.
من خلال مقابلتي للنشمي، لاحظت إصراره على استغلال كل فرصة للحديث عن جذوره البدوية ومن أين أتى، وخلفيته الاجتماعية والثقافية وكأنها البوصلة الوحيدة التي تحكم طريقه في الموسيقى وفي الحياة.
بدا فخورًا ببدويّته ومحتضنًا لها بشكل مثير للإعجاب، لكن في الوقت ذاته لا يخبّئ نفوره من ضيق هذا الانتماء حين يصبح عزلة، ولا يخجل من الاعتراف بأنه يريد المزيد، مزيدًا من الحرية والتقبل والانفتاح على حياة أوسع. تناقض برز عبر المقابلة التي استمرت لأكثر من ساعتين.
النشمي هو محمد عنتر، فنان صاعد من العريش في شمال سيناء، ولد في ليبيا لأب من العريش وأم تحمل نفس الخلفية البدوية، وعاش في بنغازي حتى بداية مراهقته ثم انتقل إلى مصر أثناء الثورة الليبية وسقوط نظام القذافي. يقول النشمي أنه لا يوجد فرق كبير بين العيشة في ليبيا والعريش، وكيف أن المدينتين اللتين يفصل بينهما ١٥٠٠ كيلو متر تقريبًا متشابهان في طرق المعيشة والحياة اليومية، إلا أن الثقافة نفسها تختلف من حيث الجذور.
وجد عنتر نفسه في بيئة يابسة موسيقيًا في العريش، عزلة شخصية وفنية فوق العزلة الجغرافية للمدينة، ليدفعه الإحساس بعدم الانتماء إلى المزيد وتبدأ ملامح مشروعه الفني في التكوّن داخل هذا الإطار الضيق.
برز عنتر في مجتمعه شخصًا غريبًا بسبب اهتماماته وشخصيته وما يريد أن يحققه. أراد أكثر من الحياة فبدأ مغامرته في صناعة الموسيقى التي عمقت انغماسه في ذاته وزادته إصرارًا وتفردًا في بيئته، “محدش كان قابل إني بغني، لا في البيت ولا في الشارع”، يقول عنتر.
بدأ اهتمام عنتر بالراب منذ ٢٠١٩، حيث انفتح على مشهد الراب المصري والغربي، ليبدأ بمحاولات بدائية لصناعة الموسيقى عبر هاتفه من برنامج باند لاب ورفع الأغاني على ساوند كلاود. رغم إنتاجه الغزير، لم يجد النشمي نفسه في هذا الجانب من الموسيقى، وكانت محاولاته بعيدة عن هويته البدوية، أقرب لمحاكاة تأثيرات خارجية: “كنت بحس اني مش حقيقي، كنت متأثر قوي بالراب والكلام عن الإيجو والفلوس وكل دا، مش دا أنا، ما لقتش نفسي” بحسب النشمي.
بدأ عنتر لاحقًا في إعادة التفكير في لغته الموسيقية، متخليًا عن اللهجة القاهرية وتأثيرات الراب الأمريكي، ومتجهًا نحو استخدام الفصحى والمفردات البدوية كبنية تعبيرية أقرب إليه. قدّم خليطًا من تلك التأثيرات وتجربته في العريش، مقلصًا الفوارق الثقافية بين ما يسعى إليه وما هو عليه.
غيّر اسمه من عنتر إلى النشمي، وهو مصطلح دارج في شمال سيناء يدل على الكرم والجدعنة، وبدأ مشروعه يتشكّل تدريجيًا ويكتسب خصوصية صوتية ومفاهيمية. لفت الأنظار إليه بإنتاجه الغزير، وبدأ بتكوين علاقات مع عدد من الأشخاص في المشهد القاهري، أبرزهم الصحفية منة شنب، كما يذكر، التي ساعدته على اتخاذ خطوة الانتقال إلى القاهرة.
كل الطرق تؤدي إلى القاهرة إذا أردت تحقيق أي نجاح فني. مركزية مثيرة للإحباط أحيانًا، وتجعل من العاصمة الوجهة الأولى والأخيرة لأي فنان، حيث تتمركز المواهب والمنتجون والعلاقات والاستوديوهات. حتى المدن الكبرى مثل الإسكندرية عاجزة عن خلق اكتفاء ذاتي يفضي إلى تكوُّن مشهد موسيقي مستقل، فكيف بالعريش؟ أدرك عنتر هذا مبكرًا، ولم يكن غريبًا عليه. ترك كل شيء خلفه، واتجه نحو العاصمة ليبدأ فصلًا جديدًا من مسيرته. كان واعيًا بخطورة ما أقدم عليه، لكنه يعرف تمامًا أنه لا طريق آخر.
“إحساسي كان صعب، كان فيه وحدة وخوف، بس كان لازم يحصل دا. كنت خايف من الفشل وكان فيه شكوك، كان فيه إحساس ان فيه حاجة هتحصل وانا وثقت في الإحساس دا.”
كانت الرحلة انتقالًا من مدينة حدودية تحت ثقل التهميش، إلى قلب المشهد الموسيقي المصري، بكل تناقضاته ووعوده. يصف عنتر هذه النقلة بأنها “مربكة، لكنها محررة”. لم يشعر بالانتماء الكامل في القاهرة، تمامًا كما لم يشعر به في العريش، لكن هذا الشعور المعلّق أصبح مع الوقت مادة خام لمشروعه.
وجد النشمي نفسه محاطًا بموسيقيين ومنتجين وأشخاص من صلب الصناعة. تعرّف على عاصم تاج، مدير أعمال ويجز ومؤسس شركة تي إم تي إم، عن طريق منة شنب وكان لهذا اللقاء أثرٌ حاسم. وجد عاصم في النشمي صوتًا مختلفًا وطاقة جديدة، وآمن بقدرته على تقديم شيء جديد من خارج المركز. ترجم هذا الإيمان نفسه إلى دعم فعلي، سواء من خلال احتضانه في محيط تي إم تي إم، أو من ويجز نفسه.
في زمن تتصدر فيه سياسات الهوية المشهد الفني، لا يريد النشمي أن يُختزل في هويته كفنّان من سينا، لكنه يصرّ على أن هذه الهوية، بكل خصوصياتها الصوتية واللغوية، جزء لا يُفصل عن تجربته. لا يتعامل مع خلفيته كمجرد إكزوتيكا تلفت الانتباه، بل كواقع يستحق أن يُعبَّر عنه. في أغانيه، يظهر هذا التوتر بين الرغبة في الحكي الشخصي، وبين إدراكه أن صوته محمّل بمعانٍ أوسع مما يقصده أحيانًا.
بعد أكثر من عام في القاهرة، يقترب النشمي من إطلاق أول ألبوماته، الذي يحمل عنوان إيش العمل. يصفه بأنه “سيرة ذاتية مصغرة”، لكن الألبوم هو محاولة لترتيب الفوضى الداخلية، ورسم خريطة شخصية تربط العريش بالقاهرة، وتمرّ بمحطات التكوين، بالحنين، بالغضب، وأحيانًا ببراءة الطموح.
يَظهر ذلك الطموح عفويًا في بعض اللحظات، إلا أن هذا الإيمان هو ما يدفعه للاستمرار. مشروع النشمي غير مكتمل الملامح بعد، لكنه يفتح طريقًا فيه الكثير من الأسئلة، والقليل من الأجوبة الجاهزة؛ وهذا ما يجعل تجربته تستحق الإصغاء.