.
فتحدثت مع “أمير” هاتفيّاً:
“أمير أنا قادم إلى الإسكندريّة، معي بعض الأصدقاء وبعض الخردة من الآلات الموسيقيّة وبعض المشروبات ولابد أن نتقابل“.
وبالرغم من شكوكي في اهتمام موسيقيين جادين بمثل هذه الطقوس الهمجيّة، وجدت “أمير” أمامي بعد دقائق من المكالمة واقفاً في محطة مصطفى كامل على شارع “أبو قير” عند نصب تذكاري في انتظارنا. كانت الساعة الحادية عشرة مساءً، وأمير يرتدي ملبساً فضفاضاً وحماساً واضحاً. في حذائه بعض “الشيكرز” البيضاويّة بشريط لاصق فضّي اللون. بعدها لحق بنا صالح بغيتاره الأكويستيك متأخّراً كعادته، ودسوقي مصطحباً كي بورد “كاسيو” طفولي يعمل بالبطاريّات، وعيسوي على الساكسفون. وعلى هذا، قمنا بفقرة طويلة من التهريج الموسيقي. معظمنا لم يكن موسيقيّاً، بل مهتمّاً بالموسيقى فقط. وكان ظهور الثلاثي بمثابة إطراء لهذا العمل البوهيمي.
انتهت الفقرة بشكوى السكّان في العمارة المجاورة من الضوضاء. لنمضي من المنطقة قبل التورّط في مشاكل ونحن نردّد باستياء ساخر “ده فن“، في محاكاه للازمة المهتمين بالفن وسط مجتمع من الجهلاء، وكأن فقرة تهريج موسيقي مليئة بالضوضاء حتى الثانية صباحاً في منطقة تعج بالسكان أمر طبيعي لا يجب أن يشكو منه أحد.
***
في حفل تليبويتيك في “جزويت الإسكندريّة” 2011، وقفنا باعتبارنا الأصدقاء المقرّبين لأعضاء الفريق في الصف الأول، ليس فقط من أجل الدعم الاجتماعي أو المعنوي، ولكن لأنّه يندر أن تستمع إلى موسيقى روك حقيقية وسط مشهد موسيقي ممسوخ يغلب عليه الروك الخفيف الذي يبدو بلا جماهيريّة بدون إضافة لخفّة الدم والتنكيت. ولا أعلم لماذا تعد فكرة التنكيت الغنائي فكرة ضروريّة في الفرق المستقلة المعاصرة بمصر ولكن هذا ليس موضوعنا. الخلاصة أن سبب الحضور كان ناجماً عن استمتاع حقيقي منزّه عن المتع سريعة الهضم التي توفّرها الموسيقى الجاهزة. كانت التركيبات الصوتية المعقّدة لتليبويتيك – بالرغم من قلّة إنتاجهم الموسيقي نسبيّاً – كافية لتحدّد تميّزهم حتى مع خلو أعمالهم من الغناء، أو أي أسلوب مباشر في تحفيز المستمعين، أو ابتزازهم عاطفيّاً.
الفريق الثلاثي المكوّن من: محمّد دسوقي لاعب البايس، وأحمد صالح لاعب الغيتار والكي بورد والإلكترونيّات، وأمير رزق قارع الطبول والإيقاعات، يتميّز باتّزان نادر. فعنف دسوقي ووضوح نغماته على البايس يوازيه نغمات الموسيقى المحيطة (Ambient) التي لا تنافس اللحن الأساسيّ، ولكن تلفّها وتخلق لها مساحات للحركة. جديّة وتماسك هذا الحوار المحكم بين البايس والإلكترونيّات والغيتار يقابله من الناحية الأخرى أداء بدائيّ ولعوب مندفع من أمير على الطبول. وإذ كنّا في مسرح الجزويت الكبير، الذي لا يتميّز بجودة صوت عالية، خرج صوت قرع أمير على النحاس حادّاً وصادماً منزلي الصنع، مغطيّاً الهيكل الموسيقي بطبقة صدأ كاراجيّ (نسبة إلى موسيقى Garage Rock) محبّب. يصاحبهم محمّد عيسوي كعضو رابع أحياناً على الساكسفون بنوتات طويلة تكسر حدّة الصوت الإلكتروني للـAudio Controller، وتعطي الصوت اتّزاناً.
كذلك يوجد شق الفيديو في أعمال وحفلات “تليبويتيك” الأولى، والتي أرى أنّها جزء أساسي من منتجهم. أولاً: لأنّه يخلق هويّة بصريّة للفريق الذي اختار أن يبتعد عن مباشرة الكلمات، وثانياً: لأنّ ذلك المنتج البصري كان مكمّلاً للموسيقى. ربما كانت عروض الفيديو التي تعرض، خاصة في عروض الموسيقى الإلكترونيّة، على هامش الحفل للتزيين والتسلية البصرية مجرّد موضة، ما يضع الفريق خطأً تحت هذا التصنيف. إلا أن أعمال الفيديو كانت متناسقة مع الحس الفني أحياناً والهزلي أحياناً للفريق، والتي نجد فيها نفس نوع السخرية والاستهتار بالقواعد السائدة وإعادة التعريف بالجماليّات، بل وعلى نفس القدر من الأهمية أحياناً مع المنتج الصوتي. تتنوع الفيديوهات من تأثيرات الموسيقى المحيطة البسيطة، والتأثيرات اللونيّة من أعمال (Stop Motion) لـMiniatures طفوليّة، إلى ديكوباج مصاحب للموسيقى مأخوذ من فيلم لبروس لي، ليخرج منتج الحفل ثريّاً على الصعيد الصوتي والبصري، وذو شخصيّة واضحة متكاملة الجوانب.
***
تُفتتح الأسطوانة بمقطوعة بعنوان “الثانية” بتأثيرات هادئة لا تخلو من ديناميكيّة حذرة تحدّد هوية الموسيقى القادمة. يصاحبها امتداد لتأثيرات “موسيقى محيطة” طويلة تستطيل لتأخذ مساحاتها ثم تنحصر قليلاً بدخول البايس الذي يعلن عن الهيكل الغروفي (Groove) للمقطوعة. ويؤكّد على هذا “الغروف” مصاحبَة الدرامز الدقيقة وتأثيرات الصوت الحادّة التي يستخدمها صالح بدون كسر للايقاع الصارم للبايس. بينما تستمر الأصوات “المحيطة” لتملأ فراغات خلفيّة. تلعب معظم الآلات بشكل منظّم وواضح وغير ارتجالي. وبنقلة مفاجئة في منتصف المقطوعة، تتغيّر معها معظم الأصوات وسرعة الإيقاع، ولكنّها لا تبدو عنيفة بالقدر المقصود. ربما أن التسجيل الدقيق والنّقاء الصوتي لم يخدم هذا الجزء.
تبدو بعض المقطوعات، لخلوها من نغمة أساسيّة أو محور فقري للبناء الموسيقي، أنّها صالحة فقط لأن لتكون موسيقى مصاحبة لأحد أعمال الفيديو. مثال على هذا مقطوعتي “توينكل” و“لوكاس“، ولا يبدو أن الأصوات الإلكترونيّة المستحدثة قادرة وحدها على المحافظة على جودة المقطوعة مع إيقاع تقليدي ونقلات في السرعة والنغمة الاستعراضية إلى حد كبير. قد يبدو وجود الكثير من النقلات جيّداً لوهلة، ويشير إلى براعة وتمكّن من الآلة الموسيقيّة وسلاسة في التزامن بين أعضاء الفريق، ولكنها لا تترك مساحة للـ“غروف” الذي يجيده الفريق، ويشكّل جزءاً هاماً من تميّز إنتاجهم. لتنتهي المقطوعة من دون أن يتوّرط المستمع في أي مقطع من اللحن.
تتّسم بعض الأعمال بخفّة ظل مستترة مثل “احترس من اليوني كورن – وحيد القرن“. ففي بداية هذه المقطوعة، نجد استخداماً موفّقاً للدرامز الإلكتروني في إيقاع بسيط ومحكم، ثم ينتقل برشاقة إلى تسجيل لدرامز حقيقي قريب قليلًا إلى الإيقاعات الشرقيّة، مع تأثير إلكترونيّ شبيه بالربابة أحياناً، لتختتم للمقطوعة بتأثير أشبه بالنهيق. ربما تكون تسمية “وحيد القرن” قد جاءت من هنا، أو العكس.
كما تظهر نفس خفّة الظل في مقطوعة “نادي السينما“، هنا حيث نجد اختياراً دقيقاً للتأثيرات الصوتيّة يتلاعب بالتشابه بين موسيقى مقدّمة المقطوعة، ولكن بغير تطابق. هو فقط يداعب تلك العاطفة التي تتوقّع دائماً ظهور اللحن المألوف، ولكنّه يبتعد عنه في تحفيز وتلاعب مقصود للذاكرة، حتى ينتقل باللحن أخيراً إلى مناطق بعيدة تماماً. ويترك ثبات نقرات البايس مع الدرامز مساحة للأصوات الإلكترونيّة في التلاعب بحريّة في آخر المقطوعة في مساحات صوتيّة يستغلّها صالح بثبات وشجاعة نادرة في الأسطوانة. يظهر فريق تليبويتيك في أكثر لحظاته تماسكاً وتناغماً بتوزيع متساوٍ للأدوار بين الأعضاء من حيث الكم والكيف بشكل استثنائي قلّما يحدث في أي فريق بهذه الدقة.
جاء ترتيب المقطوعات في الأسطوانة غريباً قليلاً، ولكن على الأقل كانت البداية موفقة. ولكن إنهاء الاسطوانة بمقطوعة JPEG كان مثالاً على “كسر الذروة“. هي مقطوعة أخرى قد تكون في أفضل مواضعها اذا استخدمت جنباً إلى جنب مع فيديو. تظهر في المقطوعة على استحياء بعض التأثيرات الإلكترونيّة الميلانخوليّة، والتي تنزلق إلى حزن آسيوي، مع تأثيرات قصيرة ومكرّرة تبني لنغمة غير مكتملة ولا تتطوّر إلى إرتجال، مع تلاشي سريع ومفاجئ يبدو لي محبطاً، خاصة في موقعه في آخر الأسطوانة. قد يمثّل الإحساس الميلانخولي، والتخبّط في البحث عن صوت خاص بين التأثيرات المحيطة من دون الوصول إلى نوتات واضحة، أمراً عاطفياً وصادقاً، ولكنه يعطي انطباعاً سيّئاً لاختتام الأسطوانة الأولى.
لا يمنح نقاء الصّوت في الأسطوانة عموماً نفس الروح الحيويّة التي تسمعها في الحفلات الحيّة. إذ يبدو صوت الدرامز المحدّد غريباً في المعادلة، كما تبدو التأثيرات الصوتية، ذات الحضور المتواضع، غير صادمة في معظم الأحيان. لندرك أن بتر الجزء البصري من مشروع تليبويتيك – ربما لعدم اهتمام الأعضاء بتطويره، وربما لالتزامهم بوسيط الأسطوانة المسجّلة – أفقد المشروع بعداً هاماً.
من هنا نستطيع الادّعاء بأن الأسطوانة محبطة إلى حد ما إذا ما قورنت بحفلات الفريق الأكثر ديناميكيّة، وهذا بالرغم من مهارات الفريق شبه المنعدمة في التواصل مع الجمهور أثناء الحفلات. ولكن الأسطوانة ناجحة في توضيح عنصر هام: وهو توازي موسيقى كل عضو من الفريق الثلاثي بالتساوي، كل في منطقته، في تناغم واضح في الأصوات يعطي لكل عضو بريقه الخاص. في حفلات تليبويتيك يصبح “الغروف” أكثر وضوحاً، والنقلات في الزمن والنغمة الرئيسيّة في المقطوعة الواحدة حينها مبهرة للحضور، وتتّزن المعادلة في أفضل أشكالها بين الخفّة والثقل والهدوء والقوّة.
انسحاب
هي بالطبع المقطوعة الأكثر أهميّة في الأسطوانة، ليس لأنّها تحمل اسمها، ولكن لأن أي متابع للفريق يعرف أنها من أفضل أعمالهم، وهي المقطوعة التي يختتم بها الفريق معظم حفلاته. تبدأ المقطوعة ببداية عنيفة مفاجئة وسوداويّة قليلاً بالمقارنة بباقي المقطوعات. ويبدو موضعها، من حيث الترتيب، في منتصف الأسطوانة غريباً قليلًا على الهيكل الموسيقي للعمل بشكل عام عند التعامل معها كوحدة متّسقة. أما اختيار الاسم، فجاء موفقاً في تلائمه مع الموسيقى، ومع التشبيه البسيط الذي استخدمه صالح لوصف الاسم، قائلاً “التراك يمتلك قوّة، ولكنّها قوّة إلى الخلف“، ولهذا سميت بـ“انسحاب“. أعتقد أن ذلك التعبير الجمالي الذي استخدمه صالح في وصف المقطوعة ناجم عن انسياق الفريق مع “غروف” عنيف وأخّاذ مصاحباً للحن بسيط صادر عن نغمة واحدة للبايس. إذ أن تأثير البايس الثقيل، والدقّة في اختيار الأصوات – حتى الفراغات الصوتيّة في منتصف المقطوعة مع اجتياح الـAudio Controller- شجاعة في طرحها. إلى جانب عنف وبراعة يوحيان بالثقة وعدم التردد في الاندماج مع ما يروه جيداً مهما بلغت بساطته أو غرابته، لذلك تبدو الأصوات الإلكترونيّة عنيفة وحادة بشكل نادر، ما لا نجده للأسف في مكان آخر في الأسطوانة بنفس الحضور.
كانت مقطوعة “انسحاب” لتفضي بأكثر الانطباعات بلاغة إذا ما اختيرت كخاتمة لما تطرحه عند استخدام فكرة أدبيّة: “الانسحاب القوي“، والذي لا يدل على ضعف ولا غربة اجتماعيّة ناتجة عن تجاهل، وإنما يدل على عزلة اختياريّة ونبذ لما تمليه القواعد أو ضروريّات النجاح الجماهيري. وذلك رغم اختلاف ما تقدّمه تليبويتيك عن أي موسيقى تقليديّة، ووضوح في الشخصيّة بشكل لا يبدو أنّه قابل للمساومة.
قد تبدو محاولات التغريب تلك مبالغ فيها قليلاً في الكثير من المواضع في الأسطوانة، حيث يبدو حينها الهروب من الألحان المستساغة مدفوعاً بتلك الرغبة في الاختلاف، ما يجعل المستمع للأسطوانة – وليس الحفلات الحيّة – يحترم المنتج، ولكن من دون استمتاع حقيقي. هي بالتأكيد بداية جيّدة على أن يعمل أعضاء الفريق في المستقبل على الخروج من المحاولات المضنية لايجاد صوت مختلف، وترك السياق لأنفسهم مع ما يستمتعون بعزفه بشكل أكثر ديناميكيّة ومن دون اكتراث للقولبة.