.
غسلوني بالماء الدافي | الموت في أغنية كناوة معازف المغرب
بحث | نقد | رأي

غسلوني بالماء الدافي | الموت في أغنية كناوة

لبنى الشرفاتي ۲۰۲٤/۰٤/۱۸

هل جرّبت أن تتخيّل موتك وما سيحدث لأقاربك بعد رحيلك، وطريقك إلى القبر؟ أن تتخيل شعورك لحظةَ فراقك للدنيا؟ لحظة مؤلمة، فيها رثاء للذات ورثاء لحال من سنفارقهم، مثلما كتب محمود درويش: “وأعشق عمري لأني إذا متُّ أخجل من دمْع أمّي”، شعور يعبّر عنه المصريّون بالقوْل: “بتصعب علي نفسي” والمغاربة بِ”كَيَبْقَى فِيَّا راسي”. نجد هذه الفكرة في التراث الشعبي الشفوي في المغرب في أغنية علّال؛ وهي واحدة من أكثر قِطَع موسيقى كناوة عمقًا فلسفيًّا. بسيطة وبليغة، كما هي السّمة الغالبة على الأغاني الشعبية، التي تراكم خبرات جماعية لوقتٍ طويلٍ من الزمن، و من ثمّ تقدّمها في قالب تَسهُل استساغته وتداوله بين الناس. 

تختلف الكلمات من مُؤَدٍّ لآخر، كون موسيقى كناوة انتقلت شفاهيًا من جيل إلى جيل، لكن الاختلافات تظلّ تنويعات لا تخرج عن نفس الثيمة.  في هذا المقال أقترح تذوّق نسختين من الإغنية، التي بالرغم من قدمها إلّا أن الفضل في إعادة إلقاء الضّوء عليها يعود للمغنّي والممثّل المغربي فهد بنشمسي

طقس التّشييع

لموسيقى كناوة طقوس وغايات تغيّرت وتعدّدت عبر الزمان، من حكي آلام العبودية و التّهجير من بلدان جنوب الصحراء إلى المغرب الأقصى، حتّى صارت اليوم موسيقى ترفيهية تُعزف في المهرجانات وتُمزج بألوان غربيّة. يظلّ العلاج أهمّ طقسٍ، من خلال ما يسمّى بـ اللّيلة، حيث يقوم المرضى بالدخول في الجذبة ومن ثمّ الاتّصال بعالم الجنّ، المُعتقد أنّهم السّبب في اضطراباتهم الجسديّة والنفسيّة.

المُلغز في هذه القطعة أنها لا ترجو شفاءً من مرض، وإنّما هي طقس جنائزي: ففي قطع كناوة عادة ما تجري مناداة الجن المسؤول عن الاضطرابات والدخول معه في مفاوضات لترك المصاب في سلام، مقدّمين له ما يغريه من قرابين. أمّا في هذه القطعة فليس هناك أمل للرجوع إلى الحياة، هناك روحٌ تحتضر، تبكي المأساة الحتميّة للفراق والوحدة والطمر في حفرةٍ من تراب. 

تتّبع موسيقى كناوة خطوات محددة ومتسلسلة، لكلّ منها غاية. إذ يفتتح الكناوي القطعة الموسيقية بمناداة علاّل، وتعريفه بكافة أسمائه وألقابه؛ وهو اسمُ جنّي من مجموعة الحوصاويين الذين ينتمون بدورهم إلى أولاد الغابة، وهي الأرواح التي يُعتقد أنها تسكن الغابات:

علاّل آيا علاّل / علاّل واشْ من علاّل

علاّل الفُولاني / علاّل السّوداني

علاّل الحُوصاوي / علاّل واهيا علاّل

ثم ينتقل الكناوي إلى الخطوة الثانية بطلب البخور الذي يعدّ جزءًا محوريًّا في طقوس استحضار الجن، وفي حالة علّال يُشعَل الجاوي الأسود الذي يعتبر المفضّل لديه.

عطّار ويا عطّار / عطّار في حانوتُه

آش كاين شي جاوي / الجاوي المكّاوي

يجرح ويداوي / علاّل ويا علاّل

الآن وقد حضر علّال، وجرى الترحيب به كما ينبغي، يدخل المغنّي في التيمة الأساسية:

الموت الموت الموت / الّلي ما مات يموت / راه ملاك الموت يموت

ثم يصف صعوبة فراق الحياة، يشاطر حزنه على ذاته مع الآخرين، الذين لا يستطيعون فهم آلام المحتضر لمحدودية خيالهم:

فرقتني عن لحباب / فرقتني على لصحاب / الموت حارّة جمرة

والذات العزيزة عليا / هو العارف ما بيا

يقوم المودّع بالتوصية بمراسم التشييع، والرفق به باستعمال الماء الدافئ والإسراع بدفنه، كما هو الشائع في الثقافة الإسلامية من إكرامٍ للميّت. في هذه المرحلة تتداخل الآثار الإفريقية من الديانات التي تقدس الطبيعة مع المعتقدات الإسلامية، وذلك عن طريق الاتّصال بروح علاّل وفي نفس الوقت استحضار أسماء الله والنبي وفاطمة الزهراء، الكفيلين بحماية النّاس من شرّ الكائنات غير المرئية. 

علاّل ويا علاّل / دخلوني لقاع الدّار / الطّلبة تقرا السّور / غسلوني بالماء الدافي

كفنوني بكفن وافي / هزّوني الرفاعة / امشيو بيا بسراعة

مولانا نسعاو رضاك / وعلى بابك واقفين / يا من يرحمنا سواك / يا أرحم الراحمين

لا أحد عاد من الموت ليخبرنا ما حصل له، لكن الفن، صنْعة الخيال، حاول الاقتراب ما أمكن. يتقمص الكناوي شخصية ميّتٍ واعٍ خلال موته، أثناء حكيه عن رحلة الموت يُدخل حوارات وكأننا نشاهد فيلمًا، وهو نفس الأسلوب الذي نجده في القصص القرآني حيث يستعمل أزمنة متعددة في الحكي: الماضي والمضارع والأمر.

حطّوني في قبري ملفوف / قلت ليها يا عار د الله / جيت طالب ضيف الله

كأنّه يبرر للأرض لماذا يجب أن ترأف لحاله: 

خلّيت الأحباب يتباكاو / خليت لحباب كيتشاكاو

بعد ذلك يختم مرثيته بطلب الرحمة من الله والعفو ممن قد يكون مستاءً منه:

الله يا ربي لحبيب

من فضلك جود عليا

وآه يا اللايم لاش تلومني

لكن إن كان الكناوي لا يسعى إلى علاج السّقيم، فما الغاية من هذه الأغنية؟ هل  مشاركة آلام النزع الأخير تساهم في التنفيس عن المحتضر، أم أنّه يذكّر الحاضرين بالموت حتى لا يتعلّقوا بالدّنيا أكثر ممّا ينبغي؟

التذكير بلحظة الموت كعبرة

في النّسخة الثّانية من الأغنيّة استعمل المعلّم رشيد الفضلي صوت الكمبري العميق فقط، الّذي يهزّ الرّوح، مُرَافَقًا بالتصفيق بالأيدي كإيقاع. طريقة خالية من كل بهرجة مثل ثوب الكفن الأبيض البسيط، مضيفًا أبياتًا إلى الشعر السابق:

شلّة قومان غدرت / ياك شلّة قومان غدرت / ياك ملاك الموت يموت / ياك كلشي غادي يموت

أشهد أن لا إله إلا الله، محمد رسول الله / بها نموتو وبها نحياو

يذكّر أن أقوامًا من الناس غَدَرَت، لكن ما الضّيْر في ذلك إذا كان الكل سيموت في الأخير؟ في لحظة الموت تتلاشى الأهمية التي نعطيها للحياة، الخير والشر والألم والفرح يفقدون كل قيمة، إنها لحظة تأمل في الموت كعِظة.

يقول الكاتب الأمريكي إيرفين يالوم: “الموت الفيزيائي يدمّرنا، لكن الموت كفكرة ينقذنا”. تأمُّل الموت هي فكرة مهمّة في الثقافة الإسلامية، سبقتها إليها البوذية والفلسفة الرّسوخية، حيث النّقطة المشتركة بينها جميعًا هو الزهد في الملذّات الدنيوية، واتخاذ الموت كواعظٍ في سبيل ذلك. 

قد تكون عمليّة تأمّل الموت قاسية، هناك من يزور المقابر وهناك حتى من يجرّب الاستلقاء في القبر، ليستشعر رهبة الموت، إلاّ أنّ الفن يخفّف من حدّة التّجربة ويجمع بين المتعة الحسيّة والدّفع الى طرح التّساؤلات. هناك حثّ على طلب الحياة دون التّورط فيها تمامًا. مهما حاولت وصف جمال هذه الأغنية وأصالتها لن أغني عن التجربة الحسّية، لذلك أتمنّى لكم/نّ تجربةً ممتعةً.

المزيـــد علــى معـــازف