.
صورة غلاف المقال لحسين بيضون.
كم مجازًا سنركّب فوق جثة علي، وقبله حسين وعلاء وفواز، والمدينة الميتة والمشاعر الميتة والإرادة الميتة والمستقبل الميت؟ كم قصيدة سنهدر بعد في الشكل ومن أجله وعلى مذبحه؟ كم شكلًا هندسيًا باستطاعتنا بعد أن نستنبط من تكدّس الظلم والجريمة؟ كم خريطةً لهلاكنا المتمدد؟
عند مفترقاتٍ خطيرة من التجربة الثورية بعد ١٧ تشرين في لبنان، اتخذت المسائل الشكلية حيزًا صادمًا من جهود ونقاشات المجموعات الميدانية. انقسامات حول عَلَم، مقاربات تراجي-كوميدية للمظلومية الطرابلسية، مشادّات ملحمية حول مظاهر أيديولوجية، خلافات هوائية لا ترتكز إلى أي سياق في الممارسة.
في المقابل، تحرّك ما يسمى بـ الرأي العام، غير المنخرط ميدانيًا، على خطّ من الاتهامات ونقيضها للشارع الثوري. اتهامات قائمة على شكليات يتم تضخيمها في الزمان والمكان: من يموّلكم؟ كيف ستسقطونهم من دون تمويل؟ من قائدكم؟ لماذا تسمحون للمتسلقين بقيادتكم؟ لماذا العنف؟ كيف ستنتزعونهم عن كراسيهم دون عنف؟ أصبحت هذه الاتهامات دوّامة عبثية تعنيفية أنهكت الكثيرين.
تبدو هذه النزعة الشكلية إلى الشلل كنسيج تتسلل منه الآلية السلطوية، إما عبر فرض خريطة الماضي وتصوراته، أو عبر الأدوات الدعائية المباشرة للسلطة في الحكم والمعارضة. نلامس كل شيء إلا المسألة. نحن خارج واقعنا، رمتنا سرابات الحداثة إلى هاوية الشكل، من هناك يمكننا حتى أن ننتقد الحداثة نفسها. لا بأس طالما الأمر شكلي. أوليس الشكل ذروة نقاشاتنا الثقافية وسقفها؟ شكل الدماء وشكل الفساد، شكل المجتمع، المدينة، العبارة، الموسيقى، الحزن، الإيمان، الحب، التغيير، الثقافة، الثورة؟
إن الانقياد خلف المسألة الشكلية هو الارتكاز على المتحول في أي شيء، وإغفال الماهية التي تحمل في ثباتها قواعد هذا التحول وآلياته. النظر إلى الشكل يعني ملاحقة تحولاته كتسلسل لحالات ثبات متراصّة. أما الدخول في الماهية فيعني التنقيب داخل التحولات الشكلية عن الباطن الثابت الذي يتجلى في تحولاته. وكلما انكشف لنا باطن ثابت، تنطلق مسيرته نحو عودته في إدراكنا إلى كونه شكلًا متحولًا، حتى يصير له بدوره باطنٌ موجبٌ للإظهار.
بمعنىً آخر، يتمدد السؤال الشكلي على السهم الزمني، ويبقى عند عمق واحد لمستويات الحدث، فيما يبحث سؤال الماهية عن الحركة داخل طبقات الحقيقة من مستوى إلى آخر، حتى يميل السهم الزمني أكثر فأكثر إلى شكل النقطة. لذلك، يحتوي سؤال الماهية بالضرورة على مسألة الشكل، فيما ليس العكس صحيحًا.
يطرح سؤال الماهية نفسه كمقاربة نقدية بالضرورة، فهو يضع الحدث وجهًا لوجه مع تاريخه، بينما يقتصر التفكيك الشكلي في نهاية المطاف على المقابلة بين الحدث وعبثيته، بل وعبثية كل حدث.
إن الإدراك الشكلي للبيئة هو إدراك الذكاء الطفولي، وهو في ذلك غير قادرٍ على أي تصوّر للآخر كواحدٍ كائنٍ بذاته. ولو بدى مستغرقًا في تفكيك شكليات هذا الآخر وربطها بتقييمات إيجابية أو سلبية، فإن أقصى إمكانيات الترابط المتاحة للإدراك الشكلي هو الترابط المصلحي. بالنسبة للعين الشكلية، لا يمكن لمعنى الآخر أن يبقى معلقًا رهن التجربة، بل يجب أن يكون منوطًا بوظيفته في سلم احتياجاتها المسبقة التعريف.
مشهدية العين الشكلية بين الجنة والنار، آيلةٌ دومًا إلى الخيال الأبوكاليبتي، لأن الرحمة من اللطائف الخفية وشكل الحياة آيلٌ باستمرار إلى الفظاعة. الأفق الثابت لكل مسائل الشكل هو منظر التهالك والموت. هذه العين لا ترى إلا المثالية أو العنف، وفي كل تجلياتها مقدار من التعنيف لا تعيه، لأن الآخر كواحد قائم بنفسه مفهومٌ أبعد من حدود إدراكها، بل ليس في إدراكها سوى مشروعٍ حتمي لتهالك وظيفته وموتها.
ما الغاية فعلًا من سؤال الماهية؟ ما المنتهى المنشود لنهج إظهار الباطن، إذا لم يكن له مستقرٌ أو آخر يدخلنا في الإدراك المكتمل لحقيقة الأشياء النهائية؟ إن التداخل الحميم ولا تناهي الأبعاد المعقولة بين كل شاهد ومشهد يلغي إمكانية الحقيقة النهائية. إذا نظرنا إلى مسألة الحقيقة على أنها نزعة أو وجهة، فإلامَ؟ هي القوة المقابلة لنزعة الموافقة والامتثال. هي استفاقة الذات (الفردية أو الجماعية) على قضية مصلحتها من باب “صحيح إنه؟” وهنا ارتكاز فكرة الحقيقة، في كونها نزعة انقلاب على كل حقيقة / واقع تفرض نفسها من فوق، لا في كونها حقيقة نهائية كائنة بشكلها.
يصطف نهج إظهار الباطن مع ماهية الحقيقة كنزعة انقلابية، وهو لذلك مشروط بالشهادة المنخرطة في الفعل، ولا يتحقق بالنظرة المتنصلة. ما يقدمه لنا هذا النهج إذًا هو الأداة المركزية لأيّة آلية ثورية: الانقلاب على السلطة، عبر الانقلاب على الشكل في كل تجسدات الحياة الإنسانية. معركة السيادة.
سؤال الشكل: كيف نسقط النظام؟
سؤال الماهية: من نحن؟ ما هو النظام؟ ماذا نريد؟
هنا مثلًا، سيضيع سؤال “من نحن؟” بين شكلية “نحن الشعب”، وواقع التشتيت والتفتيت والنقمات وتفرع النغمات، وبين معزوفة مثالية وواقع مأساوي لا نجرؤ على مخاطبته. نتزحلق بخفة إلى الدوران الأبدي داخل سؤال الشكل. داخل الشلل. لأن ابتداء الفعل بسؤال الكيفية ضمانة عدم تجسّد الفعل، من حيث أنه ربط الغاية بالمتحوّل حتمًا. هكذا يصبح النهج تكرار السؤال نفسه مرة تلو مرة، وإرجاء الصيرورة إلى أجلٍ غير مسمى.
في الهوس الشكلي تكون المثالية ستار الإرجاء، وما المظلومية إلا مثالية قَلَبَها فشلها رأسًا على عقب. هكذا يحمي الهوس الشكلي نفسه من ضرورة النضوج إلى سؤال الماهية، كطفلٍ عجوز لا يرى في أمه سوى ثديٍ يطعمه وآخر يحرمه، وبين بكائه ورضاعته المتأخرة عقودًا يبقي نفسه إلى الأبد المفترَض في دفء الحضن الأول، لا يدرك لأمه شخصًا ولا لنفسه ولا لأحد.
الصعوبة تبدأ هنا، والفعل كذلك. ما الذي يجعلنا جماعة؟ الصدمات المشتركة وتقاطع الآلام؟ ليس كافيًا لا في السياسة ولا في الحب. المشروع المشترك؟ الوجهة الواحدة؟ ألا يعني ذلك اشتراك الظروف الواقعية المولدة؟ أنعود إلى خريطة المناطق / الطوائف التي فرضت نفسها على واقعنا المادي وجدلياته؟ أنحاكي طائفة الفهمانين المنشغلة بانعكاس شكلها في المرآة؟
طائفة الفهمانين هذه موغلة في هوسها الشكلي، كونها أصلًا متكوّنة على أسس شكلية بحتة في مخالفة السائد المجتمعي. غالبية هذه الأسس مقتصرة على المعايير الشكلية للصورة المفترضة عمّا هو حديث ومعاصر، في المزاج، في الإيحاء، حتى في الأدوات، لكن في التماثل لا في المعنى. وأي معنى للموقع الفاعل في الحداثة وروح العصر إلا ذلك الذي يثمر بناءً حثيثًا ويعيد أنسنتنا من جديد؟
إن سؤال من نحن؟ كسؤال في الماهية، يحيل مباشرة إلى سؤال الموقع، وبذلك فإن قضية الجماعة تخرج من كونها عنوانًا خاويًا لأفراد ينتمون بمعايير شكلية إلى شكل هوياتي نسبي، مثل التمرد الشكلي لـ طائفة الفهمانين، أو الامتثال الشكلي لمعشر الوطنيين. كلّ تلك الشكليّات نافلة، لا يحسب لها حساب في سؤال ماهية الـ نحن، حيث لا يزنُ سوى الترابط الوجودي في معركة البقاء، وما يُبنى عليه من ترابط معرفي.
بمعنى آخر، تحمل فكرة الاختصاص (في النشاط السياسي التقدّمي) في طياتها بذور الفشل المتكرر في التأسيس للفعل السياسي الجماعي المؤثّر، لأنه لا يمكن لها أن تبني من الجماعة إلا شكلها، في غياب السياقات المشتركة للإنتاج الثوري. أقصد بالإنتاج الثوري عملية صناعة أغراض ماديّة متاحة في المجال العام على أساس: تحرير أدوات الإنتاج من ملكية الطبقة المهيمنة، التزام مقاييس المسؤولية الجمعية والعدل في ماهية الغرض المصنوع، وإعادة توزيع أي امتياز مادي أو معنوي متأتٍّ عن تداول المصنوع في المجال العام، بما يرفع مستوى التمكين الاقتصادي لكل فرد منتج. أوليست المسافة مرعبة بين الثورية الشكلية المعروضة في المجال الرمزي، وبين ما أسميناه الإنتاج الثوري؟
ربما لأنه من إغراءات الشكلانيّة في هذا السياق، أن الحداثة سمحت بتداول الشكل الثوري في سوق الرصيد الاجتماعي كأمرٍ قابلٍ للرسملة، دون أن يكون الشكل الثوري ملزمًا لأي تجسّد على أرض الواقع. الحداثة، في استخدامي هنا، ليست إشارة إلى مرحلة معينة من تطور الثقافة الغربية، بل هي شبكة الآليات والمفاهيم السائدة على المستوى العالمي، والتي تتحرك بحركة التحالفات المتسلطة على العولمة، ورؤيتها لمصلحتها.
ونحن في حداثتنا المعاصرة، التي تغرق الحقل السياسي بالأشكال التكتيكية دون الاستراتيجية، وتغرق الحقل المجتمعي بالإلحاح التعبيري دون الإنتاج التراكمي، نرضخ لثقافة قد تذهب إلى تقديس الصورة الثورية، وشلّ كل إمكانيات العمل الثوري في الوقت نفسه.
سؤال الشكل: هل تحبني؟ كيف تحبني؟
سؤال الماهية: من أنت؟ من أنا؟ من أنا وأنت؟
إن السؤال الأول حبسٌ في لحظة أولى تُشيّد صنمًا يصبح معيارًا لكل شيء. إما أن يكون فيك ما يطابق احتياجي، أو لا يكون للحب مكان. أما السؤال الثاني، فهو شروع في فعل بناء طويل على قاعدة خيارٍ واعٍ باستقبال الصدفة وتنميتها. فيما تولد الصدفة عند العين الشكلية في السؤال الأول لأنه السؤال المصلحي، وهو امتحان للمحبوب، تولِّد هي نفسها، عند عين الماهية، إعادة اكتشاف للذات مقرونة بانجذابٍ عنيف إلى معرفة المحبوب.
كذلك في الثورة والسياسة، هوّة شاسعة بين نهج الاختراع الجدلي المتواصل للذات في العلاقة مع الواقع، ونهج الاختبار المستمر لمدى المطابقة بين إمكانيات هذا الواقع، والصورة المفترضة في رأس الفهمان(ة) عن سيناريوهات الخلاص.
وحده الإصرار يجاوز الشكل إلى الماهية. في لحظة انكسار حلقة التوبة، إما بالتكبر وإنكار الخطيئة الذاتية أو بالتكبر وصدّ الاستتابة، ينقطع الوصل الإنساني وتتجمدّ الصيرورة في جثة الشكل. لأن الخطيئة مسافة مشتركة لا محالة، ولا سبيل إلى البراءة الذاتية في ظل الخطيئة المشتركة. اللهم إلا بالهوس الشكلي الذي أدمن النظر.
النظر انسلاخٌ للناظر عن المنظور، أما السماع فاستقبالٌ وصلة. هذا ما نجرّبه كل يوم في ثقافة التشتت السائدة، حيث تكون محظوظًا إذا سمعك أحدهم بإنصات لأكثر من ٣٠ ثانية متواصلة، فتتكدس الجدران وتشوهات الخطاب بيننا، وتضيع حقيقة المقولة في مسلخ الصورة، معبد ما بعد الحقيقة حيث لا يستمع أحد إلى أحد. يسهل على واحدنا أن يستثني نفسه من أحكامه على الآخر، وكلنا في خدمة الشكل.
ها هو السالخ، شخصه إلى فوق، يرى نفسه مشاهدًا لشريط تكرار ممل لا ينتهي. يظن أنه رأى كل شيء في الشكل المفعم بالموت. طبعًا. لأنه لا يمتلك الأدوات الكافية للشهادة. والشهادة، بعكس النظر، تتطلب الانخراط في الفعل الذي يبدو عبثيًا للطفل العجوز. ومن هناك، من داخل الفعل، يتكشف ما هو حديثٌ ومُضافٌ إلى حركة التاريخ، وتتكشف طفولية مجاذيب الشكلية ومساليبها في أن منظر التكرار ليس سوى انعكاسًا للتكرار الذي قبلوه في نفوسهم، بل هم معجبون به وهو يخنقهم، بينما يقذفون أثقال قلقهم خارج أجسادهم أمام المرآة، متحولين شيئًا فشيئًا إلى ماكينات لتصريف العنف.
ها هي الشكلانية تغازل بذروة الفيتيشية، أحفورًا سياسيًا يجلس فوق عقود من الانخراط في قذارة السلطة، لأنه حافظ على شكلية اعتراض لم يكن لها يومًا أي قيمة مثمرة غير كونها شماعة ديموقراطية. هو نفسه الهوس يشن حروبًا لا تنتهي داخل فقاعة أصدائه الصغيرة على الذين يبذلون وسعهم كل يوم للنجاة، للمشاركة في تغيير واقعهم، لأنه يراهم تهديدًا بلا وجه لآليته المرفّهة في حبس الشكلية. وهي مرفهة لا شك، من حيث أنها تستطيع تحمّل التكاليف المادية الوجودية للشلل في نفسها ومحيطها.
في النقد الموسيقي، تُحيل المسألة الشكلية حتمًا إلى واحد من منتهيين: إما سياقات السوق ومعاييره، أو سياقات الماضي، أصيلةً كانت أم بديلة، وذلك يبدأ من لحظة السؤال عن نوع الموسيقى. بينما يتيح سؤال الماهية في النقد الموسيقي فرصة الانعتاق من شبكة الظروف والمفاهيم التي أنتجت المعايير القائمة، نحو إمكانية إعادة تعريف الفعل اللغوي النقدي والموسيقي معًا، من خلال المنقود، ونحو إعادة تعريف فعل الاستماع أيضًا.
مقابل المسألة الشكلية في النقد الموسيقي، تقع نظيرتها في الصنعة الموسيقية، وتتحرك وفق جدلية مشابهة. فالصنعة الموسيقية المبتدئة من تصوّر لشكل، تحدّ الصانع(ة) داخل الثنائيات التي يفرضها الشكل السلطوي، لأنه المسيطر الفعلي في المخيال الشكلي. أما الصنعة المبتدئة من حقول ما وراء الشكل، فتنطلق من المخيال الجمعي العام المفتوح الذي هو أكثر بركانية وحيوية من آليات القمع والتماثل.
هنا تحديدًا، نلمس معنىً مشبعًا للفعل الفني، في أنه يستمد من المخيال الجمعي مقدارًا كافيًا من الجنون للتفلت من سيطرة السائد على حقول الرمز والواقع معًا. وفيما ترى عين الشكلية عبقرية الفعل الفني في التلاعب الفردي بالانماط الشكلية، تراها عين الماهية في مستويات الانفتاح والتدفق بين المخيالين الفردي والجمعي.
لقد أدى الهوس الشكلي في المجال الموسيقي إلى تشكل قطبية حادّة بين كتلتين: كتلة الشكل السائد، وكتلة ضد الشكل السائد، وهي نتيجة قلبٍ بسيط لمعادلات الكتلة الأولى. إن النسق الضديّ هذا لا يفلت من الحبس الشكلي، لأنه مبني على أولوية المسألة الشكلية، وإن فعل ذلك بالمقلوب. واقعيًا، لدينا من جهة ابتلاع البوب لكل الأنواع الموسيقية وسيادة الوصفة الرائجة، مقابل موسيقات سوبر-أقلوية تعيد بلا هوادة تشكيل منظر الأفول والتهالك، والعبث. حتى أن هذه الموسيقات تتقاطع فعليًا مع البوب في انهزاميتها التامة أمام الأمر الواقع، من حيث أنها لا تتحدى عوائق النفاذ، بل تكتفي لنفسها بالهوامش المتاحة حول المعيار الشكلي وسلطته.
أن نتصور صناعة موسيقية مبنية على سؤال الماهية هو أن نتصور موسيقى لا تبدو في ظاهرها لا في قطيعة ولا في تماهٍ مع السائد، لأنها أصلًا لا تعرِّف نفسها نسبةً إليه، ولا تنفي عناصر الحقيقي فيه. سيقول البعض: لكن أليست الموسيقى شكلًا؟ أليست المسألة الموسيقية مسألة شكلية أصلًا؟
إن بمقدور عين الشكلية أن تفكك الموسيقى إلى مجرد اصطفافات لنغمات فوق إيقاعات، وتفكيك العناصر الصوتية إلى خصوصيات جزئية، لكنها غير قادرة على استيعاب الفعل الموسيقي كغيمة احتمالات متنقلة من الظواهر والتفاعلات، والأبعاد غير القابلة للإحصاء داخل المسار الحياتي للصانع(ة)، وفي تفاعلات الموسيقى مع الآخر ضمن تحولاته في المكان والزمان. بل هي غير قادرة إلا على التقاط محصّلات كل ذلك، حين تنتهي تفاعلاته ويرتخي داخل الجثمان الشكلي القابل للتفكيك.
إن تصوّر الصناعة الموسيقية المبنية على سؤال الماهية، هو بذلك تصور الفعل الموسيقي منطلقًا من خارج الهاجس الموسيقي بمعناه الشكلي. أي ألا يبحث عن نفسه في تاريخ الفن، بل في تواريخ أخرى كالاقتصاد أو السياسة والمعرفة والتقنية، تمامًا كما أن الفعل الثوري النابع من سؤال الماهية لا ينطلق من هاجس النشاط السياسي بمعناه الشكلي الضيق، لكنه يؤدي حتمًا إلى أشكال من النشاط السياسي.
إذا كانت العدالة الاقتصادية هدف المعركة وغنيمتها الأخيرة، فإن المسألة الإنسانية الثقافية هي قضية عديد المقاتلين وعتادهم. عندما نهرب من الأزمة الواقعية إلى مجاز الشكل عند كل مفترق، نكتفي بتكرار الهزيمة واستسهال الملامة، في الثورة كما في الحب كما في الموسيقى أو الزراعة أو الحدادة.
كما تستند العدالة المادية إلى القوة الإنسانية في النفاذ إلى ما بعد الشكل، لا يمكن لذلك أن يتحقق دون آلية إنتاج ثوري تحقق الارتباط المادي بين الأفراد، وتُبنى عليها نظم العلاقة بين الفرد والفرد، وبين الفرد والجماعة. هو العمل التعاوني كقيمة إنسانية تحرّر الإنسان من عبودياته تجاه الطبيعة والسلطة، وتجاه نفسه. هي دورة الإنتاج العادلة التي تؤصل العلاقة وتجسدها في غرضٍ ما، هو لا أنا ولا أنت، بل أنت وأنا، نحن.
ننتج سويًا، نفكر سويًا، نغيّر سويًّا. أو نموت فرادى.