.
هل يمكن أن يكون لأيّ شيءٍ موسيقى؟ لا؛ فقط ما يتحرك له موسيقى.
ما معنى أن تكون هناك موسيقى لشيء ما متحرِّك؟ الإجابة: ديناميكا dynamics حركةِ هذا الشيء.
في رأي الشكلانيين من فلاسفة الموسيقى ونقادها، مثل هانسلك وإدموند جورني وبيتر كَيْفي، ليست الموسيقى أكثر من نمط هندسي متكرر من جهة، ومتغير من جهة أخرى. تعتمد الموسيقى على التكرار بالتأكيد، ولهذا نقول عن قصيدة مثلًا إنها غنائية حين تتكرر بعض مقاطعها أو أبياتها على مسافات شبه متساوية؛ وكل متكرر على مسافات مكانية، أو زمانية، متساوية أو شبه متساوية، إيقاع. لكن الإيقاع، كي يكون فنيًّا، يجب ألا يتم على مسافات متساوية تمامًا كدقات الساعة. لهذا لا نعتبر دقات الساعة موسيقى، ولهذا قلنا إن الموسيقى نمط متكرر / متغير؛ فهي تكرر وحداتٍ هندسيةً صوتية، أي علاقات معينة بين نغمات أو جمل لحنية، على مسافات شبه متساوية، مع إجراء تغييرات تدريجية مقصودة على هذه الوحدة المتكررة، وهو ما يعرَف في النظرية بالـ إنماء.
إذًا يمكننا أن نستنتج أن الموسيقى خطة تطور معينة؛ وكل ما يتطور، ما يصير، ما هو خاضع لقانون التبدل والتحوُّر في الطبيعة أو التصورات البحتة، له خطة تغيُّر وصيرورة. يُعبّر عن هذه الخطة في الفيزياء والرياضيات باسم: الديناميكا. لكن لماذا لا يمكن أن نعتبر القصيدة مثلًا خطة تطور، أو اللوحة الفنية، أو الفيلم، أو أي عمل فني أو غير فني؟ ما سبب أن تتمتع الموسيقى وحدها بهذا الموقع الخاصّ؟
السبب هو أن الموسيقى الخالصة؛ أي غير المصحوبة بشعر، أو برنامج معين، أو مشهد، مثل السيمفونية والصوناتا، والرباعي الوتري والكونشرتو … إلخ، لا تقدم أي مضمون أدبي درامي أو غنائي صريح. يتضح هذا مثلًا مقارنةً بالقصيدة؛ فالقصيدة مثل الصوناتا نسمعها في زمان، وفيها إيقاع، وفيها إنماء، لكنها – بخلاف الصوناتا – تقدم لنا مضمونًا يمكن لنا نقله باللغة إلى الآخرينَ:
هَـــلْ غَـــادَرَ الـشُّـعَرَاءُ مِــنْ مُـتَـرَدَّمِ
أَمْ هَـــلْ عَـرَفْـتَ الــدَّارَ بَـعْـدَ تَـوَهُّـمِ؟
أَعْــيَــاكَ رَسْـــمُ الـــدَّارِ لَـــمْ يَـتَـكَـلَّمِ
حَــتَّــى تَــكَـلَّـمَ كَــالأَصَــمِّ الأَعْــجَـمِ
كان هذا مطلع معلقة عنترة بن شداد. يمكنني أن “أشرح” لك ما يعني. يمكنني أن أقول لك إنه يتساءل – سؤالًا بلاغيًا – هل لم يترك الشعراء موضعًا صالحًا للكلام إلا وتكلموا فيه؟ ويشابه ذلك بحال الدار الغريبة / الأليفة التي عادها الشاعرُ بعد غربة. يقول إنه أعجزه شكل الوطن، الذي لا يتكلم، لا يتكلم إلا كما يتكلم الأصم الأبكم من الجماد والحيوان. يمكنني أن ألخص هذا – من وجهة نظر معينة – أنه يقارب بين الشعر والوطن، الشعر والمكان، غربة الكلام، وغربة المكان، أو الكلام كمكان، والمكان ككلام. المفارقة أن المكان أصم أعجم، مقارنة بالشاعر … إلى آخره.
لكن كيف أشرح لك ما يلي؟
كان هذا مطلع الصوناتا رقم ٢٣ لبيتهوفن المعروفة باسم أباسيوناتا، أي المؤثِّرة؛ وهي مثال للموسيقى الخالصة، التي شملت أغلب أعمال بيتهوفن. كل ما نراه أعلاه، و”نَقرَؤُه” إذا تعلمنا المدونة الموسيقية، مجرد تعليمات للعازف. ليست نصًا بالمعنى المنسوب للنص الأدبي. ليست كلامًا، لأنها لا تحمل مضمونًا يمكن صوغه باللغة، بالمعنى المباشر لكلمة لغة. هي كذلك لا تتضمن حكاية يمكن صوغها في مضمون لغوي مباشر كما في الرواية والفيلم، وهي لا تتضمن مشهدًا أو شكلًا كما في اللوحة أو العمل النحتي؛ فما الذي تتضمنه؟
هي مجرد تعليمات لإحداث حركة بلا حادث. هناك حدوث، لكن دون أن نعرف على الإطلاق ما الذي حدث. نعرف الحدث، لكن ليست لدينا أية فكرة عما وقع فيه. إنها مجرد نمط تطور معين، نستمتع به حين يحركنا، يحرك تصوراتنا، ومشاعرنا، وربما أجسامنا، يحركنا نحن. يمكن القول إننا أنفسنا هو الحادث هنا. نحن ما يحدث، يتغير، يتبدل، أثناء السماع. هذا ما يعنيه قولنا إن الموسيقى مجرد ديناميكا، حركيّات معينة مقصودة دون متحرك أمامنا، ومن هنا كذلك يمكن القول بـ “موسيقى شيءٍ ما”؛ وهي نمط حركته المجرَّد.
إذًا يمكن تطبيق ما سبق على الطبيعة الدقيقة للجسيمات (ميكانيكا الكوانتم) Quantum mechanics من جهة، والطبيعة الكبيرة للكون ككل (ميكانيكا الفيض) Emanation mechanics من جهة أُخرى. إن ميكانيكا الكوانتم هي النظرية التي تصف الطبيعة في أدقّ صورها حجمًا، تصف حركة الجسيمات دون الذرية، وتفاعلها، وما ينتج عن ذلك مما ندعوه طاقة كهرومغناطيسية، ونووية قوية، وضعيفة. أما الفيض، وهي نظرية تعود في الأصل إلى الفيلسوف مصري الأصل، يوناني اللغة، أفلوطين (٢٠٥ – ٢٧٠ م)، فهي تفترض أن الطبيعة ككل نشأت نتيجة فيض، انسكاب، من أعلى إلى أسفل، مما بعد الطبيعة إلى الطبيعة، من الميتافيزيقا إلى الفيزيقا. بحسب أفلوطين في البدء كان كيان واحد كلي لا متناهٍ، وبسبب لا تناهيه فاض عن ذاته، وما فاض عنه فاض عنه بدوره – عبر مراحل معقدة تدريجية موصوفة في تاسوعاته بالتفصيل – عالمُنا الطبيعي. الكوانتم فيض العالم الأصغر، والفيض كوانتم العالم الأكبر.
لكن لماذا؟ ما الفائدة التي تعود علينا حين نصف ميكانيكا الجسيمات، أو ميكانيكا الفيض، في ضوء الموسيقى كنمط حركة؟ ما الذي نكتشفه؟ لماذا الكوانتم والفيض بالذات؟
الإجابة هي أن كلًا من الكوانتم والفيض نظرية في صدور الكثرة عن الواحد، صدور التنوع من التجانُس: الكوانتم في الأساس، والنظرية الذرية عمومًا نظرية تحاول “تكميم” الطبيعة. بمعنَى أنَّ ما نراه من تنوع في العناصر، والطاقات، يمكن ردُّه إلى أصل واحد غير منقسم Atom (باليونانية تعني اللا منقسِم)؛ وبحيث يكون الفرق بين عنصر وآخر فرقًا كميًّا. إن تنوع العناصر حولنا: من حديد إلى بوتاسيوم، إلى كلور، إلى نحاس إلى فضة … إلخ، ليس كيفًا quality، بل هو كمّ quantity. إذا أضفت بروتون ونيوترون إلى نواة ذرة الهيدروجين صار لديك هيليوم، برغم أن العنصرين “مختلفان” في الخواص الكيميائية؛ وبهذا يمكن لنا إنتاج الاختلاف الكيفي من الاختلاف الكمّي. بهذا يمكن لنا فَهْم التنوع الكيفي في سياق التجانس الكمي؛ فمِنَ التجانس، مع التلاعب بالكمية، تتفرع الأنواع، والكيفيات، وعلى أساس تكميم الظواهر الكيفية يقوم العلم الحديث.
أما الفيض فهو يقوم بهذه المَهمة (تفسير صدور الكثرة عن الواحد) بطريق مختلف. كان إشكال نشأة العالَم قديمًا: “كيف صدر التنوع عن أصل واحد؟” وهو سؤال مبنيّ على فرضية مسبقة، مفادها أنه من الضروري منطقيًا أنْ التنوع تالٍ على التجانُس؛ ففي البدء كان التجانُس المطلَق، اللا نهائي، غير المنقسم أيضًا. لكننا نلاحظ كيف اختلف طريق أفلوطين من البداية عن طريق غطاريف الكوانتم كماكس بلانك وآينشتين ونيلز بور وهيزنبرج: كل من هؤلاء، ومعهم أفلوطين، بدأ باللا منقسم، بل حتى بدأ بالبروتون؛ فالبروتون باليونانية πρῶτον = prôton تعني الواحد، وهي التسمية التي أطلقها رذرفورد عام ١٩٢٠ على نواة الهيدروجين، المكونة من بروتون وحيد. كذلك هي التسمية نفسها (بروتون) التي أطلقها أفلوطين على الواحد المتجانِس اللا نهائي، الذي منه فاض العالَم. لكن الفارق في كلمة واحدة، هي تمييز اللا نهائي صغَرًا أو كبَرًا؛ فبروتون الكوانتم متناهٍ في الصغر، أما بروتون أفلوطين فغير متناهٍ في الحجم والأبعاد. إن طبيعتنا معلقة بين التناهي واللا تناهي، بين الأصغر على الإطلاق، والأكبر بإطلاق؛ ومن المعروف أنه حتى البروتون في النظرية الذرية الحديثة ينقسم إلى كواركات، وأن هذه بدورها – بحسب نظرية الوتَر الفائق – تنحل إلى ذبذبات أوتارٍ افتراضية أصغر بكثير من البروتون. كما أنه رغم أن نظرية الوتر الفائق غير قابلة للاختبار بعدُ، وبالتالي ليستْ علمية بالمعنى الدقيق لكلمة عِلم، فالمبدأ واحد، وهو أنّ كل شيء في الطبيعة، بحسب الوتر الفائق، يعود إلى أصل واحد، هو وتَر يتذبذب بترددات مختلفة، بحيث يعطي كل تردد ما يقابله من جسيم تحت-ذري.
هكذا تظهر لنا ديناميكا / موسيقى الكوانتم معاكسة في الاتجاه لديناميكا / موسيقى الفيض: الكوانتم صاعدة، والفيض هابط. الكوانتم صاعدة من المتناهي في الصغَر، والفيض هابط من اللا متناهي في الكبَر. الكوانتم تبدأ مما لا يكاد أن يكون شيئًا، والفيض يبدأ مما هو بالتأكيد كل شيء. أما ما بعد البداية: فموسيقى الكوانتم حركة اجتماع لذبذبات متشابهة، ومختلفة كمًّا، والفيض حركة افتراق أدت إلى الاختلاف كيفًا. في الحقيقة تصف الكوانتم أوركسترا، فيها تجتمع الأصوات الناشئة عن ذبذبات متشابهة، ومختلفة، لتكوّن على مستوى التعقيد الأقصى كل ما نراه في الطبيعة. أما الفيض فهو حركة انحلال تلك الأوركسترا؛ حيث المايسترو (الواحد البروتون) يقود الأوركسترا، كما يقود المايسترو الحقيقي الأوركسترا الحقيقية، لكنه – بحسب أفلوطين – لا يفعل ذلك قصدًا، بل طبيعةً. إن وجوده نفسه هو ما يقود الأوركسترا، وليس هو؛ وحين تعزف الأوركسترا تؤدِّي بمجرد عزفها، وليس بقصدها، إلى قيادة أوركسترا أصغر، فأصغر، حتى نصل إلى عالمنا الطبيعي.
هكذا نقترب كثيرًا من الموسيقى، وربما نتساءل لو كنا ذوي خيالٍ واسع: هل الأوتار في نظرية الوتر الفائق أكثر من استعارة بلاغية؟ أليست الموسيقى كذلك صدورًا للكثرة عن الواحد عن طريق تغير الطول الموجي والتردد؟
حين نطالع مفتتح تاسعة بيتهوفن الغامض المهيب، الذي هو أقرب إلى دَوْزَنَة لا لحن، فَمِنْ أي “بروتون” نبدأ؟ أَمِنْ بروتون رذرفورد المتناهي في الصغر، أم بروتون أفلوطين اللا متناهي في الكبر؟ هل نرى عناصرًا صوتيةً ما، تتجمع لتُفضي إلى لحن، كما كانت طريقة بيتهوفن في المراحل السابقة على تاسعته؟ الواقع أنْ لا، لا توجد في هذا المفتتح عناصر منفصلة. إنها سيمفونية تبدأ من المُتَّصَل المطلَق. صحيح أننا نلمح حركة الوتريات، وهي تتجمع لتفضي إلى الجملة الكاريزمية الواضحة ذات النغمات التسع التالية في الصورة:
لكن على المستوى الشكلي الكلي، وليس الشكلي الجزئي (التركيبي) يفرق فلاسفة الموسيقى بين مستويين لمعالجة الشكل في الموسيقى، الأول كلي، يتعلق بصيغة الحركة الموسيقية، من حيث تكرار بعض أجزائها، مع إنمائها، والثاني جزئي، يتعلق بالنحو الموسيقي musical grammar، وهو المستوى التركيبي للجملة الموسيقية وما أصغر. انظر:
Kivy, Peter, Introduction to a Philosophy of Music, Clarendon Press, Oxford, 2002, pp. 72-73. ، الحركة ككل هي قصة انحلال هذا التكوين، الذي به تبدأ. هو أيضًا انحلال دَوْري، بمعنى أن هذا “التكوين، فالانحلال، فإعادة التكوين” يحدث على عدة مرات، قدرها ست مرات لسبب ما، حتى قال عنها روبرت شومان ذات مرة أنها “سفر تكوين، فيه يتكون العالم وينهدم ست مرات على غرار الأيام الستة للخَلق”، ثم ينتهي بالتكوين؛ فالحركة تنتهي بتلك النغمات التسع كما بدأت.
على العكس حين نطلع على الحركة الثانية من السيمفونية نفسها: إنها تبدأ بجزيئات، أو جسيمات، أو ذرات، لا منقسمات نغمية، لا تنحل إلى وحدات أصغر منها، لكنها تتجمع لتكون رقصة الاسكرتسو (رقصة ثلاثية سريعة) في حركة احتشاد أوركسترالي تدريجي. أي تنضم الآلات رويدًا رويدًا إلى الحركة، بالإيقاع نفسه، كأنها عدوى تنتشر، ثم تسود الرقصة بالأوركسترا كلها. هو تكوين دوري كذلك، مثلما التكوين دوري في الحركة الأولى؛ فإن الرقصة، التي تتكون من لا منقسماتها، لا تلبث إلا أنْ تصمت بعد اكتمالها، ويسود صمت، ثم يبدأ احتشاد جديد، وهكذا.
إذا كانت الحركة الأولى تتحرك بنمط الفيض: من الأكبر إلى الأصغر، فإن الحركة الثانية تتخذ نمط الكوانتم: من الأصغر إلى الأكبر. الفارق الرئيس هو أنّ نمط التفكك واضح في الحركة الأولى: تفكك الجملة الأولى، ثم تفاعل مكوناتها المفككة، حتى تجتمع لها الأوصال مرة أخرى؛ لكنه غائب في الحركة الثانية، التي تنتهي مقاطعها بالصمت كل مرة، لا بالتفكك. الملاحَظ بسهولة هنا أن فيض بيتهوفن يختلف عن فيض أفلوطين في خصيصة أساسية، هي أنه دوري. لكنها ليست مع ذلك ملاحظة صحيحة؛ فالفيض عند أفلوطين لا ينتهي بتكوين الطبيعة، بل يصعد كذلك من الطبيعة إلى البروتون اللا نهائي – عن طريق الإنسان – في شكل دائرة مغلقة.
الإنسان في فلسفة أفلوطين هو الكائن الوحيد القادر على الحركة عكس اتجاه الفيض: من أسفل إلى أعلى عن طريق التصوف، والوعي بالجمال، والموسيقَى. يرى أفلوطين في تاسوعاته أن الموسيقى نفسها ليست هي الطريق، الي يصعد بنا إلى المطلَق، بل ما فيها من جمال هو الذي يفعل. Cf. Plotinus, The Enneads, translated by Stephen MacKenna, Faber and Faber Limited, London, 1956, p. 422. الجمال الخالص المجرد من المضمون الأدبي عند أفلوطين، الذي نجده في الموسيقى، هو الأقرب إلى التصوف، والطريق إلى وحدة الوجود، والوعي بالمطلَق؛ وهو ما يتحقق بشكل ما حين نتابع الحركة الأولى من تاسعة بيتهوفن، التي تستهدف الوصول – بعد التفكك – إلى تكوين النغمات التسع، تلك النغمات التي لا نعرف إلامَ ترمز. إنها لا تعني شيئًا محددًا في ذاتها، مجرد نغمات تسع. ما يعنينا هو الحركة، والاتجاه منها، ثم نحوها، ست مرات، تنتهي بالاتجاه النهائي نحوها. ربما قصد بها بيتهوفن الثورة الفرنسية، التي كان من أشد مؤيديها، ربما قصد الإله ذاته، ربما قصد نفسَه، لكن كل ذلك رجم بالغيب لا يفيد. لم يستطع ناقد أو فيلسوف موسيقَى فهم رمزية تلك النغمات التسع حتى الآن على أية حال في كل ما نقرأ حول الموضوع. كل ما هنالك هو الديناميكا.
كان كل ما سبق على المستوى الشكلي الكلي كما قلنا أما المستوى الشكلي الجزئي أو التركيبي فسنجد أن الموسيقى نفسها فلسفة لصدور الكثرة عن الواحد. بتحديد أكبر: العمل الموسيقيّ الواحد يقدم لنا ديناميكا معينة لهذا الصُّدور Emanation، وبطبيعة الحال قد يقدم العمل الموسيقي أكثر من ذلك، إذا كان مصاحَبًا بشِعر، أو مشهد فيلمي مثلًا؛ لكننا لا نخرج هنا كما قلنا عن حدود الموسيقى الخالصة. لا يقدم العمل الموسيقي الخالص إلا مثل هذه الديناميكا، هذا أولًا. أما ثانيًا فالموسيقى عمومًا صادرة عن واحد، عن موجات ميكانيكية، الصوت، هي في حد ذاتها تضاغطات، وتخلخلات، في جزيئات الهواء، والهواء واحد. لكن الأنماط، التي منها تتكون الأنغام والألحان، لا نهائية في تنوع نماذجها. هنا تصدُر اللا نهايةُ عن المتناهي. الآلة واحدة، لكنها تنتج ما لا يتناهَى من الجمل اللحنية؛ والفرق بين طابع صوت آلة وأخرى، حتى المنتمية إلى عائلة مختلفة تمامًا، كالفرق مثلًا بين الكمان والترومبيت، هو فرق في التردد والطول الموجي لا أكثر من الناحية الفيزيقية. على أساس هذا المبدأ أمكن للأورج الإلكتروني أن ينتِج كل أصوات الآلات، وغير أصواتها أيضًا؛ وتنبع أهمية المستوى التركيبي من أنَّ الموسيقار أحيانًا ما يتعامَل معه في أجزاء الإنماء، التي تتعلق بفك الجملة الموسيقية، وإعادة تركيبها، أو إدماجها بجملة أخرى … إلخ.
نستنتج من كل ما سبق أنّ الموسيقى الخالصة على المستويين الشكليين الجزئي، والكلي، هي في حقيقة تكوينها الفيزيقي نماذج لديناميكا صدور الكثرة عن الواحد، يمكن تكميمها من أكبر وحداتها كموجات ميكانيكية إلى أصغرها من جهة، وهو أوضح في المستوى الجزئي، كما يمكن تأويلها كاجتماع أعضاء، وأوصال، تنتهي بالجسد الكامل النهائي، وهو أوضح في المستوى الكلي. إن الموسيقى الخالصة إذًا صالحة لأن تكون “خطة صُدُور” في الاتجاهين بين المستوى الأكبر، والمستوى الأصغر.
لكن رؤيتنا لا تكتمل إلا بوضعها في سياق أبعاد العالم: الزمان، والمكان.
إن الجسيمات التي تسير بسرعة الضوء، كالفوتونات، لا يمرّ عليها الزمان، وما يسير بأكبر من سرعة الضوء – وهو مستحيل فيزيائيًا – سيمرّ هو نفسه على الزمان، بدلًا من أن يمر عليه الزمان. سينتقل إلى الماضي؛ وهي من قبيل الحقائق المسلم بها اليوم في الفيزياء. هذا لأن سرعة الزمن هي سرعة الضوء، وهذا بدوره لأن سرعة الضوء هي سرعة السببية نفسها، كما يعلمنا ماثيو جون أُودَوْد (١٩٧٣- ؟) أستاذ فيزياء الفلك المساعد في جامعة مدينة نيويورك. ما يعني أنه لا يمكن لمؤثِّر ما أن يحدِث أثرًا بسرعة أكبر من هذه السرعة (ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة). هكذا تعيد نظرية الكوانتم تعريف الزمان؛ فإذا سار جسيم بسرعة الضوء بالضبط، فلن يمر عليه زمان، وما لا يمر عليه زمان يوجد في كل مكان في كل وقت. بالأحرى ما لا يمر عليه زمان لا يوجد في زمان، لأن الأصل في تعريفنا للزمان هو الحُدُوث، وطالما أن هذا الجسيم يسير بسرعة الحدوث نفسها فلن يحدث له، ولا حوله شيء. تخيلْ كونًا لا يحدث فيه شيء على الإطلاق، هذا هو الكون بالنسبة لمن يسير بسرعة الزمن، أي سرعة الضوء. لن يكون مثل هذا الكون نسيجًا من الزمان والمكان، سيكون فقط مكانًا؛ فلا معنى لزمان بلا أي حدَثٍ على الإطلاق.
يغير ذلك من مفهومنا عن الزمان؛ فنحن نتصور الزمان كأنه مجال يمر علينا، أو حولنا، لكنه – بحسب الكوانتم – في الحقيقة أصغر مسافة ممكنة بين جسيمين ليتفاعلا. يمكن أن نفهم ذلك بالطريقة التالية: لو سرنا بسرعة ثابتة، أيًا كانت، لقطع مسافة معينة، فإننا نصل إلى الهدف بعد وقت، هو محصلة قسمة المسافة المطلوب قطعها على السرعة: لو أنني أسافر إلى مدينة تبعد ٤٠٠ كم بسرعة ٢٠٠ كم في الساعة، فإنني أصل بعد ساعتين.
لنتخيل أننا سرنا بالسرعة نفسها، لكن لمسافة أقصر بكثير، ولتكن كيلومترًا واحدًا، فإننا سنصل بعد فترة، هي حصيلة قسمة الواحد الصحيح على ٢٠٠، أي ٠٫٠٠٥ من الساعة؛ ولنتخيل أننا تحركنا بالسرعة نفسها، لكن مع أقصر مسافة ممكنة على الإطلاق، فإن حاصل القسمة سيكون ضئيلًا جدًا إلى درجة أنه يؤول إلى الصفر. معنى أننا استغرقنا صفر زمن لنصل، أننا بالفعل هنا وهناك في لحظة واحدة. الفكرة هنا أن المسافة تتناسب عكسيًا مع السرعة المطلوبة لقطعها: كلما قصرت المسافة، كلما زادت سرعتنا (نسبيًا). ما يؤدي إلى القول بأن الزمان في الحقيقة – في ضوء الفيزياء المعاصرة – مفهوم تخيلي، هو في الحقيقة تصورنا بشكل ما عن المكان. لتفاصيل أكثر كذلك عن تصور الزمان في ضوء النسبية: الصياد، كريم: الزمان الموسيقي- دراسة مقارنة بين الزمان الموسيقي والزمان الطبيعي، المجلة السعودية للدراسات الفلسفية، عدد (٢).
ما أريد التوصل إليه هو أنّ السرمدية، حالة الزمن الساكن الذي لا يمرّ، وحالة المكان الساكن الذي لا يحدث فيه شيء، ليست حالة ميتافيزيقية بحتة. إنها ممكنة بأحد شرطين: إما الحركة بأقصى سرعة ممكنة (سرعة الضوء)، وإما الحركة بأي سرعة ولكن مع أقصر مسافة ممكنة (مسافة بلانْك)؛ وفي السرمدية، حيث لا يوجد حدوث، وبالتالي لا يوجد زمان، لا يبقى من الأبعاد غير المكان.
في الحقيقة هذه النتيجة نفسها، التي تنتهي إليها الكوانتم، هي التي تبدأ بها نظرية الفيض. كما قلنا: الفيض يتحرك عكس اتجاه حركة الكوانتم: من أعلى إلى أسفل، ومن الكل إلى الأجزاء. إن الزمان بحسب أفلوطين لا وجود له إلا في عالمنا الطبيعي، أما بالنسبة للواحد، البروتون، فلا يوجد غير مكان وسرمدية، ولا توجد فيه فواصل أو مسافات. Cf. Plotinus, The Enneads, translated by Stephen MacKenna, Faber and Faber Limited, London, 1956, pp. 223-224. التشابه واضح بشكل مثير في النقطة الأخيرة بالذات.
بالتالي إن الطبيعة، الكثرة والتنوع الصادرة من حالة التجانس الأولية، والتي يمر عليها زمان، هي نتيجة تولُّد المسافات، وافتراق الكل المتجانس إلى أجزاء؛ لأن المسافة كما قلنا هي أساس الزمان، ولا مسافة بلا افتراق وأجزاء. هذا هو إذًا قانون صدور الكثرة عن الواحد في النهاية: الافتراق، والتجزُّؤ، أي المسافة.
لكن الموسيقى تقدم لنا في الواقع عكس هذا التصور، حيث يتساءل بيتر كيفي: لو أننا قرأنا في الصحف غدًا أن لصًا سرق لوحة الموناليزا من اللوفر، فإننا نعرف ما سرقه، ونعرف أنها سرقة؛ لكن لنتخيل أننا قرأنا أن لصًا سرق سيمفونية بيتهوفن الخامسة، فما الذي سُرِق؟ وهل هي سرقة؟ Kivy, Peter, Introduction to a Philosophy of Music, Clarendon Press, Oxford, 2002, p. 202. السبب في حيرتنا في الحالة الثانية هو أن السيمفونية – عكس اللوحة – لا توجد بالضبط في مكان. صحيح أن موجات الصوت لها مكان، ولها سرعة، وأن مدونة السيمفونية لها مكان، لكن كل هذا ليس السيمفونية الخامسة. إن العمل الموسيقي لا مكان له، لأنه كما قلنا في التصدير ديناميكا، نمط تغيُّرٍ؛ وتحدث الأنماط المتغيِّرة، أي التي يجري عليها التحول، في زمان فقط، ولا “تقع” في مكان. إذا كان أصل الزمان – كما أسلفنا – هو المسافة، فإن الزمان الخالص منطقيًا مسافة لا نهائية.
ما يمكن أن نصل إليه بعد كل هذا هو إمكانية فهم صدور الكثرة عن الواحد في اتجاهين متعاكسين: الكوانتم والفيض يقدمان قانون هذا الصدور في مقولة الافتراق، التي تصنع المسافة، وبالتالي تولِّد الزمان في المكان الخالص، فتنشأ الطبيعة (الزمكان)، أما الموسيقى فتقدم زمانًا خالصًا بلا مكان؛ وهو بلا مكان لأنه مسافة لا نهائية، حيث تفترض المسافة اللا نهائية منطقيًا عدم وجود شيء متمكِّن – له مكان – على الإطلاق. تقابل السرمدية، التي تفترضها نظريتا الكوانتم والفيض، زمانية مطلَقة في الموسيقى الخالصة، العكس المباشر للسرمدية، التحول المطلق، والديناميكا التامة، تامة إلى درجة أنها بلا مكان. من هنا يمكن أن نضع الاستنتاج النهائي: أن الموسيقى عكس السرمدية؛ وإذا كان كوننا، كما تفترض أيضًا نظريتا الكوانتم والفيض، معلقًا بين سرمدية لا مسافة فيها، وبين كثرة تفصلها مسافات محدودة، فإنه كذلك، ومن خلال قراءة موسيقية للطبيعة، معلَّق بين سرمدية ذات مكان مطلَق، وزمانية خالصة بلا مكان.
إن الموسيقى في النهاية ليست فقط قراءة ممكنة للطبيعة، حالة افتراضية لزمانية مطلقة خالية من المكان، بل هي بشكل ما، وكما يؤدي المنطق، الوجه الآخر لعملة السرمدية، البُعد المكمِّل للطبيعة نفسها.