fbpx .
معازف المغرب

الملحون المغربي | إعجاز الفرجة ومعجزة الفرَج

عمر الأزمي ۲۰۱۷/۰۹/۲۰

“الملحون فراجتو فكلامو” (فرجة الملحون في كلامه)، هكذا يضبط المولعون بالملحون المغربي محور تلقيهم لهذا الفن على محوريّ إنتاج القصيدة الملحونيّة وإنشادها، ضبطًا ينم عن فهم دقيق للإبدالين الشعري والموسيقي اللذين جاء فن الملحون لترسيخهما في الذائقة الفنية المغربية، امتدادًا للطفرات التي تحققت لدى الأجداد الأندلسيين الذين صنعوا لحظة الموشح حيثُ صار للموسيقى جسد في الصورة وللصورة ظلال في الموسيقى، وأضحى للأشكال روح بتعبير جورج لوكاتش.

إلى أن خلف من بعدهم خلف من المغاربة استحدثوا فنًا آخر من الشعر في أعاريض مزدوجة، كالموشح بلغتهم، وسموه عروض البلد، كما يقرر ابن خلدون في مقدمته. الفرجة في التعبير الذي صدّرنا به طربًا، طربًا يخترق الحواس، ويجعلها تتفرج بالأذن وتنصت بالعين، “وتكب عينًا في عين” كما يعبر الفاسيون عن الفرح والرضى. فالقصيدة لحنٌ في ذاتها، وانتقالاتها مقاماتٌ لا يقع عليها اللحن وقعة الضابط وفق أنظمة، وإنما هي من تقع على الفوضى وتضبطها وفق موسيقى. ليس شعرًا ملحنًا، بل ألحانٌ مادتها الكلمة؛ وشيخ السجية، أي الشاعر، موسيقار آلته الكلمة ونوتاته القوافي.

https://youtu.be/piCt_gTUKDQ

في البدء كانت الكلمة

عندما كان شجرة الكلام، سيدي عبد العزيز المغراوي ابن مغراوة ضواحي تافيلالت ومنشئ هذا الفن بالمغرب، ينظم الكلام – وكان شعر الملحون المنظوم هو الكلام على وجه التخصيص وما دونه لغو وتأثيم – لم يكن المخيال الجمعي للمغاربة، والكلام هنا عن الحقبة السعدية في القرن السادس عشر، قد امتلك بعدُ أدوات تلقٍ للقول الشعري خارج مدار وادي عبقر وشيطانه أنثى وشيطاني ذكر، فقالوا للشاعر موهوب وقالوا لشعره وهب. القصيدة قياس أي ما يعادل البحر في الشعر الفصيح وحرف أي بيت ومعنى، وهي فتح، والشيخ فاتح ومفتوح عليه، لا ينشف حرفه فلا تعوزه القافية وإن طالت قصيدته. قل لو كان البحر مدادًا … حتى قيل “كل طويلٍ خاوٍ إلا النخلة والمغراوي”، يأتيه الوهب على اعتقادهم عفوًا ويسهر القوم جراه ويختصم، لغته لغتهم وتراكيبه عامية تبتدئ بالساكن وتنتهي إليه، وما بين بين مدود على ما جرى عليه المغاربة في تداولهم. في حين انتظمت أبياته وفق نظام الشطرين المتوازيين والروي الموحد، والشطر عِدته عشرة مقاطع في كل شطر: باعتماد التقطيع الفرنسي على منهج محمد الفاسي في معلمة الملحون.

وما تكون أغراض شعر سيدي المغراوي، وهو قاضي القضاة وعالم علماء فاس، ومؤنس الأمراء ونديمهم، وهم ظلالِ الواهب في الأرض، غير التوسل ومدح النبي وذكر آله وأصحابه وتغنٍ بنعوتهم، والشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام، على رأي ابن قتيبة.

يقول سيدي عبد العزيز المغراوي في مطلع قصيدته صلى الله عليك:

صلى الله عليك يا بهيج الصورة يا دارة القمر المكاوي

مول الحلة والتاج واللواء سيدي رسول الله

يا لي هو مفقود كي بحالي على الكبدة الجراح ما صابي مداوي

يجيب راسه ليا نوحوا غير انا وياه

ولأن الشجاي أي الشاعر يلد، والقراح أي المنشد يربي، كما يقول الملاحنة، فقد كانت موسيقى الملحون عين المماهاة بين نغمة الصوت وقريحة المنشد، لئلا تنغص على الأذن فرجة الكلام، ولا على العين قرحة العبارة وقريحة الإشارة؛ وما استعملوا بعدها التعريجة آلة قرعية ذات وقع رنان إلا رشًّا، والرش عندهم نقرتان ينقرها المنشد وينقرها غيره في أويقات مخصوصة: رنة يم وأخرى للحاشية كما يبدو في أداء مولاي التهامي الهاروشي المشهور بنقر اليم والحاشية بآلة تعريجة واحدة.

نحن وإن وقفنا على ما عرفه عروض الملحون من ثورات تجديدية، فإن إدخال آلات موسيقية على أدائه ظل إلى اليوم موضوع مماحكات ذوقية، فيشترط السجاي والقراح والعشاق على السواء توقف العزف عند الإنشاد، ثم انطلاقه بين قسم وقسم. ليس للملحون موسيقى مفارقة له، فاسمه من اللحن واللحن من اسمه، واستراحة المنشد في جواب الفرقة. أما الجواب وهو الحربة أي اللازمة عندهم، فقد وضعها الشاعر من قبل، فيكتب النص بقريحة المنشد. يكتبه وفق ما تطلبه الأذن، وحنجرة المغني وذبذبات الكلمة. حتى إذا تفرعت أنواع الكتابة الملحونية، وخرجت عن مقتضيات الأشطر والأقسام المنتظمة المقيسة، كان ابتكار آلة السويسن، من روح الملحون وإليه، وهي آلة وترية بأوتار ثلاثة، يعزفون به قياس الحربة بالتزامن مع جواب الفرقة واستراحة المنشد. انتقلت آلة السويسن إلى فنون أخرى أشهرها العيطة الجبلية.

جوقة الملحون وموسيقاه تعزفان في رأس الشاعر لحظة النظم، فلكل شاعر ألحان مخصوصة، وبحور يخترعها ويجدف فيها، وقد يتبعه التابعون إلى سواحلها فيصير للبحر الذي اخترعه قياس معلوم، والعلم هنا غير ملزم، مادامت الموسيقى التي تعزف في أذنه وأذن من تلاه راضية ومرضية.

لقد أحصى الباحث محمد الفاسي مئة وثلاثة وخمسين بحرًا من بحور المبيت، أي مجموع الأبيات، وهو القائم على نظام الأشطر مع وجود تنويعات في تجزئة بعد الأشطار: فيكون البحر من شطرين ويصبح من ثلاثة أو أربعة، أو يكون من ثلاثة أشطر فيصير من أربعة أو خمسة إلى أن يصير عدد بحور المبيت زهاء المائتين. منها من البحور ما لم يُكتب فيه إلا قصيدة واحدة “غريزة” سميّ باسمها. والمنشد إنما هو حفاظ أوزان وراوية شعر، شيخه النظام وألواحه الذاكرة: “والشيخ بلا شيخ يلا طال حجبه خاوي” كما أخبرني شيخ السجية والقريحة، سيدي محمد الحضري. خير مثال على نظام المبيت نجده في قصيدة الوردة.

ثم كانت الكلمة اللحن

القصيدة ليست كلامًا ملحنًا، بل لحن يتكلم، يقال ويتلوى ويرقص، هدم وانهدام. فحين بدأت طبقة العمال التقليديين والصناعيين والحرفيين تعي نفسها في بداية القرن العشرين، كان يُعرف كفن المغاربة الأول يخرج من تحت جناح البلاط إلى وجدان الشعب، ينصت إليهم وينصتون إليه، ينفعل معهم وبهم، ويتطور بهم ولهم. بدأ المشتغلون بهذا الفن يستجيبون لضرورة التحديث والانفتاح، فكان دمج الكمان والعود مع السويسن والتعريجة، كما توسعوا في أشكال القول وأوزان النظم، حتى أحدثوا مكسور الجناح، وبعده السوسي.

فأما مكسور الجناح تركيب يختلف عن القصيدة العربية وحتى عن المبيت لأنه لا يتركب من أبيات وإنما كل قسم كأنه بيت بذاته، فهو وحدة عروضية تبتدئ بشطر واحد ويسمى المزراك، مرورًا بشطيرات صغيرة تسمى المطيلعات، ثم بيت على نفس إيقاع اللازمة، وانتهاءً بقسمٍ أخير يدعى السارحة وهو قسم مصوغ أيضًا على قياس اللازمة. وفي ما يلي قصيدة غيثة من مكسور الجناح:

فرجة وفرج

إلى جانب السهرات الأسبوعية المعروفة بـ دارت التي حظيت بحضورها بفضل انتسابي إلى أسرة ملحونية، فجدي من أمي هو الحاج عبد الكريم كنون شيخ القريحة الفاسي. حظيت بمتابعة صبحيات المولد بسوق الحناء قرب سوق العطارين بفاس، وهي عادة أحيتها جمعية عبد الكريم كنون لطرب الملحون في بداية الألفية الجديدة صبيحة ذكرى المولد النبوي، حيث تنشد الفرقة بصوت الشيخ سعيد كنون نجل الشيخ عبد الكريم قصيدة المولود للحاج الغالي الدمناتي، وبعدها قصائد الذكر الذي يركز على المدح أو السيرة وهول القيامة ويؤدى بنغمة خاصة وبآلات خاصة تسمى آلات الحضرة.

يتوسط السوق – الذي يتحول إلى مسرح صبيحة المولد – شجرة مثمرة كلما مررتُ بها تذكرت شجرة الكلام سيدي المغراوي. بل إن في زاوية السوق مسجدًا صغيرًا قيل إنه له، كان يجتمع فيه يوم سابع عيد المولد، رفقة شيوخ الملحون وشعرائه ومنشديه، لتلاوة قصائد ملحونية دون عزف، فيمتلئ السوق عن آخره، فيما يتابع البعض تلك الحلقات، من فوق الأشجار وسطوح المنازل.

سوق الحناء كما أخبرني جمع عن جمع، يستحيل تواطؤهم على الكذب، كان سوقًا للطين أيام سيدي المغراوي، وكان بمحاذاته مبنى سيدي فرج، وهو مكان كان يلجأ إليه المرضى والمجانين للتداوي ببركة سيدنا فرج، ومن ثمة دأب سيدي المغراوي إلى جانب شعراء آخرين لإراحة خاطر المعلول، والتداوي بالتي كانت هي الداء.

ولئن كنتُ قد وقفتُ على توصيفات شعرية وسردية كثيرة لهذه الظاهرة، فإن أبلغها وألصقها بالذاكرة والوجدان، أسطر الشاعر محمد السرغيني:

إعرابا عن ضيق بالغاسول وموسيقى الآلة

ولقالق تبني الأعشاش بجامور الصومعة المنسية

مر الحمقى بسوق الحناء عرايا

وكما لو كانوا فخارا عضويا

أهدوا محصول تجاربهم للعهد الآتي“.

الإقامة في اللغة، أو أنا الشاعر السيئ الحظ

مع سيدي قدور العلمي لا تقس الغائب على الشاهد بل الشاهد على الغائب، ولا تبحث عن الإقامة في المنفى بل عن المنفى في الإقامة، ولا ترجُ انعكاس التجربة في الشعر، بل رمّ الشعر في التجربة.

وفي قصيدة الدار تشكيل هوية، وبعثُ هوية في التشكيل.

لابن مكناس على مكناسه عتاب – وهو حل بهذا البلد – يرد مجاز المحلية إلى حقيقته، ويسائل الحالَّ بدل المحل على وجهٍ غير وجه آية (واسأل القرية)، ويرثي داره والحِمَى، ويُكنّي على البخل بالكرم وعلى المدح بالذم:

“واش ما عار عليكم يا رجال مكناس

مشات داري في حماكم يا أهل الكرايم

(أما عار عليكم يا رجالَ مكناس.

أن تضيع داري في حماكم يا أهل المكارم؟)

شاعر لم تعد اللغة إقامته على رأي هايدغر بل صارت الإقامةُ لغتَهُ، مقيم في منفاه ومعناه، صائم عن اللغو، منصتٌ إلى نغم الكلام، لفظته المدينة وآوته الصور:

اخترت قصيدة مرسومة فرق قرطاس

بخط عجمي مايدري فاللغا نغايم

كغزالة حضرية من بنات اهل فاس

معنقة شي عبد من ضناية الصماصم

(اخترت قصيدة مرسومة فوق قرطاس

بخط أعجمي لا يدري للكلمات أنغاما

كغزالة حضرية من بنات فاس

تعانق عبدا زنجيا أسود)

الكتابة تخنق روح الصورة، والحرف قارئ سيئ. ومثلما يمايز الشاعر بين الكلمة وتجليها الفيزيائي فوق الورقة، يمزج مزجًا رهيبًا ذاته بالقصيدة، فتصيره ويصيرها، وتصبح مواضيعها إخوته:

مرسمي خويا الشقيق من بويا وأمي

آش يصبرني على فراق الأخوة الوحام

( رسمي أخي الشقيق من أبي وأمي

كيف أصبر على فراق إخوتي بالدم؟)

وصف الرسم والطلل ليس جريانًا على عادة شعراء عمود الشعر العربي القديم، بل هو جريان العوادي على الشاعر، والدار التي غادرها وغادرته صارتْ أخته في المنفى، وما تفرق في التجربة عاد واجتمع في الشعر، “أو لم يجدك ضالًا فهدى.”

يقول:

هكذاك سعفت ببصري صروف الأيام

قل جهدي وقوى صمتي وصنت فمي

(هكذا جلت ببصري في صروف الأيام

قل جهدي، وقوي صمتي وصنتُ فمي)

الصوم عن اللغو إمعان في الكلام، وكلام الملاحنة هو الشعر، والشاعر يتكلم من أقاصي الصمت، شعره إبداع والإبداع تجربة، حيث تتدفق الصورة من الشعر، ومن التجربة تتدفق الحكمة، والمتذوق متعاطف كبير (على رأي نيتشه):

عرفت لي هذا الحزة بسيرة الناس

يوم أضحيت أنا لا دار لا دراهم

اللي لقيته منهم كا يهز لي الراس

كأنه عمرهم ما عيط لي باسم

(فقّهتني هذه الورطة في معادن الناس

يوم أضحيت بلا دار ولا دراهم

من ألفيتُ منهم يشيح بوجهه

كأنه لا يعرف لي اسما)

قصيدة الدار صيغتْ على شكل المبيّت كما ترى، وكل بيتٍ مأوى للشاعر الذي لفظه بيته وأهله وعشيرته… يسكن في شعره ويتداوى بالأمل من كلومه، ويضع تجربته بين يدي قارئه، تذكرةً من شاء ذكرها، مآسيه الفدية وهو الفداء وعلى السامع أن يغنم ثمار الإفادة:

“النكد يتفاجى وتزول ساعة الغيار

الإفادة تغنم بهــــــا سنين وشهور”

(الضيق يفرج، وساعة الضنك تزول

بينما الإفادة تُغنم سنيّا وشهورا)

كان شاعر الملحون يقول ذاته، وينصت إلى لحن عميق يُعزف في رأسه، يسمع عن سابقيه ويروي عنهم، ويُسمعُ منهُ ويروى عنه، يرتقي أعالي هذا الأمر بسببين أساسين: صدق التجربة وصفو العبارة. فأن تقرأ لسيدي المغراوي وهو من أوائل المتقدمين، كأن تقرأ لسيدي قدور وهو المتأخر، ما أتى عليك حينٌ من الدهر، فما ينفع الناس يمكث في القصيدة وفي ذاكرة الشيخ المنشد، ويطفو على الأذن مَعانيًا وقوافيًا وموسيقى. هو الثابت والمحرك الذي لا يتحرك، وأما المتغير فأشكال تلك التجربة وأنماط  التعبير المستحدثة وأغراضه، فالاستمرار في هذا الفن وفي غيره ابن التجديد والانفتاح واتساع الآفاق وضيق مداخل التعصب والانكفاء على الذات، حتى تظل شجرة الكلام ثابتة الأصل فرعُها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن الشعر والموسيقي والأذن التي تسمع الكلام فتتبع “ألحنه”.

المزيـــد علــى معـــازف