أجنبي جديد

من سيبتلع الآخر؟ | عن حفل الرولنج ستونز في كوبا

هيكل الحزقي ۱۵/۰٤/۲۰۱٦

إثر زيارة أوباما لكوبا، وبعد منع الروك فيها لـ ستين عاماً، لعبت الرولنج ستونز حفلاً أعلن انتهاء تلك الحقبة. تعاطى الإعلام الغربي مع الحدث كانتصار للبشرية، لا بل رفعه إلى مقام لحظة الثورة الكوبية نفسها، ثم رأينا في كوبا نسخة مطابقة لأي حفل روك يحدث في أي مكان من العالم، يحل كما هو ويعلو فوق ثقافة البلد وموسيقاها. عناوين الغارديان والإندبندنت ورولينج ستون[Mtooltip description=” المجلة” /] قدّمت الحدث بشكل يمحو أي تاريخية للموسيقى الكوبية خارج لحظة قدوم فرقة الروك البريطانية إلى هافانا التي لم يتغير عليها منذ الستينات سوى التجاعيد التي علت وجوه أعضائها. من المرجح أن مِك جاغر ورفاقه تهامسوا فيما بينهم قائلين: نحن أتينا إلى كوبا التي اغلقت عن العالم منذ أواخر الخمسينيات، فلنعزف لهم موسيقانا الستينية.

عناوين الانفتاح والعولمة كانت حاضرة بقوة في تغطية الخبر، وكأن كوبا قد قبلت أخيراً دخول الحضارة الإنسانية. يظهر الأمر بشكل جلي في تعليق آدام وِلكس[Mtooltip description=” متعهد حفلات الفرقة منذ ٢٠١٣ ” /] الذي ظهر في مجلة بيلبورد: “نحن نشهد عناقاً حميماً بين الشعب الكوبي والساحة الموسيقية العالمية.”

لنا الآن أن نتخيل ذلك الفم الأحمر الفاقع الذي اشتهرت به الفرقة يدخن السيجار الكوبي الفاخر، في موطنه. يذكرنا الأمر، وإن كان أقل عنفاً ودموية، بما حدث في أمريكا اللاتينية عندما قام بينوشيه بانقلابه في التشيلي. كانت أولى خطواته تحطيم أصابع فكتور خارا الذي قرر أن هنالك موسيقى عليها أن تختفي. على تلك الثقافة أن تنسحب لصالح ثقافة أخرى تتماشى مع الحقبة الجديدة التي أقدم عليها البلد.

لوجو رولنج ستونز الذي استوحاه المصمم جون باش من فم مك جاغر
لوجو رولنج ستونز الذي استوحاه المصمم جون باش من فم مك جاغر

لكن لكوبا موسيقى تحميها. موسيقى شوارعية بامتياز تتغذى من ثقافات إفريقية لاتينية في توليفة كاريبية فريدة نتج عنها إيقاعات الجواخيرا [Mtooltip description=” موسيقى ريفية تعتمد على آلات النفخ اللاتينية والإيقاعات الإفريقية” /] والكامبسيسينا [Mtooltip description=” موسيقى ريفية انتشرت بين الفلاحين الكوبيين قائمة بالأساس على الإرتجال” /]. اشتهر من مغنيه سيلينا غونزاليس والتشارُنجا [Mtooltip description=” تطورت عن الدانزون. حملها اللاجئون الهايتيون معهم إلى كوبا بعد الثورة التي اندلعت في بلادهم سنة ١٩٧١” /] والسون والرومبا.

سنتياغو دي كوبا | عاصمة الموسيقى الكوبية

في كتابه قراءة العالم، صوّر الكاتب والرحالة السوري خليل النعيمي كوبا من خلال حديثه عن سنتياغو دي كوبا[Mtooltip description=” مدينة ساحلية هي ثاني أكبر مدن كوبا” /]. كان لمدينة البشر والغبار على حد تعبيره رمزية مزدوجة، فقد كانت مهد الثورة الكوبية المسلحة، كما أنها شهدت ولادة أنماط موسيقية جديدة. “من هذه المدينة الخليط، انطلقت، أيضا، الثورة الصوتية: الموسيقى الإفرو – كوبية، التي تعتبر مصدراً أساسياً من مصادر موسيقى الجاز الشهيرة. هنا، نكاد نفهم لم انطلقت الثورتان من سنتياغو.”[Mtooltip description=” صفحة ٤٣-٤٤ قراءة العالم. خليل النعيمي ” /] لعل موقع سنتياغو، كونها أول موطئ قدم بحري لكوبا من جهة الشرق، هو ما جعلها مساحة تناكح للموسيقات القادمة من إفريقيا أو المستعمرين الإسبان والمهاجرين الأوروبيين. إنها وجه كوبا الموجّه للكمات العجوز الأوروبي، المشرّع من دون دفاع، ولذا فهي تحمل دوماً ندوباً وكدمات حضارية عرفت كيف تستوعبها ثم تتجمل بها.

تعيش سنتياغو دي كوبا على وقع موسيقى واحتفالات لا تنتهي. كل سنة تشهد المدينة كرنفالاً صيفياً ينخرط فيه الأهالي والموسيقيين القادمين من أماكن أخرى لإحياء ذكرى القديس سنتياغو أبوستولو. كل حي فيها يحتفي بالموسيقى عبر ساكنيه من ذوي الأصول الإفريقية أو الإسبانية، لتصبح الموسيقى فعلا جماعيا وممارسة يومية.

في تقاطع شارعي هيريديا وسانت فيلكس بسنتياغو يوجد مقهى La Casa de Trova الذي كان ملتقى لموسيقيي التروبادور، وشهد سطوع التروفا[Mtooltip description=” Trouva” /] على يد رافاييل سالسيدو منذ منتصف القرن التاسع عشر. من أشهر موسيقيي التروفا مانوال كورونا وسيندو غاراي وماريا تيريزا فيرا التي اشتهرت بأغنية Veinte Anos.

كانت سنتياغو أيضا حاضنة للسون والبوليرو ذات الجذور الإسبانية. هنالك اختلاف حول تاريخ ظهور السون. البعض يرجعها إلى حقبة قريبة، فيما يذهب آخرون إلى سنة ١٨٥٠ وثيودورا خيناس عازفة السيستر[Mtooltip description=” Cistre” /]  القادمة من جمهورية الدومنيكان مع أغنية Son de ma Teodora. الإشكال سببه اعتقاد بعد المؤرخين أن الأغنية أُلفت بعد وفاة المغنية واحتفاء بحياتها، ولذلك نفوا الارتباط بين عنوان الأغنية وتسمية السون.

من جهة أخرى، يتفق أغلب المؤرخين والمهتمين بعلوم الموسيقى على لحظة تاريخية مهمة في نشأة السون بسنتياغو تمثلت في قدوم نينو منفوغاس من غوانتانامو إلى مهرجان سنتياغو واحتكاكه بموسيقيي التروفا سنة ١٨٩٢. نينو كان عازفاً لموسيقى تسمى التشانجي ظهرت حوالي سنة ١٨٦٠ في حقول قصب السكر في المنطقة الجبلية المحاذية لغوانتنامو والتي اشتغل فيها العبيد الأفارقة. يعتبر التشانجي مزيجاً معتدلاً بين الجيتار الإسباني والإيقاعات الإفريقية، أي أنه وفّق بين موسيقتين من ثقافتين، إحداها استعمرت الأخرى. عزف نينو التشانجي بشكل مغاير ليشكّل بذلك ملامح بدائية لموسيقى السون مع ميل واضح للعنصر الإفريقي فيها. استغلت هذه الحركة ديناميكيات معينة في كل موسيقى وفتحت مساحات تفاعل فيما بينها، مما سمح بظهور أشكال أخرى أكثر نضج وثراء، دون أن تقوّضها ثنائية مستعمِِِر/مستعمَر.

نتجت الموسيقى الشعبية الكوبية إثر استقدام العبيد الأفارقة أثناء فترة الاستعمار الإسباني لأمريكا اللاتينية، فامتزجت الإيقاعات الأوروبية التي جلبها الإسبان بالموسيقى الإفريقية وأنتجت السون في شكلها المبكر. نشأت السون في الضيعات المحيطة بسنتياغو والجبال التي تطل عليها، حيث دأب الفلاحون وعمال الحقول على حمل الجيتار وتداول الأخبار على طريقة شعراء التروبادور القدامى. اكتسبت السون شعبية واسعة إثر موجة التغيير التي سبقت ورافقت استقلال كوبا من الاحتلال الأمريكي[Mtooltip description=” عقبال عنا” /] في بدايات القرن العشرين وتأسيس الجمهورية التي نعرفها اليوم.

لم تغادر السون الحاضنة سنتياغو وجوارها إلى أن جرفها الزخم السياسي أكثر من ٧٠٠ كلم إلى هافانا، وطبعها بحمولة سياسية واجتماعية. إثر سياسة التجنيد الإجباري سنة ١٩٠٩، تمكّن الجنود الهافانيين من القدوم إلى سنتياغو في ظل حكومة خوسيه ميغال غوماز الذي عمل على نشر الجنود فوق كامل التراب الكوبي خشية وقوع أزمات وبغية السيطرة على مفاصل الحياة اليومية. عند عودتهم حمل الجنود ذلك الإرث معهم إلى العاصمة هافانا. كانت تلك مرحلة أولى في رحلة موسيقى السون إلى هافانا، ولكن الإستقرار النهائي لتلك الموسيقى في العاصمة الكوبية تزامن مع حركة معاكسة إثر تنقل الجنود السنتياغووين إلى هافانا، والذين كان من بينهم موسيقيين مثل إيميليانو ديفول وماريانو مينا لعبوا دوراً مهماً في نشر السون في العاصمة الكوبية. لم تكن هذه السياسات الحكومية السبب الوحيد في حركة تنقل السون من سنتياغو إلى هافانا، إذ ساعدت أيضاً هجرات اليد العاملة الفلاحية إلى العاصمة. في هافانا، أصبح السون أسرع إيقاعاً ووتيرة، لينضج شكله الفني التقليدي مع أواخر العقد الثاني من القرن العشرين مع فرقة سكستتو هابانيرو:

من هناك انطلقت السون إلى باقي أطراف الجزيرة عبر الراديو والحفلات، فوصلت إلى ماتانزاس معقل الدانزون والرومبا التي نشأت في موانئها بشكل عفوي خلال التجمعات الليلية. الرومبا إيقاعية بالأساس، تعتمد على طبول ذات أصول كنغولية تسمى الكونغاس، وهي تعتبر الشكل الفني الكوبي الأكثر تعبيرا عن تداخل موسيقات أندلسية وإفريقية.

تعد السون الأكثر مرونة من بين موسيقات أمريكا اللاتينية، إذ نجحت في صهر المكون الإفريقي لإيقاعاتها مع الموسيقى الأوروبية التي استقدمها الإسبان. كما يعتبر كثيرون أن موسيقى السون هي جدة السالسا. يعد المكون الإفريقي النواة الأساسية لموسيقى السون، على عكس البوليرو ذات الجذور الإسبانية والتي نشأت في ساحات سنتياغو وتأثرت بإيقاعات السون والدانزون. أغنية لاجريماس نيجراس التي كتبها ميغال ماتاموروس سنة ١٩٢٩ تعد الشكل الأكثر تعبيراً على ذلك التمازج بين السون والبوليرو.

لاقت الأغنية رواجاً وتغلغلت في الذائقة الشعبية الكوبية لتصبح من الفلكلور، حيث استعادها العديد من الفنانين والفرق ودأبوا على عزفها مثلما يظهر في هذا الفيديو مع مغني الشوارع ميغال دي موراليس الملقب بالديك، في فيلم كوبا فاليز، وهو عنوان مأخوذ عن أغنية لأرماندو ماشادو تحمل نفس التسمية.

لم تكن موسيقى السون الوحيدة التي تعرضت لتأثير الأحداث السياسية والإجتماعية التي هزت البلد، فالتروفا تكيفت مع الزخم السياسي واكتسبت جماليات جديدة، مثلما حدث بعد الثورة، حيث ظهرت موجة النويفا تروفا التي تأثرت بنظيرتها التشيلية نويفا كانسيون التي اشتهر بها فيوليتا بارا وفيكتور خارا. تميزت هذه الموجة ببحث جمالي أكثر في الاختيارات الشعرية. يعتبر سيلفيو رودريغيز رائد هذه الموجة:

إلى جانب بابلو ميلانيس، شكل سيلفيو مشهد النويفا تروفا في كوبا الجديدة التي تشبعت بروح الثورة:

أنصفت الثورة بعض الوجوه الفنية الصاعدة ومثلت إنطلاقا لموجة موسيقية جديدة، إلا أن لعنتها لاحقت أصوات أخرى مهمة مثل سيليا كروز التي عرفت في أداء ألوان مختلفة كالسالسا والرومبا والسون. إثر معاداتها لنظام كاسترو، هاجرت سيليا إلى أمريكا ومنعت أغانيها من الإذاعات المحلية. عرفت فيما بعد بأعمالها مع جوني باشيكو من جمهورية الدومينيكان:

بعد الثورة الكوبية، أُغلقت عدة ملاهي ليلية كانت ملاذاً للسياح الأمريكيين الذين يأتون إلى هافانا للشرب خلال فترة حظر المسكرات في أمريكا. كان ملهى بوينا فيستا سوشال كلاب من هذه التي تم إغلاقها. كان الملهى ملتقى مهما للموسيقيين خلال أربعينيات القرن العشرين قبل غلقه بفعل الثورة، لذلك قرر بعض الموسيقيين الذين عزفوا فيه كإبراهيم فيرير التعاون مع المخرج الألماني فيم فندرز وعازف الجيتار الأمريكي راي كودر لإحياء تلك التجربة[Mtooltip description=” عندما قدم المخرج الألماني بصحبة الموسيقي الأمريكي في التسعينيات، كان الهدف إلقاء الضوء على موسيقى النادي الذي أغلق في الثورة وتسجيل ألبوم لإبراهيم فيرير.” /]. كوّن عازف الجيتار الأمريكي بصحبة الكوبي خوان دي ماركوس غونزاليس فرقة سميت بإسم الملهى الشهير وتم تسجيل ألبوم خلال ستة أيام فقط. شهدت الفرقة انضمام المغنية أومارا بورتووندو التي عرفت بأداء أنواع عدة كالسون والبوليرو والجاز. عزفت الفرقة أغان عديدة من مختلف ألوان الموسيقى الكوبية واشتهرت عالمياً:

نجاح بوينا فيستا سوشال كلاب لا ينفي سقوطها في فخ تصنيف موسيقى العالم الذي يطمس تفرد الموسيقات المحلية لصالح نموذج استهلاكي ضحل، يقدم الموسيقى كمنتج غرائبي قادم من أماكن بعيدة مغلقة. كما أن من الإجحاف اختصار كوبا في لون موسيقي واحد، كأن نقول بأن السون هي الموسيقى الشعبية أو أم كل الموسيقات هناك. بذلك نكون قد تناسينا ذخيرة موسيقية واسعة ومتنوعة فيها التروفا والرومبا وموسيقات أخرى نشأت على الجزيرة وانطلقت معظمها من سانتياغو دي كوبا.

تعلمنا كوبا كيف يحصل المزج الحقيقي من دون تكلف ودون اتباع خطة تسويقية. في كوبا انصهر الوجود الإفريقي الأسود مع الفلكلور الإسباني في إيقاعات الرومبا والسون، وتكيفت حمولة الهايتيين المثقلة بالألحان والموسيقى مع المناخات الإيقاعية للدانزون فنتجت التشارينجا. إيقاعات مدن كوبا، موانئها، شوارعها الرطبة بهواء الكاريبي، حقول قصب السكر، أهازيج العمال والفلاحين، رقصات الرومبا والدانزون، كلها لعبت دوراً في تشكيل موسيقى نسمعها في شوارع كوبا وحياتها اليومية.

هل يبتلع الفم الأحمر كوبا؟

ظلت الموسيقى الكوبية في حركة مستمرة منذ أوائل القرن العشرين، واستوعبت الأحداث التي مرت على الجزيرة في إيقاعاتها وأنغامها. من خلال تلك الديناميكية التي اتسمت بها حركة انتقال الموسيقى بين أطراف الجزيرة، والتوليد المستمر للأجناس الجديدة عبر استيعاب الثقافات القادمة من بعيد والزخم السياسي والإجتماعي للبلد، اكتسب المشهد الموسيقي في الجزيرة مناعة ضد خطر الطمس والتحديث الإلزامي. لهذا، فإن قدوم الرولنج ستونز – الذين لم تتغير موسيقاهم منذ الستينيات – إلى كوبا لإحياء حفل روك صاخب هو أشبه باستفاقة أهل الكهف، ليجدوا أن العالم قد تغير من حولهم بينما يدندنون ألحانهم على وتر واحد.

كوبا أكبر بكثير من الروك الستيني ومن كل ظواهر النكروفوليا الموسيقية، ولو أراد أحدهم إبتلاع الموسيقى الكوبية داخل ماكينات الإنتاج الموسيقي الحديث، فليبتلع أولا شوارع الجزيرة ومدنها، غاباتها وأحراشها، شواطئها وموانئها. لتلك الموسيقى ارتباط عضوي بالمكان لم تقدر رياح الغزو الإسباني على اقتلاعها ولا كم الثقافات التي مرت على البلد ولا حتى العزل عن العالم الخارجي الذي تعرضت له الجزيرة.

لا شيء يستطيع محو الإرث الموسيقي لكوبا حتى وإن كان العنوان قدوم الرولينج ستونز إلى هافانا الذي تصدّر كل الصحف، بما في ذلك صحيفة جراندما الرسمية في كوبا، التي التي أخذت اسم القارب الذي حمل كاسترو وجيفارا ورفاقهم إلى الجزيرة الكوبية قبل الثورة.

الدو

المزيـــد علــى معـــازف