fbpx .
Stravinsky Korsakov Neoclassicism ontemporary Classicism Ma3azef سترافنسكي كورساكوف نيوكلاسيكية كلاسيكية معاصرة معازف

دورة حياة الموسيقى | عن النيوكلاسيكية والكلاسيكية المعاصرة

محمد عمر جنادي ۲۰۲۰/۰۹/۲٤

هل تخضع الفنون إلى التطور بمعناه البيولوجي؟ بمعنى، هل توجد مثلًا أنماط موسيقات غير صالحة للبقاء؟ الإجابة التلقائية عادةً ما تكون بالنفي. لكن لا يمكن أن يستند هذا النفي فقط إلى عادات التلقي اليوم، التي يمكن أن يتجاور فيها مثلًا الاستمتاع بالمنجزات الفنية لعصر النهضة، مع أعمال الفن المفاهيمي وما بعد المفاهيمي، والاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية الغربية إلى جانب الطرب الشرقي؛ بينما لم تتوقف الأصناف الموسيقية عن الظهور والانتشار في الشرق والغرب، معلنةً أنها الأقدر على التعبير عن صوت العصر، من الجاز إلى الروك والميتال والموسيقى الإلكترونية والمهرجانات والراب.

يوضّح المؤرخ ثيودور فيني في كتابه تاريخ الموسيقى العالمية أن هناك نوعين محددين من التطور، أولهما “نمو الإدراك والاستخدام الفني للخامات الموسيقية”، وثانيهما “تطور فلسفة جمالية لفن الموسيقى نتيجة محاولة الإجابة عن سؤال: ما هو الغرض من الموسيقى؟” يبين فيني التأثير المتبادل بين النوعين، والذي ينتج دورات cycles من التطور الفني: “عندما يجري تقنين أدوات وخامات جديدة، فإن استكشاف استعمالاتها يؤدي أولًا إلى صيغ جديدة، ثم يؤدي أخيرًا إلى استغلال الأدوات والصيغ الجديدة معًا لأغراض تعبيرية.”

سأحاول تناول النيوكلاسيكية كمرحلة في التأليف الموسيقي الغربي، لها جمالياتها وسماتها الفنيّة الخاصّة. تجدر هنا الإشارة إلى أن أحد الفروق الرئيسية بين مصطلحي النيوكلاسيكية Neoclassicism والكلاسيكية المعاصرة Modern / Contemporary يرجع إلى عامل تاريخي في المقام الأول؛ حيث استقرت تسمية النيوكلاسيكية على نوع من الفهم الجمالي للموسيقى مطلع القرن العشرين في الفترة ما بين الحربين العالميتين، إضافةً إلى بعض الإرهاصات التي ساعدت على نشأتها. بينما يُشار إلى المقاربة الكلاسيكية للموسيقى في النصف الثاني من القرن، بدايةً من الستينات حتى الألفية الجديدة، بالكلاسيكية المعاصرة.

بالنسبة إلى السمات الفنية، ترتبط الكلاسيكية المعاصرة بالنيوكلاسيكية، وتشترك في سماتها وفهمها للغايات الجمالية من الموسيقى، بشكل يفوق الاتجاهات التجريبية والطليعية المعروفة منتصف القرن العشرين.

المصطلح

في البداية، يجب أن نفرّق بين الكلاسيكية كمرحلة فلسفية وفنية ورؤية للعالم من جهة، وبين الصفة الكلاسيكية للعمل الفني من جهة أخرى.

تأسست الرؤية الكلاسيكية للفن على سمات محددة: الأصالة والتأثير الوجداني والتناغم والروح المثالية، وتأثرت في الكثير من منطلقاتها بفلسفة كانط عن الجمال. لكننا نطلق في بعض الأحيان صفة الكلاسيكي على عمل فني حداثي أو معاصر، كنوع من المديح. يوضح الفيلسوف سلافوي جيجك أن أفضل تعريف لعمل كلاسيكي هو أنه “يعمل مثل عيني الله في أيقونة أرثوذوكسية: بغض النظر عن مكان وقوفك في الغرفة، يبدو وكأنهما تنظران إليك على التحديد.”

يتجاوز العمل الكلاسيكي نزع السياق de-contextualization، أو كما يبين جيجك فإن الطريقة التي نختبر بها عملًا فنيًا عظيمًا هي التساؤل عن كيفية ذلك التجاوز، والتحول إلى سياق جديد. يقول جيجك إنه مع كل سياق جديد “يبدو العمل الكلاسيكي مرتبطًا بصفة محددة جدًا لكل عصر.” يصبح العمل الكلاسيكي مجاوزًا نفسه وعصره على الدوام. يدعو هيجل تجاوز عصر سابق والارتباط بعصر لاحق قريب ﺑ الكلية العينية.

تسعى الحركة أو الممارسة النيوكلاسيكية، في رأيي، إلى نوع من هذا التجاوز للسياق من أجل الارتباط بعصرها وتجاوزه في آن. سعيٌ ظاهره التناقض. بكلمات أخرى، تسعى النيوكلاسيكية، بإحيائها تقاليدًا وأساليبًا موسيقية بعيدة عن سياقها الزمني المعاصر، والمُمثلة في الموسيقى الكلاسيكية والباروكية، إلى خلق موسيقى أكثر تعبيرًا عن عصرها. من خلال هذا التعبير، تأمل النيوكلاسيكية في قدرتها على الاستمرار. 

عند صعودها، كان تقدير النيوكلاسيكية للتقاليد الراسخة يفوق اهتمامها بالتجريب والرؤى الطليعية. إلا أنها لم تعتمد كليةً على محاكاة الأساليب القديمة، وإن ارتكزت على بعض خصائص عصر الباروك والمرحلة الكلاسيكية كما أسلفنا. تجلت النيوكلاسيكية كردة فعل على تكلف الرومانسية / الرومانتيكية المتأخرة وتشتتها، وكذلك على تعقيدات اتجاهات أكثر حداثة، مثل التأثيرية والتعبيرية.

اتجهت الرومانتيكية في الأساس إلى استكشاف “الإمكانيات الهارمونية الجديدة”، كما يوضح ثيودور فيني. نحا الموسيقيون إلى الاستخدام المتحرر للتنافر dissonance، وأصبحت الإمكانيات التلوينية للهارمونيات المتنافرة “مصدر إثارة لا نهاية لها”. تدفعهم الرغبة إلى اكتشاف “مبدأ بنائي مغاير”، سعيًا إلى تحطيم العلاقات التي كان النظام المقامي يعتمد عليها.

يُبين فيني أن الاتجاه نحو المزيد من التعقيد الهارموني خلق مشكلتين ترتبطان بالأسلوب والبناء؛ أولهما القضاء التدريجي على التوازن Balance في عناصر الأسلوب الموسيقي، بين الإيقاع والتلوين واللحن والهارمونية. لا تتجانس الألحان المبنية على أساس من التآلف الثلاثي البسيط للنظام المقامي الكلاسيكي مثلًا مع الهارمونية الكروماتية الموضوعة لها، وغالبًا ما تكون مصدرًا للتشوش. المشكلة الثانية هي تميُّع العلاقات المقامية، نظرًا إلى البناء الموسيقي المعتمد إلى حدٍ كبير على وضوح التباين بين المقامات.

توارت أهمية الجمال أو العناية بالعذوبة خلف المشاكل الخاصة بالصياغة والأسلوب. كان على المؤلف الموسيقي أن يبني لنفسه أسلوبًا جديدًا، وأن يبحث عن مبدأٍ أساسيٍ جديد في البناء. لذلك تنطلق أهم السمات المميزة للنيوكلاسيكية، حسب البروفسور فيليب ماجنسون، من الرغبة في التوازن والوضوح؛ إضافةً إلى سماتٍ أخرى مثل الموضوعية والاقتصاد.

تحاول النيوكلاسيكية بالتالي استعادة التوازن، بعد أن فُقد مع كل إضافة جديدة إلى النظام الهارموني، والسعي إلى الوضوح في مقابل التشوش وعدم التجانس، الناتجين عن تزايد انتشار التلوينات الهارمونية والإضافات الكروماتية، كما يبين الناقد لورانس دريفوس.

ديبوسي وموسيقى القرن العشرين 

يعد الموسيقار الفرنسي كلود ديبوسي المؤلف الذي بدأ تيار الموسيقى الحديثة، وكان له تأثيرٌ ممتد على القرن العشرين. حقق ديبوسي توازنًا بارعًا بين الأسلوب وأداة التعبير، ونجح في خلق أسلوبٍ خاصٍ به عن طريق مساءلته لطبيعة كل من السلَّمَين، الدياتوني والكروماتي، ثم تخليه عنهما وتفضيله نظامين أكثر بساطة وبدائية: المقامي والخماسي Pentatonic (كما يذكر الناقد الفرنسي جان أوبري في مقدمته عن الموسيقى الفرنسية).

بدأ ديبوسي بسلالم جديدة على الموسيقى الهارمونية، وقدم موسيقى تتميز بالتناسق البنائي في تصميمها، والذي يستطيع أن ينقل إلى المستمع من خلاله نوعًا من الجمال الحسي المفقود. يمثّل ذلك جوهر تأثيرية ديبوسي، والتي يراها فيني مشابهةً لنفس التأثيرات الحسية التي حققتها التأثيرية في الفن التشكيلي بواسطة اللون. 

مع ذلك، لا يندرج ديبوسي ضمن ملحني النيوكلاسيكية، إنما يعده المؤرخون رائد التأثيرية. لم تلبث التأثيرية أن انحدرت لأنها، رغم أهمية دورها، كانت نابعةً من الأسلوب الشخصي لفنانٍ عبقري واحد. كأن ديبوسي قد استنزف كل الإمكانيات المتاحة للأدوات الموسيقية التي اكتشفها، ولم يكن ما بعده سوى التكرار، كما يؤكد فيني.

إذا كانت النيوكلاسيكية قد أقامت بعض خصائصها كردة فعل على التأثيرية، فما هي العلاقة الممكنة بينها وبين موسيقى ديبوسي؟ يمكن أن نقول إن ديبوسي أول مؤلف ينشر تجديدات القرن العشرين على نطاق واسع؛ ورغم اختلاف النيوكلاسيكية من حيث رؤيتها للمقامية والتآلف والنسيج البنائي، كان تحرر ديبوسي من القواعد الصارمة الحاكمة للتآلفات في النظام المقامي / التونالي، واتجاهه إلى تفعيل أسلوبية الفنان وقدراته الإبداعية، من العوامل التي ساهمت في خلق رؤية جمالية جديدة. 

عبث إريك ساتي

تشكِّل لغة إريك ساتي الموسيقية، ببساطتها وميلها نحو السخرية والعبث، نقضًا لجدية مفاهيم المدرسة الرومانسية، خاصة في مرحلتها المتأخرة. تقدم عناوين مقطوعاته دليلًا كافيًا على الروح العابثة: ثلاث مقدمات مترهلة (من أجل كلب)، رنة لإيقاظ ملك القرود الكبير والطيب (الذي لا ينام إلا بعين واحدة) – وعندما نصحه ديبوسي بأن يولي مزيدًا من الاهتمام بالصيغة / الفورم / البنية، كان رده: مقطوعات في بنية الكمثرى.

جمع ساتي بين البساطة والشفافية ونبذ الفيرتيوزية Virtuosoism في صيغتها الرومانسية من جهة، وبين التعدد الهارموني (بوليهارموني Poly harmony) من جهة أخرى. إذ تتصل التآلفات الهارمونية، في بعض أعماله، بعدة محاور مقامية يمكن أن تُسمع في وقتٍ واحد، كما يوضح فيني. يمتد تأثير ساتي إلى الكثير من المؤلفين اللاحقين، مثل سترافنسكي الذي استلهم منه الاهتمام بالجاز والموسيقى الشعبية. ساهمت نزعة ساتي إلى التبسيط والتكرارية في ظهور التقليلية / المينيمالية، النهج التأليفي الأكثر انتشارًا بين مؤلفي النصف الثاني من القرن العشرين.

إيجور سترافنسكي وفلسفة النيوكلاسيكية

بعد أن اشتهر سترافنسكي عالميًا من خلال ثلاثة أعمال باليه: طائر النار ١٩١٠، بتروشكا ١٩١١ وطقوس الربيع ١٩١٣، تحول منذ عام ١٩٢٠ إلى ميدان الموسيقى البحتة، منتجًا أكثر من كونشرتو وعددًا من السيمفونيات ومقطوعات البيانو. لا تنحصر المؤثرات الثقافية في موسيقى سترافنسكي في ثقافته الروسية وحسب، بل تمتد لتشمل التيارات الثقافية الباريسية والأمريكية. يوضح ثيودور فيني أن أعمال سترافنسكي تستكشف كل الإمكانيات الفنية لأغلب الاتجاهات “التي يمكن للموسيقى الحديثة أن تسلكها”، وكان لابد من “ابتكار تسمية لمذهب جديد بظهور كل عمل جديد له.”

أدخل سترافنسكي على الموسيقى الحديثة عنصرًا إيقاعيًا جديدًا حيًا، نتيجة اهتمامه بالموسيقى الشعبية الروسية والجاز الأمريكي، وبالطقوس الشعائرية الوثنية أو البدائية، وبإيقاعات اللغات القديمة. ينبع اهتمامه بكل تلك الروافد من سعيه إلى اكتشاف إمكانيات الإيقاع.

يميل سترافنسكي إلى أقصى استخدام للتنافر، دون الاستغناء عن المحور المقامي / التونالي. كما يميل إلى مزج كلاسيكية معلمين كبار مثل باخ وتشايكوفسكي وكورساكوف، مع تجريبية شونبرج في نظام الاثنتي عشرة نغمة.

ينسج سترافنسكي الكنترابنط من كتل متعارضة من الأصوات، معطيًا مفهومًا جديدًا للمعالجة اللحنية، ويخلق أحيانًا التونالية من التوكيد assertion على نوتة بعينها لتعلو على غيرها، كما فعلت المقاربة البدائية primitivism للموسيقى بعد ذلك.

فلسفة جمالية جديدة

يتساءل فيني عن الغرض الرئيسي الذي سعى سترافنسكي إلى تحقيقه في إبداعه الفني، ويُبين أن هناك إجابتين، إحداهما بالنفي والأخرى بالإيجاب. أي إن سعيه يتضمن هدمًا وبناءً. يجيب فيني بأن الهدف الهدام يتمثل في الإنكار الكامل للرومانتيكية؛ أما هدف سترافنسكي البنائي، إن جاز التعبير، فيتحدد من خلال الفلسفة الجمالية للموسيقى، وقوامها خلق موسيقى موضوعية، لا شخصية impersonal، ومحاولة تحطيم لا الصيغة السيكولوجية فحسب، بل التضمينات السيكولوجية للأدوات الموسيقية أيضًا.

أراد سترافنسكي العودة جماليًا إلى فترة سابقة على تلك التضمينات والانفعالات. يقول فيني: “وبما أن المقارنة بين كلاسيكية القرن الثامن عشر وبين الرومانتيكية التي جاءت بعدها تدل على أن الكلاسيكية أكثر موضوعية، من أجل ذلك أُطلق على فلسفة سترافنسكي الجمالية اسم الكلاسيكية الحديثة، أو النيوكلاسيكية.” في محاولة سترافنسكي تحقيق موضوعية نيوكلاسيكية، تكون السمات الجمالية للنيوكلاسيكية قد تحددت بشكلٍ جلي، رغم ظهور العديد من الفنانين بعد ذلك حتى منتصف القرن العشرين. 

من موضوعية سترافنسكي إلى إسهام ديبوسي في إعادة التوازن والوضوح، مع بساطة ساتي وتحديه الهدام واهتمامه بالموسيقى الشعبية، نهضت أركان الفلسفة الجمالية الجديدة. 

توالى ظهور عدد من الموسيقيين في الحقبتين الأولى والثانية من القرن العشرين، ظل إسهامهم في التجديدات الجذرية ضئيلًا مقارنةَ بسترافنسكي، أو بتجديدات شونبرج مع بداية القرن. حاول بيلا بارتوك وزولتان كوداي مثلًا إعادة اكتشاف الموسيقى الشعبية المجرية، وتوظيفها في أعمالهما. 

مع نهاية الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٨، أصبحت باريس مركزًا للنشاط الموسيقي، وللاتجاهات الثورية المتأثرة بسترافنسكي وديبوسي من قبله، وكذلك بثورة بيكاسو في حركة الفن التشكيلي. كرد فعل ضد الرومانتيكية، تكونت مجموعات وحركات موسيقية متنوعة في باريس، أبرزها جماعة الستة التي ضمت: داريوس ميلو، آرتور هونيجير، لوي دوري، جورج أوريك، فرانسيس بولنك وجيرمان تايفير. قامت الجماعة بدور “الداعي إلى الفلسفة الجمالية لإريك ساتي”، وقطع كل صلة برومانتيكية القرن التاسع عشر. لم تكن الجماعة ذات توجه موحَّد، وتعددت الاختلافات بين أعضائها الستة. 

خارج باريس، تحديدًا في وسط أوروبا، كانت الانعكاسات السياسية والاجتماعية بعد الحرب العالمية الأولى متضافرةً مع بدايات صعود الشمولية قبل الحرب الثانية. يبين فيني أن نشاط الموسيقيين التأليفي والإبداعي انقسم إلى مجموعتين: المجموعة الفييناوية، أتباع شونبرج، ومن أبرز فنانيها آلبن بيرج وآنطوان فيبرن، ومجموعة شمال ألمانيا المستقلة عن مبادئ شونبرج، ويعد باول هندمث اسمها الأبرز، ويمكن اعتباره مساهمًا في الإضافة إلى الفلسفة الجمالية للنيوكلاسيكية.

تلقى هندمث تعليمه الموسيقيّ منذ سن الثانية عشر. عزف الكمان والبيانو والطبل، ودرّس التأليف في برلين، ثم انتقل مع صعود النازية ليستقر في الولايات المتحدة، حيث مارس العزف والتأليف. تدل أعمال هندمث المبكرة على درجات عالية من الصنعة، مع أسلوب لا يخلو من الزخرفة والباروك. لم يلبث أن تجرد هندمث من الفرتيوزية والتعقيدات الباروكية مع مراحل تطوره الفني، وتوصل إلى أسلوبٍ لحنيّ قادر على التوافق مع هارمونية لا مقامية، وتقديم نسيج بوليفوني، حيث تتسق وتتجمع فيه الأصوات / الألحان المتآلفة. توضّح رباعية هندمث الوترية، مصنف رقم ٢٢ استخدامه الكنترابنط المتنافر.

لا يستخدم هندمث اللاتونالية / اللامقامية على طريقة شونبرج، حيث يميل نظام شونبرج النغمي إلى مقاومة أي محور مقامي. يوضح فيني أن هندمث يحتفظ في تآلفاته بالمسارات الأساسية، بل والتقليدية، للتونالية السُلمية، لكنه يخفيها في بنية فوقية Super structure بالغة التنافر.

إلى جانب فرنسا والدول الناطقة بالألمانية، يُعتبر الملحن الروسي سيرجي بروكوفييف ممن حظوا بمكانة دولية خارج الحدود القومية. في سيمفونيته الأولى، يقارب بروكوفييف أسلوب هايدن، ويجمع بين الكلاسيكية والعناصر الموسيقية الحديثة. لا تصل مقاربة بروكوفييف لـ هايدن حدَّ وجود اقتباسات لحنية، كما تتميز النقلات المقامية بالتحرر مقارنةً بالتأليف الكلاسيكي.

بنجامين بريتن جسرًا بين عالمين

يُعد المؤلف والموجّه بريتن شخصية مركزية في الموسيقى البريطانية في القرن العشرين. والموسيقار الذي أعتقد أنه يصلح للربط بين النيو كلاسيكية وما قبلها، وبين النصفين الأول والثاني من القرن العشرين، حيث يمثّل منجزه جسرًا بين النيوكلاسيكية والكلاسيكية المعاصرة.

تتراوح أعمال بريتن بين الأوبرا والموسيقى الغنائية والأعمال الأوركسترالية، من أبرزها أوبرا بيتر جرايمز ١٩٤٥، ونشيد جنائزي للحرب / قداس الحرب ١٩٦٢، ودليل الشاب إلى الأوركسترا ١٩٤٥. تأثر بأعمال ديبوسي ورافال وسترافنسكي، وكذلك ماهلر الذي ألهمت سمفونيته الرابعة بريتن بطبيعتها الهارمونية وإيقاعها المحموم. 

استضافت كاتدرائية كوفنتري أوّل أداءٍ لـ قداس الحرب، عقب بنائها مجددًا بعد تعرضها للدمار خلال الحرب العالمية الثانية. عملٌ للأوركسترا الكاملة وأوركسترا الحجرة، مع أصوات السوبرانو والتينور والبريتون، وموسيقى الأرجن، والكورال وكورال الصبية Boy’s choir. يتكوّن قداس بريتن من ست حركات، وينقسم إلى ثلاث مجموعات تتبادل وتتفاعل مع بعضها. يصاحب السوبرانو والكورال الأوركسترا الكاملة، ويصاحب التينور والبريتون المنفردان أوركسترا الحجرة، بينما يصاحب كورال الصبية الأرجن.

تأثَّرَ بريتن بصيغة القداس عند ملحنين كبار سابقين، بالأخص فيردي في قداسه الجنائزي الشهير. يستخلص بريتن الطبيعة اللحنية الدرامية من موسيقى فيردي، المنتمي إلى الأوبرا الرومانتيكية المتأخرة، ويضفي عليها من أسلوبه في عمل كلاسيكي معاصر غير منشغل بالموسيقى الطليعية أو التجريبية في أوروبا مطلع الستينات. يتميز قداس الحرب بالتوازن والوضوح، ومحاورته لأبيات من القداس بصيغته اللاتينية المعروفة في الشعائر الكاثوليكية، مع أبيات معاصرة من الشعر الإنجليزي.

الكلاسيكية المعاصرة

لا يتناول ثيودور فيني في عمله التأريخي الهام موسيقى بنجامين بريتن، ويكتفي بذكر اسمه فقط ضمن من وصفهم بـ “جيل مؤلفي إنجلترا الذين لفتوا الأنظار”، إلى جانب وليام والتون وكونستانت لامبرت. يتناول فيني في نهاية كتابه الموسيقى في أمريكا، وبعض ملامح نشأة الجاز.

ربما يمكننا القول بندرة المؤلفات التي تؤرخ لأعلام واتجاهات الموسيقى الكلاسيكية في النصف الثاني من القرن الماضي. بالطبع تتوافر كتابات عن أهم الموسيقيين في منتصف ونهاية القرن، لكنها لا تشكل دليلًا أو مرجعًا تاريخيًا جامعًا – على غرار عمل فيني – لمن يود التعرف على مؤلفي الكلاسيكية المعاصرة؛ ويرجع السبب في ذلك إلى فاعليتها المستمرة والآنية. إنها موسيقى الحاضر، وموسيقى الماضي القريب.

لا تشكل الكلاسيكية المعاصرة حركة موسيقية متجانسة أو تيارًا جماليًا بعينه. ربما يفسر ذلك غلبة التناول الفردي لأبرز أعلامها على الرصد البانورامي الشارح لمجمل الحركة. مثلًا، تركز كتابات واحد من أكثر المهتمين بموسيقى القرن العشرين، الناقد والمحرر ريتشارد كوستيلانتز، على إنجاز جون كايج وفيليب جلاس، حتى الأنطولوجيا التي قدمها تتناول منجز كايج بوصفه من رواد الطليعة، أما قاموسه عن الحركة الطليعية فيرصد مقتطفات من أثرها على الموسيقى والعمارة وفنون الأداء والفنون البصرية وغيرها، وكذلك كتابه جماليات معاصرة.

في معرض الحديث عن الكلاسيكية المعاصرة، سأتطرق إلى سماتها، وأنتقي بعض الأسماء التي صارت أعمالها جزءًا من الثقافة العامة، وأسهمت في بناء ذاكرة سمعية معاصرة، سواءً من خلال الموسيقى التصويرية أو المقطوعات والألبومات. يمكننا من خلال مقالات لاحقة أن نتناول أبرز أعلامها على نحوِ أكثر تفصيلًا.

ورثة باخ وساتي وديبوسي

يقول ثيودور فيني إن مؤرخ المستقبل “سيؤرخ من الجاز بدلًا من عام ١٦٠٠ م.” في نهاية عمله، يطرح فيني سؤالًا مهمًا: “ما مصير الأدوات الثورية والتكنيك المعقد للموسيقيين الجادين في العصر الراهن، إذا ما أصبح التبسيط الذي ستتطلبه موسيقى الأفلام هو الاتجاه السائد؟” 

يُجيب إنيو موريكوني على تساؤل فيني من خلال موسيقاه لقرابة ٤٠٠ فيلم. بتعاونه المظفّر مع المخرج سيرجيو ليوني في أفلام مثل ثلاثية الدولارات، ذ جود، ذ باد آند ذَ أجلي، وَنس ابّون أ تايم إن أمريكا، احتل موريكوني مكانه بين أفضل مؤلفي الموسيقى التصويرية.

أبدع موريكوني في استخدام الأجراس والجيتار الإلكتروني والهارمونيكا والقيثارة harp. تسبب ذلك بثورة في موسيقى أفلام الويسترن. تقابل ثورة موريكوني ثورة ليوني الأسلوبية التي أحدثها في الجانر السينمائي من خلال لغة بصرية خلابة. في ذ جود، ذ باد آند ذَ أجلي، تصدح أصوات الكورال ناطقةً بالصراع وسط الصحراء الشاسعة، الرمال والشمس والمقابر. تتكرر في الثيمة أصوات الصفير، في محاكاة لصوت رياح الصحراء التي تعصف بمطامع الإنسان، أو كقبض الريح، خاتمةً الصراع الإنساني.

قدّم موريكوني الموتيفة بثلاث تنويعات مختلفة لتقديم أبطال الفيلم، عن طريق عزفها بثلاث آلات مختلفة. تُقدّم شخصية بلوندي (كلينت إيستوود) من خلال الناي، وشخصية عين الملاك (لي فان كليف) على آلة الأكرين Ocarina، وتوكو (إيلي والاش) من خلال الكورال. تسهم الموسيقى في رسم ملامح الأبطال وحدود شخصياتهم، وينتج الحوار أو الصراع بين الشخصيات بتداخل الآلات.

في مقطوعة ذ إكستاسي أُف جولد، يقدّم موريكوني عملًا أوركستراليًا في ثلاث دقائق. تصاحب الموسيقى مشهد البحث المسعور لشخصية توكو في مقبرة جماعية، لإيجاد القبر الذي يحوي العملات الذهبية. دقات طبول متسارعة تتبعها جملة بيانو، وقبل أن تبدأ جملة البيانو بالتردد بانتظام طوال المقطوعة، يدخل صوت الناي وينفرد بالمقدّمة. تصمت جملة البيانو تاركةً الناي بمفرده للحظات، ثم تعاود التكرار. يعقب صوت السوبرانو الناي على خلفية من الوتريات. يخلق موريكوني تصاعد النشوة من هارمونية فريدة تجمع الوتريات مع أصوات الكورال والأبواق والسوبرانو وآلات النفخ النحاسية، فيما تتداخل الأصوات وتتبادل مراكزها في بوليفونية. الطريف أن فرقة ميتاليكا تستخدم مقطوعة ذَ إكستاسي أُف جولد كمقدمة لكل حفلاتهم منذ الثمانينيات. 

يقول موريكوني إنه يستخدم باخ كوحدة بنائية في تشييد موسيقاه التصويرية، مثل “المهندس الذي يستخدم القرميد أو الآجر لبناء قصر جميل”، ويضيف أن موسيقاه “دائمًا في خدمة الفيلم وتقبع في القلب منه.”

تجنح مقطوعات موريكوني اللاحقة، في وَنس ابّون أ تايم إن أمريكا أو سينما باراديسو، إلى البساطة أكثر فأكثر، السمة الأبرز ﻟباخ، وتخلو أغلب الوقت من الكريشندو ولحظات التصاعد، ربما لغياب احتدام الصراع كما في أفلام الويسترن، أو لأن الصراع بمعناه المادي المتوحش لا يشكّل محور هذه الأفلام. تحل ثيمة الزمن محل الصراع. الزمن في تسربه من بين أيدينا، والشجن الذي يخلفه في نفوسنا. خلق موريكوني النغمة التي تقبض على تلك الرهافة مع كل عمل جديد.

تقابل وفرة موريكوني تقليلية مايكل نيمان. في أرشيف الملحن البريطاني، الذي يشمل مقطوعات للبيانو وسيمفونيات وأعمال مكتوبة للسينما والأوركسترا والكورال ورباعي الوتريات، ما جعله واحدًا من أهم الشخصيات في الموسيقى المعاصرة.

عمل نيمان ناقدًا موسيقيًا في فترة من مسيرته، وصكّ مصطلح الموسيقى التقليلية Minimal Music عام ١٩٦٨. ظل في السنوات التالية مُلهمًا ومؤثرًا في العديد من معاصريه، مستقطبًا إياهم إلى النهج التقليلي (مثل فيليب جلاس وستيف ريتش). في رأيي، يمكن اعتبار نيمان وريث التقليد التبسيطي التكراري في التأليف، كما سبق وأشرنا إليه عند ساتي. ذلك على الرغم من بداياته المنحازة إلى الموسيقى التجريبية والتيارات الطليعية كما قدمها جون كايج وشتوكهاوزن في منتصف ستينات القرن العشرين. تشابه عودة نيمان المتمردة إلى المقامية عودة مؤلف موسيقي معاصر هو أرفو بارت، الذي تحول كذلك من نظام الاثنتي عشرة نغمة اللامقامي إلى مقامية بسيطة. 

تتعدد الاستلهمات الكلاسيكية في أعمال نيمان. موتسارت صاحب التأثير الرئيسي على عمل نيمان إن رِي دون جيوفاني، بينما يُعتبر شومان الملهم الأكبر وراء أوبرا الحجرة ذَ مان هو ميستوك هيز وايف فور أ هات، ويلقي بارتوك بظلاله على عمل نيمان الثاني لرباعي الوتريات. 

اشتهر نيمان بأعمال الموسيقى التصويرية. لعل أشهرها مقطوعة ذَ هارت آسكس بلِجر فرست من الفيلم الفائز بسعفة كانّ الذهبية، البيانو، للمخرجة جين كامبيون. مقطوعة تمثل للذاكرة الموسيقية المعاصرة ما مثلته من قبل غنوصيات ساتي ونوكتورن شوبان؛ وهي مقطوعة بيانو تصاحبها الوتريات في فيلم يحكي عن الشغف بالبيانو، ويتمركز حوله كمحور للعاطفة والهوية الفردية.

من أنصار التقليلية أيضًا الملحن والمؤلف الياباني وعازف البيانو ريوتشي ساكاموتو (١٩٥٢). قدم ساكاموتو في ألبوماته الأولى إضافة حقيقية إلى الموسيقى الإلكترونية. في أواخر السبعينات، تشكل الثلاثي يلو ماجيك أوركسترا، الذي يضم ايضًا تسوشيتوري توشيوكي وهارومي هوسونو. أسهم الثلاثي في تشكيل ملامح الموسيقى الإلكترونية من خلال المبادرة في التقديم لأصوات ومشتقات مختلفة مثل السايبربنك، التكنوبوب، الموسيقى المحيطة وغيرها.

قبل نهاية العقد، بدأ ساكاموتو بإصدار ألبوماته الفردية، التي تنقلت بحرية بين الأنواع المختلفة، واختبر عبرها أساليبًا متنوعة. اتجهت الألبومات، شيئًا فشيئًا، من الموسيقى الإلكترونية الممتزجة بالموسيقى اليابانية التراثية إلى تأليف منفرد للبيانو، يتسم بالتقليلية، مع بعض التوظيفات لأصوات الطنين من السنث. في العقدين الأخيرين، نزعت أعمال ساكاموتو إلى التقليلية.

يكشف ساكاموتو عن كون كلود ديبوسي المؤلف الكلاسيكي الأكثر تأثيرًا فيه، ويصفه ببطله الشخصي. يقول ساكاموتو إن “الموسيقى الآسيوية أثرت بشدة في ديبوسي، وديبوسي أثر فيَّ، أنا، بشدة. إذًا، الموسيقى تلف العالم وتكتمل الدائرة.”

تتجلى عالميّة ساكاموتو في موسيقاه التصويرية، حيث تعاون مع العديد من أهم المخرجين حول العالم. تتعدد مقطوعات ساكاموتو المميزة؛ فوربيدن كلرز من فيلم المخرج الياباني ناجيزا أوشيما، ومقطوعاته في ذَ لاست إمبِرور وشِلترينج سكاي للإيطالي برناردو برتولوتشي، وكذلك مقطوعاته في فيلم الأمريكي بريان دي بالما، سنايك آيز، وموسيقى ذ رفنانت للمكسيكي أليخاندرو جونثالِث إنياريتو. إضافة إلى إسهامات ساكاماتو في ثقافة البوب من خلال تلحينه لموسيقى عدد من أفلام الأنيمي وألعاب الفيديو. 

يمكننا أن نستمع إلى مقطوعات موريكوني ونيمان وساكاموتو منفردةً ومنزوعةً من سياقها الدرامي، ما يتيح لنا حرية أكبر في تلقيها، دون أن نفقد أثرها وثراءها وطبيعتها الحوارية، شأنها في ذلك شأن كل مقطوعات الموسيقى التصويرية الهامة.

تتشارك هذه الأعمال المعاصرة مع الموسيقى الكلاسيكية، في صفتها الكلاسيكية بالمعنى الأشمل للكلمة. يتجلى ذلك في الموقف من عملية نزع السياق الذي ذكرناه في البداية؛ إذ يمكن للموسيقى التصويرية المعاصرة تجاوز الفيلم وعناصره الدرامية والسردية كسياق لبنية الفهم، مثلما تجاوزت الموسيقى الكلاسيكية نفس العملية من قبل، سواء كان ذلك السياق تاريخيًا اجتماعيًا رافق نشأتها، أو معتمدًا على الموروث الإنساني من الحكايات الريفية والشعبية والأساطير، مثلما اعتمد أغلب الموسيقيين الكلاسيكيين الكبار.

أرفو بارت ضد شونبرج

في بداية الستينات، أبدى الملحن الإستوني أرفو بارت اهتمامًا متزايدًا بنظام الاثنتي عشرة نغمة الهارموني، الذي ابتكره أرنولد شونبرج مطلع العشرينات، بل وقام في أعماله المبكرة، مثل أوركسترا نكرولوج وعمله الكورالي كريدو، بالتأليف والتجريب ضمن نظام شونبرج المعقّد.

منعت سلطات الاتحاد السوفييتي كريدو، التي تعني عقيدة بالإيطالية، إذ تصرّح المقطوعة علانيةً بالإيمان بالمسيح. أتت المقطوعة لتؤذن بنهاية مرحلة التجريب والتأليف الشونبرجية. واجه بارت بعدها مأزقًا إبداعيًا وانقطع عن التأليف لسنوات، وبحث في الموسيقى منذ بدايتها المبكرة، مع الاهتمام بالموسيقى الطقوسية الكنسية. 

بحث أرفو بارت بدأبٍ عن لغة موسيقية تميِّزه، تستلهم التراث وتسعى إلى التآلف والوحدة والتناغم. كان من العسير الوصول إلى تناغم موازٍ في الموسيقى من خلال بنية نظام تقاوم التناغم.

ابتكر أرفو بارت ما سماه أسلوب تينتينابولي Tintinnabuli style. تعني الكلمة، المشتقة من تينتينابولام، الجرس الصغير باللاتينية. يعد أسلوب بارت عبارة عن ثلاث نوتات من الأجراس، الجرس كطابع للصوت، ويقوم على نوعين من الأصوات: الأول صوت تتابعي يحدد التآلف الثلاثي Triad، والثاني دياتوني.

مثّل أسلوب بارت الجديد نوعًا من الانتفاضة الأسلوبية على التعقيد المركّب لبعض المذاهب الحداثية. سعى بارت إلى المقامية والبساطة، منتهجًا التقشف كأسلوب فني،  كما يتجلى في أعماله الأيقونية الأوسع انتشارًا التي قدمها قبل نهاية السبعينيات: فراترس ١٩٧٧، تابولا راسا (١٩٧٧)، وشبيجل إيم شبيجل (١٩٧٨).

https://www.youtube.com/watch?v=UCx-Meklym0

يشترك بارت مع التقليلية في سماتها العامة، من توظيف الحد الأدنى من المواد في البناء الموسيقي، والتكرارية والإيقاعات المتمهلة، والهارمونية. لكنه يتمايز عن بقية التقليليين بتضمينه موسيقاه أبعادًا سردية مستمدة من النصوص الدينية، كما في أعماله الكورالية من نهاية الثمانينات إلى الآن، وفي سيمفونيته الرابعة ومقطوعته مرثية آدم. كذلك يعمل التكرار في مقطوعاته على البدء من التنافر بغاية الوصول إلى التوافق.

فيليب جلاس وآخرون

لا يحب الملحن الأمريكي فيليب جلاس وصف موسيقاه بمصطلح التقليلية، ويفضل أن يصف نفسه كمؤلف لموسيقى ذات بنية تكرارية. اقتنع جلاس بأنه لا يمكن أن يصير مجرد واحد من حوّاري أو تلاميذ جيل الطليعة التجريبي، كما مثّله شتوكهاوزن وكايج ولوشيانو بيريو. لم يرفض جلاس موسيقى هذا الجيل، إنما قرر، حسب تعبيره، النأي عنه والبدء من مكانٍ آخر.

في المقابل يحب جلاس أن يوصف بالكلاسيكي، ويشير إلى أنه قد تعلم الهارمونية والكونترابنط من دراسة موسيقيين مثل شوبرت وموتسارت وباخ، كما تتلمذ على يد المعلمة والملحنة الفرنسية المرموقة ناديا بولنجر، التي علّمت كثيرًا ممن صاروا أسماءً موسيقية بارزة في القرن العشرين.

تنوع إنتاج جلاس بين الأوبرا، السيمفونية، الأعمال الأوركسترالية، الكونشرتو والموسيقى التصويرية، إضافةً إلى مقطوعات البيانو المنفرد الشهيرة.

من الصعب تلخيص مسيرة فيليب جلاس الإبداعية. سأكتفي الآن بأن أشير إلى أن موسيقى جلاس تفقد الكثير من فرادتها عند محاولة حصرها ضمن نهجٍ بعينه. مثلًا، تقليلية جلاس مغايرة إلى حدٍ كبير لتلك التي قدمها ستيف رايتش. في مقطوعة البيانو الشهيرة ماد رَش يقدم جلاس الحياة بأكملها بين نوتات قليلة. طيف لا محدود من المشاعر الإنسانية. يؤكد النسيج الافتتاحي للمقطوعة المكون من ثلاثة أصوات على نسق من نوتتين تُلعبان مقابل بعضهما البعض، بإيقاع متعدد الطبقات polyrhythm بنسبة اثنين مقابل ثلاثة. تتباين البداية مع ما يليها من ميزان رباعي، حيث تعزف اليدان ستة عشر نوتة، وتضيفان ضربتين زائدتين مع المازورة الرابعة.

كأن مقطوعة جلاس نسيج للحياة نفسها، إذ يمثّل كل تغير بسيط في الميزان الإيقاعي التغيرات غير الملحوظة التي تحدث في حياتنا اليومية. تجسّد تلك المقطوعة ترياق فيليب جلاس ضد الاندفاع الجنوني الذي سمم الحياة المعاصرة. يمكن تشبيه موسيقى جلاس في غالبيتها بنسيج حي جميل ومشدود، بينما مقطوعات رايتش أشبه بشذرات حادة، متشظية، جافة بدرجة ما، ومقدّمة على عدة مراحل. 

ربما وصلت الحركة الطليعية إلى ذروتها في أعمال كايج وشتوكهاوزن، لذلك كانت مميزة لمرحلة تالية، عبَّر عنها مؤلفون موسيقيون، مثل جلاس وبارت، فقدوا تعاطفهم مع موسيقى الطليعة، كما فقد من قبل مؤلفو النيوكلاسيكية تعاطفهم مع الرومانتيكية.

لا يقتصر إنتاج الموسيقى النيوكلاسيكية على الملحنين المولودين في ثلاثينات وأربعينات ومنتصف القرن العشرين، إنما يقدم جيلٌ صاعد من الشباب إسهامات كبيرة في الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة، أذكر منهم ماكس ريختر المعروف بمقطوعته أُن ذَ نايتشر أُف دايلايت، والمؤلفَين الشابين الألماني نيلز فرام والأيسلندي أولافور إرنالدز، المعروفان لمزجهما التأليف الكلاسيكي مع الموسيقى الإلكترونية والطنين، وتخليق الأصوات كما في الموسيقى المحيطة، إضافة إلى دمج الموسيقى مع المؤثرات البصرية وفنّ الفيديو (video art).

يوضح فيني أن دراسة تاريخ الموسيقى كافية لإقناع دارسها “بأن أي شيء قد يأتي به المستقبل ليس جديدًا بالمعنى الحقيقي.” يخبرنا تاريخ الموسيقى الكلاسيكية نفسه أن جديدها لم يكن دائمًا خطوة نحو التقدم؛ والنيوكلاسيكية هي ابتعاث وتغيير وتجميع أساليب وصيغ وأشكال يعرفها المستمعون معرفة واعية أو غير واعية، لاستخدامها في عصر حديث، تتوارى فيه فكرة المهارة والصنعة خلف القدرة الآلية التكنولوجية على الخلق. من هنا تتجلى أهمية الموسيقى الكلاسيكية، الجديدة والمعاصرة. إنها موسيقى تبحث عن الفرد، وتحاول إعادة بعثه بعد نكوصه. إنها مقاومة لللامبالاة التي قال عنها من قبل ثيودور أدورنو إنها ضربت ذائقة الجمهور والمستمعين. إلا أن أدورنو لو عاش وسمعها ربما كان ليرفضها لأنها بسيطة ومتناغمة١.


١. يبين آلن هاو أن الموسيقى، وفق مفهوم أدورنو، يجب أن تقاوم الميل الزائف إلى التناغم. كما يفعل شونبرج في موسيقاه اللامقامية، التي تمثل تحديًا للقرارات المكرسة المعيارية للموسيقى الكلاسيكية، وهو بذلك يتحدى ميل المجتمع إلى “التناغم الزائف”. آلن هاو، النظرية النقدية: مدرسة فرانكفورت، ترجمة ثائر الديب.

المزيـــد علــى معـــازف