.
عن الموسيقى وصناعتها العربيّة

الموسيقى البديلة | مراجعة نظريّة

شادي لويس ۲۰۱۳/۱۱/۲۲

على الرغم من الاستخدام المتزايد لمصطلح الثقافة البديلة في الأدبيّات العربيّة مؤخّرًا، من الواضح أن المصطلح يفتقد إلى تعريف نظري، أو حتى إجرائي متماسك يمكن الاعتماد عليه بهدف التحليل والتطوير. فعلى سبيل المثال، يفتقد تصنيف الموسيقى البديلة إلى ما يميّزه عن غيره من التصنيفات الموسيقيّة، سواء فيما يخص المقوّمات الجماليّة والتقنيّة على مستوى الشكل والقالب الفني، أو الأسس الآيديولوجيّة والأخلاقيّة على مستوى المحتوى والهدف.

ترجع مراوغة مصطلح البديل وصعوبة ضبطه في الأساس إلى اعتماده على تعريف لغوي سالب: إذ تتمايز الموسيقى البديلة، فقط، بصفتها نفيًا أو غير، في مقابل التصنيفات الموسيقيّة الأخرى، في رفض ربّما متعمّد وواعٍ لتعريفات جامدة تقيّد حدود البدائل الموسيقيّة، كما تقيّد مساحات تلاقيها أو اختلافها مع غيرها. بالإضافة إلى اعتراف ضمني بتحوّلات وتنوّع الآخر الموسيقي، وطبيعة علاقة الإحلال والاستبدال الجدليّة بين البديل والسّائد، والتي يتبادل فيها كلاهما التأثير والتأثّر، بالإضافة إلى تبادل المواقع دوريًا. رغم أن مصطلح البديل الفضفاض يسمح بتحرّر أوسع للمناورة الإبداعيّة والتجريب، إلا أن إشكاليّته الرئيسيّة الظاهرة ترجع إلى افتقاده لبنية نظريّة متّسقة يمكن استيعابه فيها، ومن خلالها.

ثنائيّات الجماليّات الغربيّة

حكمت ثنائيّات الفلسفة اليونانيّة: الروح / الجسد والمادّي / الميتافيزيقي، تطوّر جماليّات الفلسفة الغربيّة حتى نهاية القرن التاسع عشر. ففي المرحلة الرومانطيقيّة، احتدم الجدل الفلسفي حول الأولويّات الجماليّة للموسيقى في إطار ثنائيّة الموسيقى الخالصة (المطلقة) / الموسيقى السّرديّة (التسلسليّة). فبينما كان فريق يرى أولويّة جماليّة للموسيقى الخالصة اعتمادًا على مفهوم للموسيقى كنظام سامي ميتافيزيقي تكمن جماليّته في تجرّده وخلوّه من المباشر والسردي والمادي، تحاجج الفريق الآخر بتفوّق جمالي للموسيقى السرديّة بمفهوم يتمحور حول قدرتها على الترميز وخلق المعنى المتعدّد، وفي تفاعلها مع الشعوري والمادي في آن واحد.

في مطلع القرن العشرين، كانت ثنائيّة الموسيقى الفنيّة / الفلكلوريّة تحكم الجدل حول جماليّات الموسيقى. فبينما كان يُنظر إلى الموسيقى الفنيّة (الكلاسيكيّة) كنسق ميتافيزيقي ذو جماليّات سامية تثير العقل والوجدان، جرى التعامل مع الموسيقى الفلكلوريّة كنسق مادي أدنى جماليًا، يتم تحليل تأثيره على مستوى الجسد والحواس المباشرة.

بينما أنطلق أدورنو، المنظّر الأكثر تأثيرًا على فلسفة الموسيقى في النصف الثاني من القرن العشرين، من أرضيّة ماركسيّة صلبة. إلا أنّه لم يفلت من تأثير ثنائيّة الموسيقى الفنيّة / الفلكلوريّة على نظريّته. يعتمد تحليل أدورنو للجماليّات الموسيقيّة على ثنائيّة الموسيقى الجادّة / الموسيقى التجاريّة، مقدّمًا مفهومًا متماسكًا للموسيقى التجاريّة بصفتها جزءًا من الثقافة السّائدة، وأداة من أدوات الهيمنة الآيديولوجيّة للطبقة البرجوازيّة الحاكمة في المجتمعات الرأسماليّة.

ففي مقالته الشهيرة عن الموسيقى الجماهيرية، يجادل أدورنو بأن الإنتاج الكثيف للنصوص الموسيقيّة في السوق الرأسماليّة يميل إلى فرض قيود على خيال المتلقّي: إذ يتم تنميط النصوص الموسيقيّة من خلال عمليّات تكراريّة دوريّة تشبه عمليات الإنتاج الصناعي، حيث يجري نسخ وإعادة إنتاج الأنماط اللحنيّة والنصيّة الرّائجة تجاريًا لإرضاء ذوق الجمهور المبرمج سلفًا.

في هذا السياق، يرسم أدورنو صورةً للمتلقّي بصفته مستهلكًا سلبيًا لا يسعى إلا إلى إعادة استهلاك الأنماط المتكرّرة والمعتادة والمريحة، وذلك للحصول على إشباع حسّي مدفوع برغبة نفسيّة في التماهي مع البنى الاجتماعيّة المسيطرة. عليه، تدفع الموسيقى الجماهيريّة بالمستهلكين نحو شكل من أشكال الخضوع والإذعان للقيم والمعاني السّائدة، وتعمل على خلق وعي زائف من خلال إلهاء الجمهور عن الواقع المزري للمجتمع الرأسمالي.

في المقابل، يرى أدورنو أنّه يمكن تحدّي الوعي الزائف ومقاومته فقط من خلال فنون لا تخضع لآليّات الإنتاج السائدة، تقدر على كشف حالة الاغتراب الإنساني في المجتمع الحديث، وعيوب النظام الرأسمالي ولا عدالته. يطلق أدورنو على الوعي الذي تنتجه الفنون الجادة اسم: المعرفة السلبيّة، وذلك بصفتها نفيًا للوعي الزائف الذي تنتجه الفنون السّائدة. في هذا السّياق، يمكن اعتبار موسيقى أدورنو الجّادة أنّها امتداد للموسيقى الفنيّة، بينما موسيقاه السّائدة هي إعادة تعريف الموسيقى الفلكلوريّة في مجتمع رأسمالي صناعي.

نقد أدورنو

تعرّضت ثنائية أدورنو الموسيقيّة إلى نقد شديد على أكثر من مستوى. فبالرغم من انتمائه إلى مدرسة فرانكفورت الماركسيّة الجديدة، والمعنيّة بتحرير وعي الطبقة العاملة من هيمنة الطبقات المسيطرة، تبدو مفاهيم أدورنو الجماليّة، التي تعطي أفضليّة للموسيقى الكلاسيكيّة، وتضمر احتقارًا ضمنيًا للموسيقى الفولكلوريّة، مفاهيم برجوازيّة تعيد إنتاج جماليّات الطبقة المسيطرة وذائقتها، وتؤكّد على هيمنتها في مواجهة ذائقة العامّة البليدة والدونيّة. فطبقًا لـ بورديو، عالم الاجتماع والمنظّر الفرنسي، تبدو نظرية أدورنو تأكيدًا وتثبيتًا لتراتبيّة اجتماعيّة لا يحدّدها فقط مستوى الدخل والمهنة والتعليم وغيرها من المحدّدات الطبقيّة المباشرة، بل أيضًا نمط الاستهلاك والذائقة الاستهلاكيّة، والتي تتحكّم في معاييرها الطبقات المسيطرة.

فعلى سبيل المثال، تكشف دراسات بورديو الأمبريقيّة على ذائقة المجتمع الفرنسي عن ارتباط بين الانتماء للطبقة البرجوازيّة وبين الميل إلى الموسيقى الكلاسيكيّة، بينما يرتبط الانتماء إلى الطبقة العاملة باستهلاك أصناف موسيقيّة تعتبر اجتماعيًا أدنى في قيمتها الجماليّة، وعليه تتحوّل الذائقة الفنيّة والاستهلاك الرّمزي للموسيقى الرفيعة الكلاسيكيّةإلى رأسمال معنوي يؤكّد على تميّز الطبقة البرجوازيّة وموقعها على قمّة الهرم الاجتماعي.

من ناحية أخرى، تعرّض تصوّر أدورنو عن الجمهور في تلقّيه السّلبي للنصوص الموسيقيّة إلى انتقاد شديد، خاصّة من منظرّي مركز برمنجهام للدراسات الثقافيّة، والذين رأوا في الجمهور فاعلًا رئيسيًا في فك شيفرة المنتج الفني وتفسيره والتفاعل معه، بل وإعاده إنتاجه ومراوغة الأنماط الاجتماعيّة المسيطرة من خلاله. يبدو أيضًا، طبقًا لمدرسة برمنجهام، أنّه من المستحيل فرض حدود فاصلة بين التجاري والبديل، فموسيقى الروك الإنجليزي منذ البيتلز ومرورًا بالرولنج ستونز وحتى بينك فلويد، كانت في لحظة ما موسيقى متمرّدةسرعان ما تم استيعابها في ماكينة الإنتاج الرأسمالي دون أن تفقد كثيرًا من خصائصها النقديّة، والتي أهّلتها لتكون موسيقى جادة” – بحسب أدورنو. رغم انتشارها جماهيريًا ونجاحها التجاري.

على مستوى إبستيمولوجي، تعرّضت ثنائيّة أدورنو الموسيقيّة التي ترسم علاقة جدليّة بين الوعي الزائف، ممثّلًا بالموسيقى الجماهيريّة، وبين الحقيقة التي يمكن الوصول إليها من خلال المعرفة السلبيّة، ممثّلة في الموسيقى الجادّة، إلى نقد ما بعد حداثي يرفض مثاليّة أدورنو الهيجيليّة، ويرى في الحقيقة منتجًا اجتماعيًا نسبيًا ومتعدّدًا وغير مطلق.

الموسيقى البديلة كمصطلح ما بعد حداثي

يمكن تبنّي مصطلح الموسيقى البديلة للإشارة إلى بنية تحليليّة ما بعد حداثيّة تتلافى إشكاليّات ثنائيّة أدورنو الموسيقيّة وسابقاتها. فلا يحتوي مصطلح البديل على أيّ حكم أخلاقي أو جمالي مسبق مثل: مصطلحات الموسيقى النقيّة أو الفنيّة أو الجادّة، بل يكتفي بتوصيف محايد يعترف ضمنيًا بقيم فنيّة غير مثاليّة، متعدّدة ونسبيّة. في نفس السياق، لا يستلزم مصطلح الموسيقى البديلة ثنائيّة قطبيّة، بل يسع تنوّعًا في الأصناف الموسيقيّة (شعبيّة وتراثيّة وتجاريّة وغيرها) داخل شبكة متعدّدة الأقطاب. تعتمد تلك البنية التحليليّة الما بعد حداثيّة على فرضيّة ترى استحالة فصل الثقافة البديلة عن نمط الإنتاج الاستهلاكي الرأسمالي في المجتمعات الحديثة، وعليه يجري استيعاب الموسيقى البديلة داخل منظومة الإنتاج الرأسماليّة المرنة وبشكل دوري، لتقوم بإزاحة الموسيقى السّائدة أو تطعيمها في دورات من التجديد والإحلال تضمن استمرار المنظومة الإنتاجيّة وإثرائها.

يلعب المتلقّي دورًا فاعلًا في فك شيفرة المنتج الفني وتفسيره وإعاده إنتاجه في صورة رأسمال رمزي يتفاعل من خلاله مع موقعه ودوره في البنية الاجتماعيّة. عليه، لا تبدو الموسيقى البديلة، في نفيها للسّائد، معنيّة بكشف الحقيقة، بل بفتح أفق رحب لخبرات إنسانيّة فرديّة استثنائيّة أكثر تنوّعًا وتمرّدًا، وخلخلة للتراتبيّة الاجتماعية في مراوغة لقيم المجتمع السائدة وموقع المتلقّي فيه. لذلك، يبدو أن افتقاد مصطلح الموسيقى البديلة الفضفاض لتعريف دقيق وحاكم ينبع عمدًا وعن وعي من إبستمولجيّة ما بعد حداثيّة قلقلة ومتشكّكة دائمًا، ترفض الانصياع للسّائد، وتراوغ القوالب والأطر والحدود القاطعة. ربما هنا يكمن معنى الموسيقى البديلة ومستقبلها.


تم نشر هذه المادة بدعم من صندوق شباب المسرح العربي (YATF)

المزيـــد علــى معـــازف