الذي يُقرأ في ليالي شهر الصوم أوّل كلِّ ليلة، ويُنسب إلى ابن طاووس عالم وفقيه من فقهاء الشيعة الإمامية، وهو من ذراري الإمام الحسن بن علي المجتبى، والإمام علي بن الحسين السجاد.، هو دعاء وردَ في مدوّنة لفقيه من متأخري فقهاء الشيعة هو عباس القمي. هنا، يصير شياع الدعاء فرعًا من تكراريته في الذاكرة والحاضرة الشيعيّة كعملية دوريّة لا يُكتب لها الاستمرار إلا في قوالب صوتية فائقة تلائم مضمون المتن.

في الافتتاح، نتحدّث عن متنٍ مناجاتيّ على نحو أوليّ وبديهيّ يأخذ من ثمّ طورًا في التصعيد الخلاصي عبر دخوله في سلسلة من الوصلات المتشابهة التي تشبكه بأئمة المذهب أو أصحاب الكساء أولئك النفر الذين اجتمعوا تحت الكساء عند نزول آية التطهير بشأنهم، وهم محمد وعلي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين.ومن ثم تحدث في أواخر الدعاء الحبكة الخلاصيّة المناجاتية في الدعاء للقائم المهدي، وفي التعويل عليه في شهر الصوم بأن يختم طور الانتظار المديد بالظهور.

عمومًا، لا تلمعُ الأدعية المناجاتية من خلال الطبقات الصوتية المفخّمة، بل هي أدعية تلائم، بقدر واسع، الأصوات المرقّقة الحادة التي يخيّل للمريد أنها جريحة. لكنه الجرح الذي لا ينبغي له أن يحيل إلى الاستسلام، وهو الجرح الصوتيّ المشبّع بالإلحاح على تكرار الصور أو الجملة المناجاتية على نحو تنغيمي كسير. يرفد، ذلك النمطَ، طبيعة المباني اللغوية المناجاتية التي تنحو في بعضها إلى كونها تكرارتٍ مديدة لتراكيب ولوازم في مدى ساعات، دعاء الجوشن الكبير أو دعاء المُجير مثلًا.

تنماز أدعيةُ السرديّة الشيعيّة عمومًا بنسبتها، مرسلةً أو متّصلة، إلى إمام ظاهر من الأئمة أو غائب مستور. يضفي ذلكَ خصوصيةً على المتن وقدرة على الشياع وتحفيزًا للمريدين للتفنّن في الانغماس والاشتباك النفسيّ بتلك المتون. فالافتتاح مثلًا يتّصل، سندًا، بأحد سفراء الإمام المستور الثاني عشر. بهذا، يكون النص مَتلوًّا على لسان إمام حيّ دائم، الأمر الذي ينعش السرديةَ خلال القراءة على نحو سحرانيّ فائق التصور، بمعنى أنّ كلّ قراءة ببُعديها الجماعيّ والفرديّ هي اقترانُ حيّ عن حيّ بالفَرجِ، والوعد المهدوي بالخلاص. بمعزل عن وظائف الأدعية باعتبارها ركنًا مؤسسًا في ليتورجيا الجماعة فإنها أدعية تحتمل، إذ تُقرأ على نحو دوريّ، شحنة عالية من الإحساس الفرداني بالأمان النفسي والذهنيّ لدى المريد. لا يتأتّى ذلك الأمان إلا من مقامات صوتيّة ضابطة للشعور ضمن المنحى القِرائيّ الخافت المكَسّر البالغ الخصوصية، الذي لا يستسلم للتفنن الزائد في تخريج الحروف أو تطويلها على نحو يفسد التبسط اللغوي والضبط البُكائيّ.

إلى كميل بن زياد

ينسب دعاء كميل بن زياد النخعي إلى إمام الشيعة الأوّل عليّ بن أبي طالب. يُقرأ الدعاء دوريًّا كلّ أسبوع من ليلة الجمعة. لا يطابق متن هذا الدعاء صيغ وأساليب علي بن أبي طالب اللغوية التي شاعت عنه في نهج البلاغة. ثمة تمايز لناحية بساطة هذه المناجاة وبُعدها عن غرائب وحوشيّ بحسب قاموس المعجم الوسيط: الحُوشِيّ من الكلام الغريب الوحْشِيّ. مثال: رجل يتجنّب حُوشيّ الكلام تراكيبِ ومفرداتِ النهج. ربما يفسر ذلك الشياعَ التلاواتي للدعاء عند الشيعة بالرغم من التباس السند، على عادة ما ينقل عن أئمة الشيعة.

يفترق دعاء كميل عن سائر الأدعية المتأخرة نسبيًا في كونه ذا فرادة أسلوبية ولناحية سياقاته الروحية التصاعدية، وفي كونه لا يؤشّر إلى سمة مذهبية من جهة عدم إيراده خصوصيات رمزية للشيعة من أسماء أو ثيمات خلاصية أرضية. على أنّ نسبته إلى عليّ من طريق شيعيّ تحتمل بحدّ ذاتها حساسيّة خاصة عند سائر الشيعة.

قفلة البكاء

لا يمكن بحال فصل الحساسيّة التلاواتية لدعاء كميل عن سائر الحساسيات الصاعدة من تلاوة الأدعية الشيعية. لكن هذا الدعاء يتمايز في كونه ذا سياق تصاعدي من الناحية النفسيّة صوب ذروة بكائية ليس بعدها خفوت، بمعنى أن ذروة المناجاة النصيّة هي بحدّ ذاتها قفلة الدعاء. هنا يصير من العسير على قارئٍ أو مريد الاشتباك مع هذا المتن، دون الانتباه إلى مستويات التصعيد المناجاتي.

بطبيعة الحال، لا يحتمل متن دعاء كميل خصوصية شيعيّة مثل كثير من الأدعية الشيعية التي لا تخلو من استحضارات المخلّص أو مناجاة الأولياء والأئمة. وهو إلى ذلك متن غزير لا ينحو صوب تكثير التراكيب المناجاتية المكررة بل هو، من تلك الوجه محكم يعكس على نحو حسيّ وشعوري حضور الإله على نحو حميمي. في هذا الحيّز تلائم ندرة التكرارات أو التطويلات السياق التصاعدي النفسي عند المريد، ويُفسَح المجال للانتقال من مقطع إلى آخر، أو من حالة شعورية إلى أخرى على نحو يلحظ التماس والتوتر النفسي العاطفيّ بين المريد وخالقه. “يا من اسمه دواء وذكره شفاء وطاعته غنى ارحم من رأس ماله الرجاء \ وسلاحه البكاء \ يا سابغ النعم \ يا دافع النقم \ يا نور المستوحشين في الظلم \ ويا عالمًا لايعلّم \ قفلة.

ينبوع المحنة

بمعزل عن الفروقات الأسلوبية والتركيبيّة في سائر أدعية المسلمين، سنيّة أو شيعيّة، فإن مزاج المتون يتّصل بمنبع أول هو صِيَغ النبي اللغوية المبكرة. نقصد بذلك حساسيات اتصاله مناجاتيًا بالخالق في أحواله كافة، سواء في المحن أو في أحوال اليسر والتبسّط. على أن السرديّة الشيعية في تصوراتها الخاصة للإسلام باعتباره محنة متّصلة، حتى في أثناء حياة المؤسس وما يلي موته الإشكالي، قد فاقمت مستويات الصيغ البكائية والمناجاتية إلى حدود تبدو كأنها هوامش موسّعة على محنة الرسول الأولى والكبرى.

يبدو ذلك جليًا عند مقارنة مناخات أهم تلك المتون، دعاء كميل مثلًا هو من أحد أبكر أدعية النبي، ونعني دعاء محنته في الطائف لما خرج النبي لدعوة ثلاثة من زعماء الطائف فرفضوه ورجموه هو وزيد.. يبدو الدعاء على قصره شحنة أولية ساطعة تنفذ لاحقًا في ثنايا معظم المصوّلات الشيعية. “أنت ربي ورب المستضعفين \ إلى من تكلني \ إلى قريب يتجهمني \ أو إلى عدو ملّكته أمري (…) إن لم يكن بك عليّ سخط فلا أبالي \ غير أن عافيتك هي أوسع لي \ أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له السموات والأرض وأشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة.

أسلوبيًا، يعكس نصّ الطائف النبويّ صِيَغًا أولية من الشكوى والانكسار والتسليم والبكاء في التراث الدُعائيّ العام. إنها صِيغ بديهيّة، بمعنى كونها ليست ذات مستوى تأليفيّ، بل يمكن اعتبارها كشفًا لغويًا وحدسيًا مبكرًا للحساسيات الدُعائية في أحوال المحنة. كشفٌ من شأنه ترسيم آليات القراءات المِحْنوية، بتصعيدها البكائيّ، فيما سيلي من المتون المؤلفة لاحقًا عند المذاهب والطوائف، بمعنى ضبط المناخات والأوضاع الروحانية في السياق الديني المناجاتيّ العامالمناجاة بما هي اتصال بين رب قريب وعابد مريد ممتَحَن.

لا تدين الأدعية المناجاتية بقدرتها على التأثير السماعي للفرادة الأسلوبية أو الصوتية من ناحية التلاوة فقط، بل هي تدين لمزاج روحاني يمسك بتلابيب المُريد الذي يكون قائمًا في ذلك المزاج. هو مريد موصول بالمناجاة عبر سماعه تلك الترديدات الداخلية المكسَّرة الحميمة، التي من شأنها وصل الفرد بالسياق الروحي الخاص للمناجاة، أو إذا صح التعبير وصله بالتصوّر السردي الخاص الذي انبثقت عنه المناجاة. فالسامع في مثل هذه الحال، هو ربيب السردية وهوَ، سماعيًا، طوع الإمام أو الولي لا، بالضرورة، طوع القارئ المحايث.

بهذا المستوى، نفهم، أخيرًا، قدرة ذبيحي أو أي مقرئ ذي لكنة أعجميّة على الشياع في أوساط من خارج بيئته الخاصة أو مجاله الثقافي / الاجتماعي الخاص. فذبيحي، ذو الطبقة الصوتية المتكسّرة، يشيع بشياع السردية الشيعية، بمعنى قدرة النص، المتلو بلكنة عربية مرققة حزينة يشوبها الإعجام، على رتق المريدين، إيقاعيًا، بالمحْنتين: محنة بواكر الرسالة وإيقاعها الأوّل مع النبي وأهل بيته، ومحنة انتظار الفَرَجْ وجهاد النفس بانتظار خلاص موصل بالثاني عشر من أهل بيت الرسول. بهذا المستوى نفهم اختصاص الشيعة الاثني عشريين المتأخرين بتأليف كتاب مفاتيح الجنان لعباس القمّي، الذي يجمع فيه كلّ أعمال الدعاء ويصلها بأهل بيت النبي باعتبارها مفاتِح للجنان وسبيلًا تلاواتيًا للخلاص.