.
كان في تلك الليلة الدافئة، في منتصف تمّوز / يوليو العام ١٩١٧ عندما ظهرت العذراء مريم للأطفال الرعاة الثلاثة، أن أصبحت قريتهم الصغيرة، فاتيما، مستودعًا للأسرار السماويّة. مع أن السلطات سارعت باعتقال الأطفال – أصحاب الرؤيا – على الفور، إلا أن أخبار المعجزة كانت قد وصلت بالفعل إلى كافة أنحاء البرتغال. ليتوافد ألوف البرتغاليين للحج للقرية المقدسة وفاءً لنذور لإنقاذ العالم من شرور روسيا التي حذرت العذراء الأطفال من مغبّتها. وجدت الرسالة الإلهيّة المناهضة لروسيا الشيوعيّة آذانًا صاغية في لشبونة التي تبعد ساعة واحدة عن القرية، وخاصة من الحكومة التي كانت تعاني تهديدًا متزايدًا من صعود شعبية الأحزاب الماركسيّة، وسط تردّي الأوضاع الاقتصاديّة بشدة، ليطلق سراح الأطفال ومعجزاتهم التي لن تتوقف.
في الفاتيكان، استلزم الأمر عقد وأكثر حتى اعترفت الكنيسة الكاثوليكيّة بمعجزات فاتيما، ورسمت أطفالها الثلاثة، كخدّام للرب. حتى مطلع الثمانينيّات، كانت معجزاتها مستمرة، فالبابا يوحنا بولس، وبعد محاولة اغتياله الفاشلة، كان قد أهدى الرصاصة التي أصابته لكنيسة العذراء بالقرية، عرفانًا لعذراء فاتيما التي أنقذته من موتٍ محقّق. أضحت فاتيما، وعذراؤها، واحدة من أبقى أساطير الكنيسة الكاثوليكيّة في القرن العشرين، وواحدة من دعائم نظام سالازار الديكتاتوري، الذي عُرف تهكّمًا بنظام الإفات الثلاثة: فاتيما، وكرة القدم (فوتبول)، وموسيقى الفادو.
تعود أولى الإشارات التاريخية للفادو إلى مطلع القرن التاسع عشر. فقد كان الصنف الغنائي الذي نشأ في لشبونة وحوْل مينائها، بين الطبقات الاجتماعيّة الدنيا من البحّارة وصغار الجنود وعمّال الميناء، خليطًا من التأثّر بموسيقى المستعمرات الوافدة، وغناء البحارة، وبصمات لا يصعب تبيّنها تنتمي لتراث الموسيقى الموريشيّة (الأندلسيّة). كانت تدور كلمات الفادو، أو أغاني القدر الفادو: أصلها Fate: القدر.، بشكل تقليدي، عن البحر ومعاناة الفقر والحنين والفقد، على خلفيّة موسيقى ذات ألحان حزينة تُلعب عادة على الجيتار البرتغالي ذي الاثني عشر وترًا. لكن بينما صاحب الفادو رقصات البحارة وغنائهم الجماعي على الإيقاعات الأفريقيّة في البدايات، إلّا أنّه وبنهاية القرن التاسع عشر، استقرّت تقاليد الفادو اللشبوني على التخلّص من تلك الإيقاعات، وتفضيل غناء الفاديستا، أي مغنية الفادو / القدر على الغناء الجماعي.
كان ارتباط الفادو بالطبقات الحضرية المهمّشة وموضوعاتها وبأحياء الدعارة والجريمة والتسوّل مبرّرًا كافيًا لنبذه من الطبقات الأعلى. لكن شعبيته التي قد تنامت أكثر بمطلع القرن العشرين، بنمو الطبقات الحضريّة العاملة عدديًا وتحوّلها لأغلبيّة بين سكان المدن، كانت كفيلة لتحويله إلى مادة غنيّة لماكينة الإنتاج الرأسمالي، والتي وظفت الفادو بدورها كجزءٍ أساسيّ في برامج الترفية في الملاهي الليلة والمسرحيات والبرامج الغنائية للإذاعة، وإنتاج أقراص الفونوغراف، حتى أن أول فيلم برتغالي ناطق كانت قصته تدور حول أسطورة الفادو.
كان اسم البطلة هو عنوان الفيلم المنتج عام ١٩٣١، مرية سيفيرا، المومس الغجريّة ومغنية الفادو التي وقع في غرامها أحد الكونتات؛ وكانت قصة الغرام بين الغجريّة والكونت الخطوة الأخيرة في عملية تهجين موسيقى المهمشين، داخل مؤسسات الإنتاج الفني الرأسماليّة، وداخل سياقات الثقافة العامة، وتحويلها لموسيقى الجميع، “الشعب“، بمفهومه الجماهيري الأوسع، وكأداة سياسية في يد سالازار، الذي سيستحوذ على السلطة المطلقة في البلاد بعد عام واحد من إنتاج الفيلم.
حمل سالازار، بروفسور الاقتصاد ودكتاتور البرتغال الذي حكمها لمدة نصف قرن، احتقارًا مبطّنًا لموسيقى الفادو، واصفًا نصوصها وألحانها المليئة بالحنين للماضي، والبكاء على الغائب والمفقود، بأنّها “ضد التحضر“، وفي واقعة أخرى وصفها بأن “لها تأثيرًا مضعفًا للشخصية البرتغاليّة” وأنها “تستنزف الطاقة من الروح، وتنتهي بها إلى الجفاف.” لكن شعبية الفادو الكاسحة دفعت نظام الدولة الجديدة الفاشي في البرتغال إلى تبنٍّ تدريجيّ لها بوصفها الموسيقى الأصيلة للأمة، والمعبرة عن الروح القوميّة البرتغاليّة بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانيّة، الأمر الذي وصل لقمته في الخمسينيّات والستينيّات، مع تصاعد شهرة ملكة الفادو أميليا رودريجوس عالميًا.
ارتبط اسم أميليا بالنظام الحاكم، وخاصة بسلازار، التي اعترفت لاحقًا بأنها كانت تحبّه سرًا حتى وفاته، وإن كان هو، من ناحيته، قد حمل احتقارًا مضمرًا لها كما لموسيقاها. حتى أنّه اعتاد على الإشارة لها، في غيابها، بـ الكائن الصغير. فبينما وضعت أميليا، المطربة الأكثر جماهيريّة في البرتغال، الفادو على خريطة الموسيقى العالميّة عبر جولاتاها الغنائيّة في الخارج: أوروبا واليابان والمستعمرات البرتغاليّة في أفريقيا، وآسيا وأميركا اللاتينيّة، وحتى إلى ما وراء السور الحديدي وإلى بوخارست تحديدًا في نهاية الستينيّات، تولّت رقابة النظام تقليم نصوص الفادو في الداخل، لتتوافق مع أجندة النظام “التقدميّة“، والترويج لصورة للبرتغاليين بوصفهم “فقراء لكن سعداء“. حُصرت نصوص الأغاني في سياق محافظ، تدور موضوعاته حول النساء والنبيذ والحب والكنيسة والأسرة. كانت تلك الرقابة معنية بتطهير الفادو من روافد نضاليّة ترجع لبداية العشرينيّات، وارتبطت أكثر بفادو مدينة كيومبرة، وبأغاني الحزب الشيوعي البرتغالي.
بعيدًا عن لشبونة، تطوّر نوع منفصل من الفادو في باحات جامعة مدينة كيومبرة، يقتصر غناؤه على الرجال فقط، ويقومون بتأديته بشكل جماعي وهم يرتدون الأرواب الأكاديميّة. في مطلع الخمسينيّات، تبنى موسيقيو فادو كيومبرة قوالب أكثر رحابة لموسيقاهم، ضمّت روافد من الموسيقى الفلكلوريّة والكلاسيكيّة والكنسيّة، وموضوعات أكثر تنوعًا كان من ضمنها السياسة بالطبع. كان زيكا أفونسو عضو الحزب الشيوعي من خريجي جامعة كيومبرة، واحدًا من أهم رواد تيار التجديد الموسيقي ذلك، ومن أشهر الأسماء التي انخرطت في نضال فنّي ضد النظام الفاشي، كان من نتيجته أن منعت أعماله من النشر.
في صباح الخامس والعشرين من نيسان / أبريل ١٩٧٤، أذاعت الإذاعة البرتغاليّة أغنية جراندولا فيلا مورينا، لزيكا أفونسو الذي مُنعت أعماله من كل وسائل الإعلام. كانت الأغنية كلمة السر المتفق عليها لثورة القرنفل، وعلى إثرها انطلقت الوحدات العسكريّة المشاركة في الانقلاب للسيطرة على المؤسسات الحيويّة في العاصمة، ومعها ألوف من المواطنين الذين نزلوا للشوارع للاحتفال بسقوط حكم أطول ديكتاتوريّة عمرًا في أوروبا الغربيّة.
أغنية الوداع، من تلحين فيرناندو سوريس، أحد أشهر ملحني ومغني فادو كيومبرة والمعروف بلقب المغني القاضي، حيث عمل فيرناندو قاضيًا قبل تفرغه للموسيقى.
بعد الثورة، نُبِذ الفادو التقليدي بوصفه من بقايا الفاشية، واتُهمت أميليا رودريجوس بالعمل لصالح أجهزة الأمن. لكن سرعان ما استعاد الفادو بعضًا من جاذبيّته مرّة أخرى، وأعيد الاعتبار لأميليا الذي اتضح أنّها كانت تدعم سرًا أنشطة إعالة أهالي المعتقلين من قبل نظام سالازار. وعند وفاتها، أعلنت الدولة الحداد لمدة ثلاثة أيام، ودُفنت في المقبرة الوطنية، ومعها خصومة الماضي القريب، وذاكرة الفاشية التي لطالما ارتبطت بصوتها. في العقدين الأخيرين، عمل جيل من الموسيقيين الشباب على اعادة إنتاج الفادو جماهيريًا في قوالب أكثر عصرية من حيث التقنيّة، وأكثر سهولة في التلقّي.