.
ترجم المقال من الفرنسية هالة نمّر وناريمان يوسف.
في باريس، اعتاد شاب حسني زيارة أحد المنتجين الذي كان يتعامل معهم، وهو عبد القادر سكوب، في حي بارباس. كان رشيد بابا أحمد يقيم دائمًا في الفندق ذاته، ليكسبوزيسيون، على بعد خطوات من بلاس دي لا ريبوبليك. اغتيال رموز الراي هؤلاء تباعًا – في سبتمبر ١٩٩٤ وفبراير ١٩٩٥ – كان بمثابة نقطة تحول في مجال الأغنية الوهرانية. فقد اختفى نوع من الجودة أفسحت المجال لشبه الراي الذي يعيش اليوم في الأمسيات الصاخبة على كورنيش وهران، ولتنويعات عالمية تحيي الأمسيات الموسيقية للمراهقين المتعطشين إلى النكهة الشرقية في باريس ودبي وموسكو وبوسطن.
في مايو ١٩٩٤، كان حَسني في باريس. وكانت من أكبر معجباته مذيعة مشهورة لقناة إن إتش كيه اليابانية التي لم تُعن سوى بتصوير ثلاثة أشياء في مدينة النور: برج إيفل، وقطار تي جي في السريع، وموسيقى الراي الخاصة بحَسني. في حالة الأخير، كان على الفريق الياباني، ترأسهم نجمتهم اللامعة، العودة عدة مرات بابتسامة ودودة دائمًا قبل أن يدرك مُنشد الراي والحب أن قيمته في طوكيو لا تقل عن قيمته في باريس. فلنتخيل معًا سيدة في ثوب كيمونو تمسك الميكروفون في يد وبالأخرى تتعلق بحسني الذي تنتابه نوبة ضحك تمنعه من نطق التحية اليابانية. ولنتخيل هذا المشهد في قلب بارباس، بشارع دي لا شابيل، قبالة ما كان محل إم كيه سفن الخاص بعبد القادر سكوب.
كان اكتشاف حَسني في طوكيو وأوساكا من الأمور المثيرة التي حدثت له في ١٩٩٤. فمازلت أراه في شرفة جريدة ليبراسيون Libération، في انتظار شريط في إتش إس من برنامج تلفزيوني ياباني، لا يقوى على إخفاء قلقه: “واش ظنك؟ كنت غاية؟ ماذا تظن؟ كنت في حالة جيدة” وتكون تلك هي آخر الكلمات التي يتركها لك أكثر فناني الراي شعبية. يظل السؤالان عالقان منذ رحيل شاب حسني ومعه إجابتيه عن النقد الموسيقي. نعم، لقد تمكن حَسني من كسب الجمهور الياباني وهو جمهور يصعب إرضاؤه عندما يتعلق الأمر بالأغاني العاطفية. ثم إن هناك ذلك الصوت المألوف للجميع. في ذلك الوقت، كان خالد يتميز بصوت متكامل وعابس، في حين كان صوت مامي بلوريًا وثّابًا. أما صوت حَسني فكانت به تلك الذبذبات المعدنية الذي تكاد تتماهى مع الزايلوفون الأفريقي. فنجد أنفسنا مع ابن منطقة جامبيتا نستمع إلى ما يشبه مرثاة شرقية مغموسة في الحديد. يمكن القول بأن حَسني قد سار على خطى المغنيين العاطفيين crooneurs بالفرنسية، وبالإنجليزية crooners، أمثال توم جونز الذي قدم من مناجم ويلز ليصبح معبود الانجليزيات الصغيرات في الريف البريطاني.
يرنّ جرس التليفون مرّة أخرى بعد مرور شهرين منذ ذلك اليوم الحزين – ٢٩ سبتمبر ١٩٩٤ – حاملًا صوتًا سرعان ما تتعرف عليه؛ رشيد بابا أحمد في باريس عازمًا على أن يفاجئك. على بعد خطوات من جريدة ليبراسيون، على الجانب الآخر من بلاس دي لا ريبوبليك، وفي نفس ذلك الفندق ذي الاسم الغريب ليكسبوزيسيون، يستقبلك رشيد بنفس الشارِب والكاب والثوب. يبدو رشيد وِلد تلمسان مرتاحًا إلى كونه قد فتح مدينة سيدي بومديّن أمام فناني الراي الوهرانيين، ويبلغك أنه يعمل حاليًا مع شيخ يحمل اسم إبراهيم الرمشي، ويقول لك؛ وهو الشخص ذاته الذي ستأتي نهايته عنيفة يوم ١٥ فبراير سنة ١٩٩٥، أن بعد موت شاب حسني لم يعد هناك من يهتم بالراي في وهران بما أن من يؤدونه قد نفوا أنفسهم؛ ولكن أفضل المنتجين في الغرب الجزائري لا يزال مؤمنًا بحسن طالعه؛ كما لو كان مصرًا على بث بعض الروح في ذلك البلد المختنق بالعنف. ثم يُخرج رشيد من ظرف معه صورة ملونة لجيتار كهربائي، ويخبر الصحفي بصوت يغمره الانفعال والتأثّر: “هذا الجيتار كان ملكًا لـ جوني هاليداي Johnny Hallyday، ولقد سُرق منه في١٩٦٥ عند خروجه من حفلته في وهران. لقد عثرت عليه واشتريته وأحب أن أنظّم احتفالية لكي أردُّه إليه. لسوف تكون فكرة عبقرية إذا حدثت تلك الفعالية في صالة أوليمبيا بمصاحبة حفلة كبيرة للراي.”
فرصة ضائعة. تلك الاحتفالية التي كانت ستجمع بين جوني ورشيد في عقر دار الأغنية الفرنسية لن تحدث أبدًا. خلال بضعة أشهر يفقد الراي أحد أكبر رموزه في تلك الفترة، ثم يفقد مُنتِجه التاريخي؛ ويترك كل ذلك آثارًا غائرة، حيث يتحول الراي من نظام موسيقي مرتبط بحركة اجتماعية إلى ضرْب من موسيقى يتناقلها المجتمع، ويبدأ الجزائريون في الرقص على موسيقى الراي، ويتوقفون عن الاستماع إليها. لقد تفشّى الخوف إلى درجة فقدت معها كلمات الأغاني قوتها التعبيرية بسبب تعاسة الشباب الجزائري. لم يأت أبداً شاب مثل حسني يستطيع التعبير عن تناقضات العشق في المغرب العربي، كما يقول بحزن جارف “راني مرّة هْنا أُو مرّة لهيه“. ثم فقد الراي رشيد بابا أحمد، المنتج الذي روّج له بمثالية شديدة؛ فرشيد هو الذي سخّر كل الإمكانيات لتحويل الموسيقى الخاصة بصعاليك وهران إلى أعمال موسيقية عالمية. يجب ألّا نغفل أن في الاستوديو الخاص به في تلمسان، كان رشيد هو أول من دلّ على الطريق إلى العالمية في سنة ١٩٨٣ مع نسال فيك للثنائي فضيلة وصحراوي. وإذا كان ابن مدينة سيدي بومديّن لم يشارك في أولى فعاليات الراي على المستوى الدولي كالتي جرت في بوبينيي Bobigny وفي فيات في باريس سنة ١٩٨٦، فإنه قدم في ١٩٨٧حفلًا رائعًا في مهرجان شاتوفالون على مرتفعات تولون في فرنسا، وقام أيضًا بجولة موسيقية في ١٩٨٨ في أنحاء المغرب ستظل ممثِّلة لتاريخ قوي على مستوى العلاقات بين الشباب الجزائري والمغربي.
في شهر يناير سنة ٢٠١٦ سوف تشهد باريس احتفالات الراي بارتقائه الساحة الدولية منذ ثلاثين عامًا. وسيكون غريبًا غياب شخصيات تمثل الموسيقى الوهرانية مثل حَسني ورشيد؛ حيث إنه من المؤكد أن الأول بصفته مؤديًا، والثاني بصفته منتجًا، قد تركا بصمات مهمة على موسيقى الراي. من الأسباب وراء تورط الراي في باريس هذه الأيام في مسائل قضائية متعلقة بالتأليف الموسيقي وكتابة الكلمات قضية الشاب خالد وبعدها قضية الشاب مامي، أن أوساط الراي اليوم تفتقد ذلك الشغف والتفاني الذي كان يحرك أمثال حَسني ورشيد. يبقى على الراي سواء داخل أو خارج الجزائر التأمل فيما كان عليه وكيف أصبح؛ “كي كنت وكي ولِّيت.”