fbpx .
القينوت القينة يهود تونس مقابر معازف Tunisian Jews Cemetery Ma3azef
بحث | نقد | رأي

الموتى يغنون أيضًا

بن كوربر ۲۰۲۲/۰۱/۲۷

هذه المقالة مأخوذة عن مسودة كتاب قيد الإنشاء بعنوان تاريخ الدارجة التونسية المكتوبة: من ابن خلدون لتوفيق بن بريك.


أمر غريب، أن تقابل ميّتًا يغنّي لك خبر موته، وبضعة تفاصيل عن حياته، إلى جانب فظائع رآها قبيل الاحتضار. إنها محنة، يُبتلى بها من يزور مقبرة بورجل الخاصة بيهود تونس العاصمة، فينحرف عن الطريق ويتوغّل وسط حقول الشوك والحسك والتراب المتشقق، ليصل أخيرًا إلى مثوى إسيرين إسرائيل روزيو – المشهور بالشيخ العفريت – الأخير. يقف الزائر أمام شاهد قبر معتنى به أكثر من مجاوريه، ليطالع كلامًا قد يخطئ فيظنّه عبريًا، وهو في الحقيقة لغة عربية دارجة تونسية مكتوبة بحروف عبرية: شكر خاص لوائل النفطي لمساعدته في شرح الكلمات التونسية. ملاحظة هامة: حرف القاف في بعض اللهجات التونسية يُنطق كالجيم المصرية.

تحزنو يا ناسي عمري اربعين سنة غصرني الزمان

كنت جهوان (زاهٍ) بولادي انا ومرتي اعلى بعضنا حنان

نخدم عوادي طلعت للباي وعجبتو وعطاني بغرضو نيسان (نيشان)

العدوان دربوني بعض (ضربوني بعد) دربتني بنطاظة (مرض عضال) ما فيها حتى بريان (شفاء)

مرتي تجيبلي في الطبّة ودواية رايح في الويدان

دخّلوني لسبيطار (المستشفى) وخرّجوني منهو ما خديت ضمان

ما نفعونيش دواياتهم وجرارق (زرارق / حُقَن) حرقوني بنيران

عام وانا نقاصي (أقاسي) صدمة الموت ونحرتني نحران

صاحو مات إسرائيل روزيو مرتي وولدي ندبو ندبان

مرتي تنوح وخواتي تندب دموعهم فايضة فيضان

ولاد اختي يبكيو عليّا وقلبهم محروق بنيران

ما فرحتش بولادي يفرحو بعدي محروقين بنيران

عشرة آب حوجت الجنّة سنة ٥٦٩٩ أجلي كان

وانسني ولد اختي يرجعنا جيران يا رب ارزق ناسي بصبران يرد نص القبرية أيضًا في كتاب الشيخ العفريت: مطرب تونس، لـ فاروق الشعبوني (١٩٩١)، ص ٢٣، إلا أنه مليء بالأخطاء.

المظاهر هنا خداعة. ليس فقط لأن الظاهر العبري يموّه باطنًا عربيًا، بل لأن مؤلّف هذا الشعر، والمتكلّم فيه، ليس إسرائيل روزيو يقول فاروق الشعبوني في كتابه بأن روزيو هو مؤلّف هذه الأبيات، ولا نعتقد ذلك. أولًا، لأن الشيخ العفريت اشتهر بالغناء وليس تأليف الأغاني، وثانيًا لأن شكل هذه القبرية ومضمونها لا يختلف كثيرًا عن القبريات اليهودية الأخرى في تونس.، بل أصوات تنتمي إلى تراث موسيقي آخر يختلف شكلًا وموضوعًا عن الأغاني التي اشتهر بها الشيخ العفريت، وبعض مدفوني المقبرة الآخرين مثل حبيبة مسيكة، والمكتوبة بالدارجة المعيارية المعهودة في أغاني المسلمين. المقصود هو تراث الأغاني العربية-اليهودية، التي كان يغنّيها يهود تونس باللهجة الدارجة الخاصة بهم؛ وهو تراث شعبي في القبريات العربية في تونس كنوع من الأدب الشعبي، انظر كتاب في النقد والأدب الشعبي لأحمد الطويلي (١٩٨٧).، بمعنى أنه لا ينتسب إلى أسماء الفنانين البارزين وإنما إلى أصوات جماعية ومؤلّفين مجهولين عبّروا عن مختلف أبعاد وتفاصيل الحيوات اليومية، والمعاني الروحية الدينية، بل وبعض الأحداث التاريخية ذات الشأن والأهمية بالنسبة للجمهور اليهودي. كما أنه بخلاف أغاني روزيو ومسيكة المشهورة، تراثٌ لم يحظَ يومًا بعقود تسجيل رابحة في استوديوهات أوروبا، وإنما ظلت أصواته ونصوصه متناثرة منسية بين صمت المقابر وأراشيف مكتبات العالم.

الأغاني العربية-اليهودية التونسية

نعني تلك التي ألّفها يهود، وغنّاها يهود في لهجة عربية-يهودية، أمام جمهور معظمه من اليهود. لهذه اللهجة، رغم تماهيها مع اللهجة المعيارية السائدة في تونس، سمات بارزة من أهمها نطق الزاي جيمًا والعكس، ونطق السين شينًا والعكس. لكن لعل أكثر ما يميّز لهجة اليهود في تونس أنها كانت تُكتب بالحروف العبرية، كما ورد في قبرية الشيخ العفريت. حتى أنه قد تأسس في المملكة التونسية، بدءًا من العقد السابع من القرن التاسع عشر، العديد من المطابع اليهودية التي طبعت ونشرت آلاف الكتب والجرائد والمنشورات المتنوعة بهذه اللهجة. بالإضافة إلى الأغاني التي نحن بصددها، كانت هذه المطابع تنتج أعمالًا أدبية، علمانية ودينية على حد سواء.

نحن هنا أمام بحر شاسع من التراث الموسيقي الحافل بالأصوات واللهجات، المتنوع الأنغام والأساليب والأذواق والتقاليد، بعضه شعبي شفاهي وبعضه الآخر مدوّن مطبوع. غير أن نظرتنا في هذه المقالة ستقتصر على القسم الثاني، أي الأغاني والأشعار التي طبعت في كتيبات وجرائد وأوراق منفصلة، أو نُقشت على شواهد القبور، بدءًا من العقد قبل الأخير للقرن التاسع عشر ووصولًا إلى العقد الثالث من القرن العشرين. سوف نعتني على وجه التحديد بما يسمى القِينة (جمعها قينوت)، وهي جنس شعري عبري قديم تعني في الأصل المرثية، ثم صارت مع مرور العصور أقرب ما تكون إلى الأغنية الساخرة من نوع ذم الزمان.

تكمن أهمية القينوت، أولًا، في أنها تعكس وتعبّر عن حالة الحزن والرثاء الوجودية التي هي مكوّن أساسي للهوية اليهودية الدينية في تجلياتها التقليدية المحافظة، حيث يطغى تاريخ الشتات والاغتراب، والمذابح والاضطهاد، على مختلف الطقوس والنصوص من أعياد وأدعية وأغانٍ ورموز، وملابس حتى. لا غرو إذًا أن أول وأشهر القينوت في اللغة العبرية هي تلك التي صيغت للتذكير بالفجائع الكبرى في التاريخ اليهودي واجترارها، كمثل الأسر البابلي، وتدمير الهيكلين الأول والثاني، والحروب الصليبية وغيرها. كما أنها كانت تصاغ أيضًا بمناسبة الفجائع المرتكبة في العصر الحديث، حيث أننا نجد في تونس على سبيل المثال قينة حبيبة مسيكة، قينة العازب المدبوح في سوق البلاط (١٩٠٥)، التي تحكي عن حادث ما زال مذكورًا في تونس اليوم في الموضع عينه، قينة المقتول في الغرب (١٩٠٥)، وقينة اليهود المقتولين في روسيا (١٩٠٦).

لكن لعل أروع القينوت وأكثرها إبداعًا في تونس هي تلك من النوع الساخر، والتي تمثّل خروجًا – بدرجات متفاوتة – على الحزن الوجودي المنتشر في مختلف جوانب الحياة اليهودية. إذا كانت بعض القينوت الساخرة تكتفي بالتذمّر من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية العامة، والاحتجاج على تصاريف الدهر وتقلبات الزمان، إلا أن هناك القينوت التي تتجاوز مجرد التذمر لتسخر من القينة نفسها كتقليد اجتماعي وجنس أدبي يطغى عليه الحزن والاكتئاب، بل والرهبة والجدية المفرطة. في هذه القينوت الأخرى، يتحول الموت إلى مناسبة للهجاء لا الرثاء، كما ينقلب الميت إلى مهرّج يستجلب دموع الضحك لا التحسر.

قينة عشق الأزالة في الزبانة

إذا كانت جِبّانة (مقبرة) بورجل، حيث دفن الشيخ العفريت، يجثم عليها الصمت والسكون اليوم، إلا أنها كانت، في زمن مضى، مسرحًا حيًا لطقوس الثكالى المتشحات بالبياض اللواتي كنّ ينكببن على شواهد فقداء لهنّ، فيرفعن أصواتهن بالصلوات تارة وبالبكاء والعويل تارة أخرى، ويتلين حروف القينوت المنقوشة على الأحجار التي انسدلت فوقها سفاسيرهن جمع سفساري. لباس نسائي تقليدي تونسي يصنع من الحرير أو القطن، تلفه المرأة لتغطي به جسدها. يُقال أن السفساري قدم إلى تونس مع الأندلسيين، واعتمدته النساء قديمًا لدى الخروج إلى الشارع للتحشم..

هكذا هو الأمر في النهار، أما في الليل فقد تُسمع وشوشات وشهقات من نوع آخر، إذ تتحول الجبانة، مثلها مثل جبانات أخرى في شمال إفريقيا، بل وفي شتى أنحاء العالم، إلى وكر سرّي لمختلف ألوان التهتّك والمجون، فتسمع فلانًا يشارك قوارير السلتيا أشهر نوع جعة في تونس. وكؤوس البوخة مشروب كحولي تونسي يصنع من التين، ارتبط بتقاليد اليهود في المجالس. مع لمة من الأصحاب، وتسمع فلانًا آخر يتاجر بالزطلة حشيش من نبتة القنب الهندي. من أجل زبون “يخلّص لحم” عبارة في الدارجة التونسية تعني: يدفع ثمن الشيء بجسده، أي مقابل خدمة جنسية.. حينها، تُجدّد العلاقة القديمة القائمة ما بين الجنس والموت، الموت الصغير والموت الكبير.

تشهد لمثل هذه الأجواء الليلية قينة عشق الأزالة في الزبانة، أي عشق الهجالة (الأرملة) في الجبانة حسب النطق اليهودي التونسي القديم. تعود القينة إلى عام ١٨٩٥، وإن كانت مجهولة المؤلف فقد نسبها المستشرق الفرنسي أوسيب فاسيل إلى يعقوب كوهين (١٨٧٢-١٩١٤) الذي كان من أبزر الكتّاب والناشرين للمطبوعات العربية-اليهودية في تونس Vassel, Eusèbe, La Littérature populaire des Juifs tunisiens (1904-1907).. نرى على غلاف الكتيب الحامل للقينة، تحت العنوان، صورة ليدين تشيران إلى سرير، يُقرأ تحتها ما يلي: “هادا فرش الدقازة للكرا.” الفرش هو السرير في الدارجة التونسية. أما الدقازة فهي الساحرة أو قارئة الطالع، كما سنرى في متن القينة. وهي دعوة سافرة للدعارة والبغاء. تقول القينة:

دار الدقازة منصوبة / لدمة (لذمّة) قبال العشاق

للمحبوب والمحبوبة / ولمن طالب العناق

المقدّر الدي حاجتو بحاجة / ويخاف من كلام الناس

يمشي لدار الدقازة / تما (ثمة) مجمع الادناس

تما اللدة الهيّاجة / تحرق بنا الاشواق

إذًا دار الساحرة ستكون المكان الذي يجذب طالب العشق المحرّم. أما حجر الأساس الذي تنطلق منه المغامرة فهو المقبرة:

اول العشق في الجبانة / نهار الجمعة والشهور

الدي عينهو في الدوانة (شيء دونيّ / ماجن) / وعلى رزق الناس يغور

يطلع في قايلة حنانة / ويبقى يدور عالقبور

واين يلقا مرة مزيانة / وهو يبقى فيها برّاق

نتخطى هنا بعض الأبيات التي يصف فيها المؤلف كيف أن الرجل يزور الجبانة ويتصنع الرثاء لحالة المرأة من أجل الوقوع بها. ثم شيئًا فشيئًا يتقوّى شبقه ويسلب قلبها. فيستطرد قائلًا:

يحب يدوقها في الدنيا / ويتمتع في هاك البرج

الدي لا داقوهو غُنيا / هادا فرس تركب بلا سرج

هادا قصر وقوبة (قبة) وبنيا / يستاهل شيموت شيموت أو שמות كلمة عبرية بمعنى أحراز، طلاسم. وحورز (حِرز)

يا سعد الدي عندهو دنيا / يخسر اموالو ما فاق

امشي لتما ادخل اسبق / وانا نخلط (سأتبعك) في مشوار

ندخل وباب الدار نطبق / ونجتمعو جمع الحرار

نعدّيو مشوار ما تقلق / شي يوعاد من الاعمار

بين موز ورمان مفلّق / هادا هو اتمار العشاق

هكذا إذًا يقترح الرجل على المرأة أن يلتقيا خلسة في دار الساحرة، فيصف لها بعض ما سيجدان فيها من حرية وانبساط. في الموز والرمان المفلّق مجاز شبقي سافر لا يحتاج إلى تأويل. بعد ذلك، تنقاد المرأة وهي ذاهبة العقل إلى دار الساحرة، وتقول لها بأنها قد أتت من أجل أختها:

جيت باش ندفز عليها / وباش نعمللها الشالوم

راجلها يعدّب فيها / في لباس وماكلة ومعلوم

حتى ضو ما قا قا من قاعد، هي بمثابة ’عَمْ, الشامية أو ’عمّال’ المصرية. وتنفريز: المضايقة والمناقرة بين المتزوجين. يورّيها / غير تنفريز كل يوم

نرمي خط إشارة إلى خط الرمل الذي يُقرأ به الحظ. ونشوف اش بيها / هادا شي ما ينطاق

بعد تقعد تما تستنى / حتى تقوم هاك المرا

الراجل بعدا تهنا / في البيت الاخرى كرا

يلقا جاتهو هاد الجنة / كيف اشافه قلبو برا

نظر الزين ودوق البنة / غيّبولهو عقلهو ما فاق

قد نتوقف هنا قليلًا للتأمل في مسألة الأخت، ولماذا أقحمتها المرأة في هذه الدراما برمّتها. لعل إقحام سيرة الأخت يتجاوز مجرّد انتحالها حجّة للزيارة إلى مكان مشبوه، وقد نذهب إلى القول بأن الأخت إنما هي كناية بسيطة تريد بها المرأة نفسها، حتى تبوح بتفاصيل عن عذابها هي بطريقة خفية، وتعرضها للنقاش والعلاج الكناية شبيهة بما كن يعتمدنه النساء في الغناء الغزلي قديمًا، إذ استعملن كلمة الخال للتعتيم على الحبيب (الخِلّ). هناك عدة أمثلة على ذلك مثل جيبولي خالي وما نموتش.. لا شك أيضًا أن المؤلف أورد هذه التفاصيل عن عذاب الأخت / المرأة كنوع من التحليل النفسي – وإن كان تحليلًا سطحيًا، أقرب ما يكون إلى الوعظ الاجتماعي، لرغبة المرأة في اللجوء إلى العشق المحرّم. كأنه يقول: إن السبب في ذلك هو العنف والتزمّت الذي يمارسه الزوج اليهودي التقليدي ضد زوجته، فتندفع الأخيرة إلى أحضان الغرباء والمشعوذين. في كل ذلك هجوم مستتر على عادات وتقاليد أرباب المجتمع اليهودي المحافظين في تونس في ذلك الوقت. ملخص بقية الأبيات هنا، أن الرجل والمرأة قد استغلّا خلوة الساحرة من أجل ذوق الفاكهة الجنسية. لكن إذا كان الرجل البادئ، أي هو الذي جرّها وراء الرذيلة، إلا أنها سرعان ما تطيب لها هذه الفاكهة، فتتعوّد عليها:

من نهارها يبقا لها ساهل / ما يبقا لها شي صعيب

هادي رياقة وكيف هايل / ما بقا عندها هادا عيب

ما تفلّت عاقل لا جاهل / الدي حضر يبقالها حبيب

توافي بطلبو ما تتماهل / هيّا تغلبو في السباق

أي أن المرأة قد تحوّلت إلى فاجرة تتذوق الجماع. ثم يقول:

دار الدقازة معروفة / مجمع اولاد القحاش (قحاب)

مستورة لا حد يشوفها / الدي يدخل تما اش

الملقى ما تبقا مخطوفة / ولا من يقوللك علاش

اخدم على كيفك ما توفا / هادا اوّل التفاق

المرا الدي عينها خيوانة / وما تخاف قدرها يطيح (يقع)

ونيّتها في الدوانة / عيونها للراجل تميح

من كشفت الناس مطمانة / لهاد الدار يجيبها الريح

الدقازة هيّا الصوّانة / وهيّا تجيبلها العشاق

إذًا لقد أصبحت دار الدقازة مكانًا معروفًا لممارسة الرذيلة بين الذكر والأنثى، لذا فالدقازة هي بمثابة القوّادة أو الخاطبة التي تجلب الذكور للأنثى الراغبة في ثمرة النيك. حتى يصل بنا إلى آخر الحكاية، وملخّصه أن المرأة قد اندمجت اندماجًا كاملًا في أعمال السحر والشعوذة والعشق والغرام، فتهنّئ الساحرة على الخدمة التي تؤدّيها:

دفزت وخرجت فرحانة / تما رمات علقات وخطوط

خرجت من تما مليانة / عمرت الجابية الجابية: الحوض المستعمل لجمع الماء، والحوت: السمك. بالحوت

صحيت يا امي حزقانة المرأة الداهية، الشاطرة المحتالة./ يا الدي غلبت ملك الموت

مالا تعدية ومالا ’يا لها مِن’ بالفصحى، والتعدية والخانة وكرة في الساق كلها بمعنى الحيلة أو الخدعة. خانة / ومالا كرة في الساق

اللافت هنا أن المرأة الفاجرة هي التي تملك الكلمة الأخيرة، وأن هذا الختام يمرّ دون أن يتدخل المؤلف بوعظ أخلاقي كما هو معهود في العديد من القينوت، بل والأغلبية الساحقة من القصص والأشعار من نفس الطينة أثناء هذه الفترة. لقد كانت الدعارة والخرافات الشعبية، والعادات والتقاليد المُستهجنة مثل زيارة القبور، والتبرك بالأولياء الصالحين، والسحر والشعوذة، من الأمور التي حاربها بعنف أدباء النهضة العربية أمثال عبد الله النديم في مصر، وكتّاب الصحافة الساخرة في تونس في مطلع القرن العشرين. إذ تعارضت هذه العادات مع تصوّرهم لمبادئ “التمدّن” و”التهذيب”، بل ورغبتهم الدفينة في اللحاق بركب البورجوازية، أو بالأحرى الحفاظ على مكانتهم داخل البورجوازية الصغيرة، والقضاء على كل ما يهدّد دورهم في اقتصاد البيت والحومة والمدينة. لا شك أن هذه القينة تشارك في تلك الحملة الرجعية على رموز “الفسق والفجور”. لكن في نفس الوقت، ليس من الصعب أن يتلمّس القارئ في هذه الأبيات نوعًا من اللذة المختلسة.

القينة الزربية

الموتى يغنّون أيضًا، هذا ما رأيناه في قينة الشيخ العفريت، وهو أمر معهود في القينوت الرثائية بصورة عامة. لكنهم قد يغنون أيضًا حتى في القينوت الساخرة، التي تُعتبر القينة الزربية، أي الجربية نسبةً إلى جزيرة جربة، واحدة منها. يزعم أليعاز فرحي (١٨٥١-١٩٣٠)، ناشر القينة، أنه قد سمعها “من واحدة مرا زربية”، وإذا كان هذا صحيحًا فهي إحدى الأصوات النسائية النادرة جدًا في الأدب اليهودي التونسي عامةً Vassel, Eusèbe, “Satire judéo-tunisienne contre les juifs de Djerba” (1908).. لكننا قد نشك في ذلك، إذ أن الغرض الأساسي من هذه القينة، كما هو واضح، هو التهكّم من اليهود في جربة عامة ومن المرأة اليهودية الجربية خاصةً، والتي كانت تُعرف، حسب الصورة النمطية الرائجة حولها بين يهود العاصمة التونسية، بألوان من الجرأة والانحلال والتربية الناقصة. 

بعبارة أخرى، نستطيع القول بأن هذه القينة تروّج لما يسمّى في تونس بـ الجهويات، أي الاستعلاء والشعور بالفوقية الذي يمارسه سكان جهة أو منطقة ما على سكان منطقة أخرى. تختلف القينة شكلًا ومضمونًا عن القينوت التونسية الأخرى، ليس فقط فيما يخص تلويحاتها الجنسية السافرة، لكن أيضًا لأنها كلام متبادل بين شخصين: ستورا الزوجة ومعتوق الزوج الميت. تبدأ ستورا برثاء زوجها، لكن سرعان ما يتحول الكلام إلى مشاجرة وتبادل تهم:

كان يجيب وكان يجيب

الدلاعة ها كدا

معتوق هوا ضو العين

وجهو متل الياسمين

تخمل في ساعتين

هجو (هزو / أخذه) رب العالمين

بهذه الطريقة ترثو ستورا معتوق، الذي كان يجلب لها الدلاعة، أي البطيخة، لكن الرب قد هزّه أي أخذه فجأة. تتكرر الردة، أي البيتان الأوليان، بصيغ مختلفة على مر القينة، على المنوال التالي:

كان يجيب وكان يجيب

الفقوصة كدا

أو:

كان يجيب وكان يجيب

والرمانة ها كدا

أو:

كان يجيب وكان يجيب

والبعبوص ها كدا

في كل ذلك إشارات جنسية: فالفقوصة أو الفقوسة هي الخيار، ذاك الرمز القضيبي العتيق، والرمانة هي، بالطبع، عضو المرأة. أما البعبوص فهو ذيل الثور، لكن المقصود به هنا هو العضو الجنسي سواءٌ للذكر أو للأنثى. لاستقراء هذه الكلمات على الوجه الصحيح، علينا أن نفهم المعنى الثاني للفعل جاب يجيب، فيقال بالدارجة التونسية جاب على روحه مثلًا أي قذف منيًا على نفسه. ثم علينا الانتباه إلى إضافة حرف الواو قبل الرمانة والبعبوص، ما يحوّل المعنى من “كان يأتي بالبعبوص هكذا” إلى “كان يقذف والبعبوص بهذا الحجم”؛ ولتبديد أي شك حول المعنى المقصود، يقول أوسيب فاسيل، الذي ترجم القينة إلى الفرنسية، أن مؤدّي القينة كانوا يباعدون ما بين أيديهم أثناء قولهم “هاكدا”، وذلك للدلالة على حجم الشيء.

بعد المرثية الأولى، يردّ معتوق على ستورا قائلًا:

انا نجاوبك من القبر

يا ستورا يعطيك الصبر

اسمي ما صار يندكر

واصبري يا بنت الحضر

ثم تندلع الحرب:

يا ستورا غاظني حالك

اللبلابي اللبلابي هي الأكلة التونسية المعروفة، وتعدّ من بين الرموز الجنسية في القينة. ما بقالك

ابعدي من يوسف جارك

لا يفضحلك أحوالك

لكن ستورا تدافع عن شرفها قائلة:

يا معتوق كون متهني

جاري عمرو ما ينفسني

من وقت الدي مت انتي

تلات تحبيقات الدي حبقني حبّق يحبّق تحبيقة، بمعنى عانق، احتضن، من الكلمة العبرية من نفس الجذر חבק.

يعاتبها معتوق مرة أخرى، فتقول هي:

هاش هاد الكلام يا ملعون

ربنا رجاك (رزاك) في الماعون عدّة العمل، وفي الاستعمال العامّي المجازي هو الجهاز التناسلي، عدّة الجماع.

يوسف هوا قد فنون

وانا مازلت دمي شخون (سخون)

فيرد عليها بغلاظة:

يا ستورا يا عارة

ماخدتي ماخدة أو ماخذة هي الزيجة. فيك خصارة (خسارة)

كيف تكون الضبارة (دبارة)؟

راني في كبر الحالة

ثم تعترف، أو تفتخر، ستورا بأن لها حبيب ثانٍ اسمه شلوم، ولعلّ معتوق يشعر بأن رجولته مهدّدة فيتباهى قائلًا:

حتى انا عندي جارتي

مدفونة قدام بيتي

تعزني خير منك انتي

وانتي يا ستورا موتي

لكنها مفخرة منحوسة، سرعان ما تقلبها ستورا إلى شتيمة، فيا له من منحوس ذاك الرجل الذي لا معشوق له إلا امرأة ميتة مدفونة. ويواصلان شجارهما إلى ما لا نهاية.

قد يقول قائل بأن القينة هي جنس أدبي يهودي بامتياز، حيث أنها تمثّل الترجمة الشعرية لحالة الرثاء الدائمة التي يعيشها من تدور عقيدته حول فكرة الاستلاب والحرمان من المدينة المقدّسة، ناهيك عن الفجائع التاريخية الأخرى التي تلعب دورًا أساسيًا في بناء المخيلة الحاخامية القديمة. لكننا نرى في هذه القينوت، المحلّقة في فضاء الموت وعلى حافته، الفارقة في الرذيلة والمتعة المجرّدة، طريقة أخرى للتعامل مع الأمور الجسيمة، والطقوس والرموز المحيطة بها. إذا كانت الجبانات تصرخ، بأشعارها القبرية الغارقة في الظلام كما في الابتذال – بمعنى أننا لا نكاد نميز بين هذه القبرية وتلك، لكثرة التشابه بينها في الشكل والمضمون – إلا أن القينوت الساخرة تحفر في أرض جديدة، في تعرّضها لمسائل اجتماعية حية يعيشها الأحياء. 

كما تذكّرنا بعض القينوت الساخرة – والقينة الزربية خير مثال على ذلك – أن بعض الموتى لا يستحقون الرثاء، بل فوق ذلك، أن الرثاء نفسه كثيرًا ما يتداخل فيه الهجاء، إلى درجة أنه يفقد معناه وسط فيض من الكلام البذيء، كطقس اجتماعي وديني ذي وزن واعتبار. هنا يتبيّن البعد السياسي لهذه القينوت، فإذا كانت تهاجم، من جهة، العديد من الأمراض الاجتماعية الحديثة في نظر المؤلّفين، فإنها كانت تهاجم من جهة أخرى، لكن بطريقة ضمنية، المؤسسات الحاخامية المسيطرة، بأجوائها المتزمّتة الكئيبة، الحاضنة للحزن العقائدي الأبدي.

ثم إن هذه القينوت، وإن كانت يهودية من حيث الشكل وفي بعض ألفاظها ومواضيعها، إلا أنها ليست يهودية فحسب، أي أنها تتشارك والأشعار العربية غير اليهودية، بالأخص في نفس هذه الفترة، الشيء الكثير، كما أن فيها ما يخاطب أو يهمّ التونسيين، وغير التونسيين، بصرف النظر عن هويتهم الدينية. حيث تحاكي كذلك بعض الظواهر الاجتماعية المستهجنة، والممارسات الجنسية السرية، ذات الانتشار الواسع والموغلة في التاريخ. لعلنا نسمع في قينة الأزالة في الزبانة، مثلًا، أصداءً لكلام الحسن بن محمد الوزان، المسمى ليون الإفريقي، إذ يصف طائفة من الساحرات في مدينة فاس اللواتي “يوهمن العامة أنهن يرتبطن بصداقة مع شياطين من أنواع مختلفة” فيقول:

لكن الناس الذين يتمتعون بالاستقامة فضلًا عن العلم والخبرة يسمون هؤلاء النساء مساحقات (أو سحاقات) يكتبها الوزان بالحروف اللاتينية هكذا: Sahacat.، وهو معنى فريكاتريس باللاتينية لأنهن في الواقع يمارسن تلك العادة الشنيعة وتساحق إحداهن الأخرى، الأمر الذي لا أستطيع التعبير عنه بعبارة أكثر حشمة. فإذا كانت امرأة جميلة من بين اللواتي أتين لاستشارتهن عشقنها كما يعشق شاب فتاة، وطلبن منها، وكأن الشيطان نفسه هو الذي يتكلم، قبلات غرامية في مقابل الثمن. أي لو أن امرأة جميلة جاءت إلى الساحرة المثلية، استغلت الساحرة حاجة المرأة لتطلب أجرتها على شكل قبلات، متذرّعةً بحجّة أن الجن / الشيطان الذي ركبها هو من يطلب.وصف إفريقيا، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي، ١٩٨٣، ص ٢٦٣.

مثل هذه المحادثات مع الشياطين، توحي بما يُرجى من الباحثين، في المستقبل، القيام به من حوارات أدبية مقارنة، عابرة لحدود الطائفة والجنس، بل والحياة والموت، حتى تتبلور رؤيتنا للقواسم المشتركة، وتفاصيل التشابك والتلاقح التي تربط هذه القينوت بسياقها العربي الأوسع، بأوجهه اليهودية وغير اليهودية. هي حوارات تتطلب الوقوف نهارًا وليلًا فوق المزيد من القبور، واستنطاق المزيد من الموتى الذين لا يكاد يبكي لضياعهم وضياع نصوصهم أحد.


على الغلاف: يهوديات في المقبرة – تونس، ج. قاريق، أواخر القرن التاسع عشر.

المزيـــد علــى معـــازف