.
احتفى الجميع بإعلانَي شيبسي وبيبسي اللذَين يقوم ببطولتهما مروان بابلو وأبيوسف. أتى الإعلانان في سياق بطولة الأمم الأفريقية التي استضافتها مصر. تضمّن إعلان شيبسي وصايا المشجعين للمنتخب المصري، بينما حمل إعلان بيبسي رد لاعبي المنتخب الذين يؤكدون على تلقيهم تلك النصائح، ويشددون على أهمية التشجيع والدعم غير المشروط لكي يتمكنوا من الفوز بالبطولة؛ الأمر الذي اتضحت صعوبته بعد أن رأينا نوعية الأداء الذي قدّمه المنتخب في ظهوره الخاطف. بيبسي وشيبسي شركتان مملوكتان لشركة بيبسيكو الضخمة، حيث ترد بيبسي على شيبسي، واللحن في أغنيتي الإعلان هو ذاته، وبابلو بيحب أبيو وأبيو بيحب بابلو وزيتنا في دقيقنا.
أشاد الجميع بمستوى الإبداع وما يمثله هاذان الإعلانان من نقلة نوعية لمشهد الراب المصري، وانخرط الرابرز وجمهورهم وآخرون ليسوا أصلًا من جمهور الراب في موجة عارمة من “العظمة”. من المبشّر أن يصل رابرز بجودة أبيوسف وبابلو إلى قطاع من الناس ربما لم يتعرضوا لهذا النوع الموسيقي من قبل، كما أن اسمي بيبسي وشيبسي يضفيان شرعية شعبية على هذا النوع، فيصب ذلك في مصلحة الراب كصنعة و يقرب حلم الرابرز بجني المال من فنهم.
لكني أرى تلك الحملة الإعلانية إشكالية. لست ضد اشتراك الرابرز في صناعة الإعلانات، بالعكس، حيث تستثمر الإعلانات فيما يحبه الناس ولديها القدرة على تعزيز ذلك الحب وتوسيع نطاقه إن حَسُن المنتج. رأيت رابرز في بلدان أخرى يظهرون في الإعلانات كموديلز، أو يظهرون بشخصياتهم ذات الحضور والكاريزما، أو كممثلين سواءً في إعلانات أو أفلام؛ لكني لم أعتد أن أرى رابرز يعلنون عن منتج بهذه الطريقة: لا يظهرون بوجوههم ولا بأسمائهم، ونسمع فقط تدفق كلماتهم المليئة بالحماس المحافظ على إيقاع يميل إلى الرداءة.
الكتابة جزء مهم للغاية، إن لم يكن الأهم، من الراب. ورغم اعتماد التراب المتزايد على العناصر الموسيقية، تبقى الكلمات عنصرًا مؤثرًا وأساسيًا. لا يعني ذلك أنني ممتعض من بساطة الكلمات في الإعلانين أو خلوها من المحتوى الفكري، فأنا أؤمن بأن للفن دور ترفيهي وجمالي بحت؛ لكنني أؤمن أيضًا بأن الراب فن قائم على المقاومة وشيء من التهديم. قد يتحدى الراب السلطة السياسية أو يزدري العادات والتقاليد أو يتبجح ضد بعض القيم المحافظة، وقد يتحدى أيضًا معايير الجمال اللغوي أو الجمال الموسيقي، أو توقعات المستمع من حيث اتساق النص مع ذاته أو ترابط الأفكار أو كرونولوجية السرد. قد تأتي تلك المقاومة أيضًا عن طريق الاختيارات الموسيقية أو أنماط التدفق، لكن يبدو لي أنها تتجلى بشكل رئيسي من خلال الكلمات.
لذلك، غالبًا ما تستدعي أغاني فنانين ينسبون ما يقدمونه إلى الراب – مثل زاب ثروت أو أحمد مكي أو ويل سميث – السخرية من أي مستمع لديه حد أدني من الوعي بالراب. بالنتيجة، عندما أسمع لـ بابلو كلمات مثل: “خط الوسط مسطرة / يرمي لقدام مش لورا”، أو”اضرب مرتدات / زود هجمات”، أو أسمع صوت أبيوسف الأيقوني وهو يقول: “خليك في ضهري مش قدامي / ما تسيبنيش وتنساني”، لا يسعني إلا أن أشعر بخذلان ما. لا مقاومة هنا، بل استسلام تام لعقلية الإعلانات، كما أن ذلك من شأنه أن يخل بمفهوم من لا يعرفون الراب، فيشرعون في تقبله بشرط أن يتسم بنفس البراءة والاستقامة المغلوطة التي عرفوه عليها في إعلانَي شيبسي وبيبسي.
يمكن قراءة هذين الإعلانين ضمن ظاهرة أوسع، يمكن تسميتها بـ أغاني الوكالات، حيث تلجأ الشركات لفنانين ليخرجوا منتج موسيقي يروج لسلعتهم في إعلان تشاهده الجماهير العريضة، وخلال ذلك تفرض الشركات جماليات دخيلة على موسيقى هؤلاء الفنانين. تخلق تلك الجماليات نوعًا موسيقيًا جديدًا موحدًا رغم اختلاف الخلفيات الموسيقية. قد تستمع لأغنية لأبيوسف من ٢٠١٤ وأغنية لكايروكي من نفس السنة ولا ترى شيئًا يجمعهما، لكن إن قارنت إعلان كوكاكولا ٢٠١٩ الذي شارك فيه أمير عيد وأبو وهنا غنيم، بإعلاني بابلو وأبيوسف لبيبسي وشيبسي في ٢٠١٩، سترى العديد من العوامل المشتركة. نفس الروح التفاؤلية التحفيزية في الكلمات، الاختيارات المألوفة في التوزيع والتلحين، سهولة القوافي لجعل الجمل أكثر قابلية للتعلق بالذاكرة، واتجاه مسالم عام يتجنب التصادم مع أذني المشاهد المحافظ بأي شكل.
تنازل أبيوسف وبابلو عن صياعتهما ليقدما لنا هذا المنتج الباهت الصالح لاستهلاك أكبر قطاع ممكن من الجماهير، ما يدفعني لأتخوّف ممّا قد يتنازلون عنه هم ونظراؤهم في المستقبل ليوسعوا قاعدتهم الشعبية، سواءً كان ذلك في إعلانات مستقبلية أو في أغانيهم. كما أن مشاركة في إعلانين مماثلين قد تقلل من مصداقيتهما أمام سمّيع الراب. يزداد تساؤلي إلحاحًا نظرًا لاتجاه أبيوسف بالفعل نحو جعل أغانيه أكثر دماثة وأقل تصادمًا، وحرص بابلو المتزايد على تقليم كلماته مع مرور الوقت وباتت تميل مواضيعه إلى التكرار.