.
يأتي هذا المقال ضمنَ سلسلة مقالات عن الموسيقى الكلاسيكية الغربية، في محاولة لطرح مداخل تأويلية جديدة ومختلفة عن السائد، تعتمد أغلبها على فرضية أنّ: الفن نشاط إنساني واعٍ يهدف إلى إعادة بناء الهوية الفردية التي تتبدل في كل إنسان مع كل تغير في المكان والزمان، أو التغلب على أثَر الفَقْد. بالتالي يمكن إعادة قراءة هذه الأعمال في ضوء هذه الفكرة التي بسطناها في مواضع أخرى في إطار فلسفي، ليس هنا مجال للتوسع فيه. هذا مع إيراد تحليلات مختصرة لأهم أعمال المؤلفين الكلاسيكيين في كل مقال أو دراسة مِن ذلك المدخل.
يوهانِز برامز (١٨٣٣-١٨٩٧) واحد من أهم المؤلفين الألمان، وأحد أعمدة الموسيقى الألمانية كمدرسة في التأليف، وأحد أخلص تلاميذ بيتهوفن غير المباشرين مع شوبرت بالذات. تنامت شهرة برامز أيضًا باعتباره (الموسيقار الفيلسوف)؛ نظرًا للذهنية القوية في أعماله – التي سنتكلم عنها لاحقًا – وأحد أطراف حرب الرومانسيين Paxman, Jon, A Chronology of Western Classical Music 1600-2000, Omnibus Press, 2014, p. 401 War of the Romantics ضد كل من تشايكوفسكي، الذي قال في خطاباته إنه لا يفهم موسيقاه، التي تتميز بالجدية والعمق لكنها تفتقر إلى الدفء والجَمال Tchaikovsky, Modeste, The Life and Letters of Peter Ilich Tchaikovsky, University Press of the Pacific, 2004, pp. 517-519، بالإضافة إلى فاجنر وليست وبرليوز، وبوصفه أيضًا حلقة صلة (متأخرة) بين الكلاسيكية والرومانسية، بمعنى أن أعماله ليست فقط صعبة على الفهم والتذوّق، بل هي “موضة قديمة” تعود إلى بدايات الرومانسية أسلوبًا. غير أنه من المحتمل جدًا وجود أسباب سياسية لهذه الحرب؛ فمن الطبيعي أن تحتفي ألمانيا والنمسا بهذا الموسيقار الألماني (في انتمائه للمدرسة الألمانية)، ومن الطبيعي أن تمجّه الأذواق السياسية، قبل الموسيقية، في روسيا والمجر وفرنسا. صحيح أن فاجنر ألماني متعصّب لقومه، لكنه واضح في تجديداته التي وصلت حدَّ التطرف، فصار نوعًا ما فوق الحسابات السياسية التي تتغطَّى بالدعوة للتجديد الموسيقي.
لـ موسيقى الموسيقى في هذا السياق معنيان: الأول، هو “كون الموسيقى مؤلفة (عن) موسيقى بما هي إعادة قراءة لأعمال سابقة، دون أن تكون تنويعات مباشِرة على ألحان بعينها لمؤلف سابق“. هي ظاهرة ليست جديدة على الفن، حتى في عصر برامز، لكنها أشد وضوحًا لديه. كما أن العديد من محاولات تأليف موسيقى الموسيقى لا تعدو كونها غير قصدية، ولا تعكس سوى درجة من التأثر، ولا تصل في تسلسل الأعمال، واستمرار هذا التسلسل إلى (مشروع) موسيقيّ محدد المعالم، ولا تتجاوز غالبًا أعمال الموسيقار الواحد إلى غيره؛ فمثلاً ألف بيتهوفن سيمفونيته التاسعة كإعادة تأليف وتنقيح وتطوير وإطناب للفانتازيا الكورالية للبيانو والأوركسترا والكورال Di Grazia, Donna M., Nineteenth-Century Choral Music, Routledge, p. 129، كما ألف بيتهوفن مفتتح الحركة الأولى من تاسعته معتمدًا على جملة من الحركة الأولى من سيمفونيته الثانية، في نوع من الارتداد إلى مؤلفات الشباب وإعادة معالجة موضوعاتها وألحانها، لكن برامز– كما سنرى – يتمتع بخصوصية عند الحديث عن هذه الظاهرة.
أما المعنى الثاني فهو: كون الموضوع نفسه المعبَّر عنه في أغلب أعمال الموسيقار هو الموسيقى ولا شيء وراءها، أو ما يعرف اصطلاحًا بالموسيقى الخالصة Absolute music. هذا المعنى الثاني يصف ظاهرة واضحة ومنتشرة في كل مراحل ما قبل الرومانسية، أو ما قبل أوائل أعمال بيتهوفن الرومانسية (ما قبل السيمفونية الثالثة، وصوناتا البيانو رقم ٢١ فالدشتاين، ومجموعة رازومفسكي من الرباعيات الوترية مصنف ٥٩)؛ فأغلب أعمال هايدن وموتسارت لموسيقى الآلات مثلاً موسيقى خالصة. لكن تميز برامز في هذه الظاهرة يتضح حين توضع أعماله في سياق عصرها (الرومانسية المتأخرة)؛ فبينما كان ليست يؤلف الكوميديا الإلهية وفاوست، وفاجنر يكتب كلمات وألحان أوبراته الملحمية ذات الوقع الرومانسي الثقيل القاتم، وبرليوز يؤلف السيمفونية الخيالية، وتشايكوفسكي يؤلف أوبراته وأعماله ذات الموضوع: الفصول، السيمفونية الرابعة، السيمفونية السادسة (ذات الموضوع الغامض)، النزوة الإيطالية، وباليهاته الشهيرة كسّارة البندق، بحيرة البجع، والجمال النائم، وكلها أعمال ذات موضوع، وهي خاصية مميزة للرومانسية المتأخرة، كان برامز يكتب الموسيقى اللا موضوعية. مجرد موسيقى لا تُحيل إلى موضوع خارجي، ولا تصوِّر حدثًا أو قصة أو أسطورة، وليس لها برنامج. هناك بالطبع استثناءات على الجانبين: جانب برامز، وجانب مناوئيه، لكنها لا ترقى كمًا ولا كيفًا إلى كسر القاعدة. أما إعادة البناء فتعني في هذا السياق إعادة ترتيب العلاقات بين العناصر الأصلية، ومن ثم تطوير العمل بشكل مختلف عن الأصل دون فقدان الصلة معه. لقد حاول برامز في أعماله – كما سنرى – إعادة بناء بعض الأعمال الكلاسيكية، ليجد لنفسه طريقًا مميزًا وشاقًا بقدر تميزه بين غطاريف الرومانسية المتأخرة المنتصرة التي تشعر بقرب أجلها على يد أكثر أعلامها تطرفًا: ريتشارد فاجنر؛ ففي كل تطرف واستبعاد للمغايِر في أي حركة فنية دليل على أفولها.
ومن المتوقَّع لمن يتابع هذه السلسلة أن نتحدث بعد التمهيد عن (مفقود برامز)، الذي هو على صلة أكيدة بطبيعة الحال بفكرة موسيقى الموسيقى.
ليس من السهل الولوج إلى مفقود برامز الذي عاش حياة هادئة، غير عاصفة بكارثة مثل صمم بيتهوفن، أو حافلة بعلاقات نسائية مثل ليست، أو منحازة أيديولوجيًا مثل فاجنر، ولم تكتب موسيقاه تحت قصف المدافع وحصار مدينته مثل شوستاكوفيتش، أو حتى في سن جد صغيرة مثل موتسارت. عاش برامز حياة فنية شبه خالصة، مليئة بالنجاحات والفشل كأي حياة فنية، لكنها في مجملها هادئة لا نجد فيها تقلبًا عنيفًا قد يؤدي إلى تحول سريع مفاجئ في الهوية الفردية. فما هو بالضبط مفقود برامز الذي حاول استعادته؟ الإجابة عجيبة نوعًا لكنها الأقرب إلى الصحة: بيتهوفن نفسه. إن بيتهوفن هو تحديدًا ما فقده برامز، وما حاول بعثه أو إعادة بنائه بأعماله. وهو ما يعني أن مشروع برامز الموسيقي كان إعادة بناء للبيتهوفنية، كما سيتضح لاحقًا.
يختلف برامز عن بقية تلاميذ بيتهوفن غير المباشرين كشوبرت مثلاً في أنه قام بمحاكاة أهم أعمال بيتهوفن الأساسية، وحاول تقديم إعادة معالجة لموضوعاتها، وصرّح بهذا كما سنرى، بينما اكتفى الآخرون بالتعلم والتأثر. وهنا لا بد أن يتساءل الناقد قبل غيره عن ماهية هذه العلاقة بين بيتهوفن وبرامز، برغم أنهما لم يلتقيا بطبيعة الحال، حيث توفي بيتهوفن عام ١٨٢٧. وبينما تأثر كثير من الموسيقيين باستعمال بيتهوفن للكورال والمُنشِدين، مثل فاجنر في أوبراته وهكتور برليوز في سيمفونية روميو وجولييت، وفرانز ليست في سيمفونيتي فاوست، ودانتي، ورحمانينوف في سيمفونية الأجراس، ومالر في سيمفونياته رقم ٢، ٣، ٨، وسترافنسكي في سيمفونية المزامير، وبنجامين بريتن في سيمفونية الربيع، وغيرهم، إلا أن برامز مثّل أهم استفادة وأعمق تأثر بموسيقى بيتهوفن الأوركسترالية، موضوعًا وأسلوبًا.
هنا يتبلور السؤال: إذا كان مفقود برامز هو بيتهوفن نفسه، فكيف تشكل هذا المفقود؟ وكيف حاول برامز التغلب على أثره؟ لقد كان بيتهوفن هو أهم حدث في حياة برامز، لقد تمنّى طيلة حياته أن يكون هو بيتهوفن، بأسطوريته التراجيدية (بعد ضعف سمعه) وبتجديداته الهامة وثورته الفنية، وبإحكامه الفني، بالضبط كما يُعجَب شاعر بشاعر راحل منذ مدة وجيزة، حيث لم ينقرض عصره بعد، يتمنى لو عاصره، أو لو يظل حيًا ليرى كيف سيكمل مساره الفني. بحيث يدرس ويتشرب الشاعرُ الحيّ أسلوبَ الشاعر الميت، ويحاول – ربما دون وعي – أن يُعيد بعثه افتراضيًا (وفي الفن حياة أُخرَى لأولى الألباب) عن طريق إعادة معالجة موضوعاته واستعمال أسلوبه وتقنياته في معالجة موضوعات مختلفة. هذه العلاقة بين مبدِع حي ومبدِع ميّت ليست مجرد إعجاب فني، بل هي في صميمها تجربة وجودية خاصة تحاول التغلب على فقْد هذا الراحل بالطريقة نفسها التي تغلّب بها هذا الراحل على فقْده. إنها تقرير لمسار حياة وأسلوب وجود من خلال الفن، واستنساخ لتجربة وجودية تتفق في بعض الملامح، لكنها – لا مفر – تختلف في ملامح أخرى أساسية. لكنّ ما يشكل ماهيتها كاستنساخ لتجربة أخرى هي محاولة هذا الاستنساخ بقطع النظر عن مدى نجاحها أو تَمامها.
في الفقرات التالية ستتضح أهم معالم هذه التجربة.
إذا كنتَ مستمِعًا مخضرمًا لبيتهوفن، ما هي أول مقطوعة تخطر ببالك حين تسمع أول ثلاث أو أربع ثوانٍ من الحركة الأولى من هذا الكونشرتو؟ نعم، افتتاحية الحركة الرابعة من تاسعة بيتهوفن! البداية المتجهِّمَة الرعدية، واستفاقة الأوركسترا المباغتة مع قرع الطبول، ومنها يبدأ نسيج الحركة تدريجيًا. وفي حين أنّ هذه البداية المتفجِّرة في تاسعة بيتهوفن تنتهي أَسرعَ ثم يشرع الباص والتشيللو معًا في مسيرة عنيدة لاستكشاف لحن يصلح للكورال، فإنّ بداية هذا الكونشرتو الضاجَّة تستمر أطولَ، ثم يُكمِل الباص والتشيللو أيضًا الطريقَ، ولكن بتحديد أكبر، وحيرة أقل. هذا التشابه البنائي والتوزيعي لا بد أن يكون لافتًا جدًا للمستمع، وأن يدفعه للتساؤل عن مغزاه بما هو تشابه: هل هو مجرد تأثّر لا واعٍ، أم مقصود وفي صلب تصور المؤلف؟
تمثل هذه الافتتاحية الزاعقة الفخيمة المطوّلة – قبل دخول التشيللو والباص – اللحن الأول في صيغة الصوناتا في الحركة الأولى، بينما يمثل صوت التشيللو والباص اللحن الثاني. هذا أول نموذج نتعرض له من إعادة البناء: ففي تاسعة بيتهوفن (الحركة الرابعة) تبقى الافتتاحية مجرد افتتاحية، تتكرر مرتين في إعادة استهلال لجزأين من الحركة في بدايتها، لكنها لا تستمر كلحن حين نصل إلى جسد الحركة بعد الافتتاح (بعد العثور على لحن الكورال)، في حين أنها تستمر عند برامز كجزء من الجسد. يدخل البيانو للمرة الأولى في العمل ليكرر هذا الافتتاح بالعكس؛ من النهاية إلى البداية (قارن صيغة الصوناتا المعكوسة عند شوستاكوفيتش الذي سنتعرض له في المقال التالي). التكرار العكسي ليس غريبًا إلى هذا الحد عن عالم بيتهوفن المتأخر (ولا عجب إذاً في تأثر شوستاكوفيتش الواضح ببيتهوفن المتأخر بعد سنة ١٨١٢ تقريبًا) فالحركة الأولى من تاسعة بيتهوفن أقرب إلى صيغة صوناتا مقلوبة كما أشرنا في مقال الفردوس المسموع عن بيتهوفن، ولكنّ هناك فرقاً بين عكس أقسام صيغة الصوناتا (العرض–التفاعل–إعادة العرض) وبين عكس الأجزاء الداخلية لكل قسم منها.
ربما كانت أهم أقسام صيغة الصوناتا في مؤلفات برامز هي إعادة العرض والكودا، التي هي مجرد تذييل وليست قسمًا أساسيًا؛ حيث يأتي قسم التفاعل لديه عادةً مختصَرًا، أقرب إلى الكلاسيكية، قد تكون سبب صيت برامز كمحافظ فنياً. هذا فارق واضح بينه وبين بيتهوفن الذي وسّع التفاعل ليحتل مكانة لم يكن ليحتلها في الموسيقى قبله. وبرغم هذا الاختلاف فإن التوسع في قسم الكودا من السمات الأساسية عند بيتهوفن، كأنما هي قسم تفاعل ثانٍ. وبالفعل فإن أفضل لحظات هذا الكونشرتو قسم إعادة العرض من الحركة الأولى، ثم الكودا. تخلو الحركة من الكادنزا مقطع عزف فردي معقد يأتي عادة قرب نهاية العمل. ويفسر البعض هذا الأمر المستغرَب بأن برامز حاول بذلك الحفاظ على الوحدة الدرامية في العمل بثينة فريد مثلاً في كتاب عشرة من أساطين النغم، دار المعارف، القاهرة، ١٩٧٢. الفصل الخاص ببرامز. وربما كانت هناك أسباب أكثر وجاهة: فهذا الكونشرتو كان في أصله صوناتا للبيانو المنفرد، ولم يحوله المؤلف إلى كونشرتو إلا بعد إشارة كلارا شومان السابق، نفسه. وربما كان السبب أن قسم إعادة العرض يبدأ بإحلال البيانو محل الأوركسترا، في جزء صعب بطبيعته؛ حيث يستلزم ذلك قدرة المؤلف والعازف على لعب دور معقد قامت به الأوركسترا ككل في بداية العمل. وتأتي الكودا درامية ذات تفاعل مركّب متميز، لتكون من أفضل الكودات التي ألفها برامز.
الحركة الثانية بطبيعة الحال بمثابة استراحة هادئة بالنسبة للحركتين الأولى والثالثة، تمهد لذلك الانتقال الشعوري بينهما. أما الحركة الثالثة نفسها في صيغة الروندو فهي سريعة جارفة، يسهل استبصار الطابع الرومانسي فيها، ويعد لحن الروندو منها من أفضل ألحان برامز حسب سياقه. الملاحَظ على هذا الكونشرتو عمومًا من زاوية بحث المقال أنه قويّ التماسك، غريب نوعًا على عصره، أقرب لمرحلة بيتهوفن نفسها، وكأن الذوق الموسيقي لبرامز قد انعقد حول القنطرة بين الكلاسيكية والرومانسية، أو الرومانسية المبكّرة. هو أحد أفضل الكونشرتات في تاريخ الكونشرتو، لكنه مع ذلك منبوذ أسلوبيًا من المدارس الرومانسية المتأخرة.
تمثل أهم عمل قام فيه برامز بإعادة بناء موسيقى بيتهوفن السيمفونية، وبالتالي هي أهم عمل بالنسبة لنا في هذا المقال. قام برامز في هذه السيمفونية باستعمال بنية أهم سيمفونيتين لبيتهوفن: الخامسة والتاسعة. وهي في مقام دو الصغير مثل خامسة بيتهوفن. وبينما تحتل خامسة بيتهوفن رقم ٦٧ في قائمة مصنفاته، تحتل هذه السيمفونية لدى برامز رقم ٦٨! تبدأ الحركة الأولى بطرقات الطبل في استهلال شبيه بانبجاس الحركة الأولى من السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، مع تلك الوحدة الأساسية التي تتكرر بإلحاح (ضربات القدر الشهيرة)، التي تُبنَى منها الحركة ككل، كأنها مِن لحن واحد، وهو ما يقال بالدرجة نفسها من الصدق عن الحركة الأولى من خامسة بيتهوفن. يميزها عن عمل بيتهوفن ذلك الاستعمال الأطول نسبيًا للآلات الصولو كالكلارينيت والفلوت، ذلك الاستعمال الذي نجده كذلك في الحركة الرابعة من السيمفونية الرابعة لبرامز بشكل أوضح وأطول. وتنتهي الحركة بهدوء واضح بخلاف خامسة بيتهوفن بالطبع.
تتمتع الحركة الثانية بأجزاء أطول وأوضح لصولو الكلارينيت، ثم الفلوت، ثم الكمان نفسه بعد انتصافها. وهي أقرب لاسترخاءة للأوركسترا والمستمع معًا، تأهباً لحركة سريعة – متوسطة إلى حد ما Un poco allegretto e grazioso هي الثالثة. وبصفة عامة يبدو برامز أقرب للفهم الرومانسي السائد عند مستمعي الموسيقى الكلاسيكية في مقطوعاته الأسرع، نظرًا لتعقّد بنيانه وذهنيته؛ حيث تسمح السرعة لعقل المستمع برؤية بنية العمل (مِن أعلَى)، مثلما تبعد ناظريك عن لوحة معقدة لتراها بشكل كلّي، أو كأن السرعة تخرجنا في تناسب طردي مع زيادتها من التتابع الزمني جزئيًا، فنرى العمل في سريانه أوضح. وفهم البنية لا غنى عنه لفهم الموسيقى الكلاسيكية، التي لا تعتمد على مجرد اللحن. هذه الحركة الثالثة تمهّد للرابعة الملحمية، المستهدَفة من العمل (مثلما أن الحركة الرابعة من تاسعة بيتهوفن هي هدف العمل).
لعل مستمع بيتهوفن يذكر كيف أن الحركة الثالثة من تاسعته تمهد للحركة الرابعة (الكورالية) بنداءات الهورن الواضحة، التي تقطع تفاعل اللحنين. كما يذكر أيضًا كيف تبدأ الحركة الرابعة بداية قاصفة بالطبل والأوركسترا. لقد جمع برامز هنا العنصرين معًا: البداية القاصفة التي تتكرر مرة أخرى، ثم يبدأ نداء مشابه بالنحاسيات. لكن التشابه الأوضح هو لحن شبيه للغاية بلحن الكورال عند بيتهوفن، يتكرر عدة مرات (كتكرار لحن الكورال عند بيتهوفن) بتوزيعات مختلفة. لكن الحركة تسير بعد ذلك في مسار صيغة الصوناتا، بخلاف الصيغة الحرة التي انتهجها بيتهوفن في الحركة الكورالية، واستعاض بوحدة نشيد شيللر عن تحديد صيغة معينة للحركة. هذه الحركة عند برامز من أجمل حركاته السيمفونية، فيها ذلك العنفوان والنشاط البيتهوفنيان مصحوبان بطابع درامي واضح لا يكاد يغيب عن أغلب أعمال برامز. تنتهي الحركة بتكرار دائري لثلاث نغمات، تليها ضربات الأوركسترا لتختمها. هذا التكرار الدائري كما سندعوه من الآن فصاعدًا، مأخوذ بشكل مباشر وواضح من بِكريّات أعمال بيتهوفن الرومانسية (صوناتا رقم ٢١ وافتتاحية إيجمونت مثلاً لبيتهوفن). هي زخرفة صغيرة ربما لا ينتبه لها المستمع، لكن برامز اهتمّ بها كثيرًا وكررها في أعماله، وصارت من خصائصه الأسلوبية، كما في الحركة الأولى من كونشرتو الكمان. وبهذا تصبح هذه السيمفونية أوضح إعادة بناء من قِبل برامز لسيمفونية بيتهوفن التاسعة، التي يراها متصلة بالخامسة، وكأن الإنسانية (في التاسعة) هي التي تنتصر على القدر (في الحركة الأولى من الخامسة) وليس البطل. هل أراد برامز تخليص موسيقى بيتهوفن من العنصر البطولي وإكسابها طابعًا إنسانيًا محضًا؟ هل أراد الربط – على المستوى الفني البحت – بين خامسة بيتهوفن وتاسعته، وتخليص التاسعة من الكورال؟ هل تأثر برامز ببيتهوفن إلى الدرجة التي يؤلف معها موسيقى مصاحبة لموسيقاه: موسيقى الموسيقى، موسيقى تتخذ من الموسيقى نفسها موضوعًا؟ هل شعر برامز أن من واجبه أن يكون خليفة بيتهوفن الحقيقي، بعد أن توفي شوبرت – الخليفة الشرعي – مبكّرًا؟ لقد أطلق الناقد الموسيقي هانز فون بيلوف على هذه السيمفونية اسم عاشرة بيتهوفن في إشارة للتأثر Schonberg, Harold C., The Lives of the Great Composers, W. W. Norton & Company, New York, London, 1981, p. 298، ولعله قصد أبعد من التأثّر: إعادة البناء، وإعادة إحياء بيتهوفن ليؤلف من جديد، فلا يمكن ألا يكون برامز واعيًا بهذه التشابهات، وتفسير هذا عنوان وموضوع هذا المقال.
تمثل مرحلة النضج البرامزي، واستفادته الأكثر اعتدالاً من بيتهوفن، كما تظهر فيها الذهنية والتركيب بشكل أوضح وأغزر. تبدأ السيمفونية بداية هادئة، يليها اللحن الأول مباشرة، وهو ذو طابع قوي مسيطر، يليه الثاني الذي هو نفسه لحن أنشودة المهد Lullaby الشهيرة، بل الأشهر في التاريخ الحديث مصنف ٤٩ رقم ٤، تلك الأنشودة التي ألفها برامز خصيصًا لصديقته بيرثنا فايبر بعد أن أنجبت طفلها الثاني، وقد عزفتها للمرة الأولى كلارا شومان شخصيًا McCorkle, Margit L., Johannes Brahms: Thematisch-bibliographisches Werkverzeichnis. München: Henle. s. 197. يستعمل برامز النحاسيات استعمالاً لافتًا في هذه الحركة، مع جزء لصولو الكورنو قرب ختامها. تأتي الحركة الثانية المتهادية حاملة لذلك الطابع الميلودي الثقيل، الذي هو أثقل منه لدى بيتهوفن، والذي بسببه اعتبر هينريش شنكر أن برامز هو خاتم المؤلفين الكلاسيكيين في قائمته المعروفة (من باخ إلى برامز). أما الحركة الرابعة، في صيغة الصوناتا، فذات لحن مرح معتدل، وذات تلوين أوركسترالي أوضح من بقية حركات السيمفونية، ومن السيمفونية الأولى ككل. وربما كان توزيع النحاسيات في الحركة الأولى (عدا صولو الكورنو) هو الوجه الأوضح للتأثر ببيتهوفن، غير أن هذه السيمفونية أقرب لطبيعة برامز الخاصة، وأبعد نسبيًا عن مشروع إعادة بناء بيتهوفن. ويبدو في توزيع السيمفونية –وفي موسيقى مؤلفها عمومًا – ميل أقل للتلوين الأوركسترالي، ميزَ برامز فعلاً، لكنه لا يلبث أن يشير إلى بيتهوفن من جديد، الذي صار أقل قدرة على إنجاز هذا التلوين بعد ضعف سمعه (راجع مقال الفردوس المسموع).
هي أهم أعمال برامز السيمفونية، وأكثرها إحكامًا وغزارة في الابتكارات. تذكرنا بدايتها المتسائلة ببداية السيمفونية التاسعة لبيتهوفن بقوّة. ويتضح مع تحليل البنيان العام للحركة الأولى نوع من التوازي مع الحركة الأولى من تاسعة بيتهوفن؛ فصحيح أن هذه الحركة أوضح في اعتمادها على صيغة الصوناتا من الحركة الأولى من تاسعة بيتهوفن التي حيّرتْ النقاد في صيغتها: هل هي صوناتا مقلوبة؟ هل هي صوناتا معدّلة ومعتدلة؟ أم هل هي حرة البناء؟ لكن هذا السؤال محسوم بالنسبة لبرامز. وبرغم هذا فإن تتابع الألحان في قسمي العرض وإعادة العرض في رابعة برامز في حركتها الأولى ينقل ذهن المستمع الخبير إلى تتالي الألحان في تاسعة بيتهوفن. هناك جمل لحنية لا نقول أنها مشتقة من الحركة الأولى من تاسعة بيتهوفن، لكنها مَصوغَة على هيكل مشابه. لقد ساعد برامز هنا ذلك القدر المتزايد من الذهنية عند بيتهوفن، والمتناسب طرديًا مع زيادة الصمم لديه. هذه الذهنية عند بيتهوفن في أعماله المتأخرة تتركز على مستوى السيمفونية التاسعة في حركتها الأولى، على ما فيها من تراكيب مجرّدة مروعة في شُهُوقها وزُخْرُفها، بينما تأتي الحركات الثلاث الأخريات من التاسعة بقدر أقل من التجريد. ونرى عند هذا الحد أن برامز أعاد معالجة السيمفونية التاسعة لبيتهوفن على مرحلتين: مرحلة السيمفونية الأولى، التي عالج فيها الحركة الرابعة (الكورالية)، ومرحلة السيمفونية الرابعة التي عالج فيها الحركة الأولى، وكأن برامز يتطور– مثلما تطور بيتهوفن – نحو الذهنية، ولكن دونَ صمم، أو كأن برامز يتحرك في إطار إعادة بناء تاسعة بيتهوفن معكوسًا: من النهاية (الحركة الأخيرة) إلى البداية (الحركة الأولى).
تتميز الحركة الأولى من رابعة برامز، والسيمفونية ككل، بقوة البيان، وبإظهار قدرة أكبر على التركيب، وبالاستغناء النسبي عن اللحن؛ حيث لا يتلقى المستمع بطول السيمفونية جُملاً لحنية يستطيع غناءها، ولا هي من موضوعات معالجة الموسيقى الخفيفة، مثل السيمفونية الأولى مثلاً، بل يتلقى بنيانًا رياضيًا رائعًا، وربما مخيفًا، وهو يشهد – في الحركة الأولى – انبثاقه، وتشكّله الأوّل، وتبلوره الواضح، ثم انهياره منذ بداية قسم الكودا حتى نهاية الحركة. وليس قسم التفاعل – كما قدمنا – مهمًا بشكل خاصّ عند برامز، بل الكودا. وفعلاً تأتي الكودا في هذه الحركة درامية رهيبة، لتنتهي الحركة نهاية بليغة، تستهجن الصمت والصدى معًا.
الحركة الثانية مِن حركات برامز الثوانِي؛ أي على نمط بناء الحركة الثانية في سيمفونيات برامز، التي يتوسطها عادة جزء صاخب عنفواني، والتي هي متهادية بطبيعة حال بناء السيمفونية عمومًا منذ هايدن. لكن هذه الحركة الثانية مميزة بين الحركات الثواني عند برامز، في طابعها التأملي الحزين، الذي يبطن الغضب، ثم لا يلبث إلا أن يُظهره في الجزء الصاخب، وهو ما يتناسب فعلاً مع صدى النهاية الدامية للحركة الأولى في أذهان المستمعين. أما الحركة الثالثة فهي شبيهة بالحركة الثانية (الإسكرتسو) في تاسعة بيتهوفن: فهي على صيغة الصوناتا، لكنها رقصة سريعة مرحة Allegro giocoso مما يجعلها أبطأ من حركة بيتهوفن، ويظهر فيها استعمال المثلّث، الظهور الوحيد له في سيمفونيات برامز، كما أن تاسعة بيتهوفن تمثل الظهور الوحيد للمثلث أيضًا. وهي طويلة نوعًا بالنسبة للحركة الثالثة من السيمفونية عمومًا، شأنها في ذلك شأن الحركة الثانية من تاسعة بيتهوفن، والحركة الثالثة من تاسعة شوبرت، والحركة الثانية من ثانية رحمانينوف، وكلهن معتمدات بنائيًا بوضوح على إسكرتسو السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، في تحويل مؤلفيها الجزء الأول والأخير من صيغة الرقصة (أ–ب–أ) إلى صيغة الصوناتا.
تستعيد الحركة الرابعة، التي هي في صيغة الصوناتا أيضًا، الطاقة الذهنية والعنفوان التراجيدي بشكل أكثر ابتكارًا من الحركة الأولى: تبدأ بجملة إعلانية تُعزَف في بداية قسم إعادة العرض مرة أخرى بشكل أكثر عنفًا، تليها ضربات الطبل والنبر على الوتريات لتعطي طابع نبضات القلب، التي تزداد وضوحًا وتبلورًا ثم تبدأ في الخفوت، لتبدأ الهوائيات الخشبية مسيرة اللحن، وهي صوناتا من لحن واحد تقريبًا، إذا جاز هذا القول بقدر جوازه على الحركة الأولى من خامسة بيتهوفن، يتوسطها قسم تفاعل صغير مميز ينفرد به تقريبًا الفلوت، ليكون هذا الجزء من أهم مواضع موسيقى الآلات المنفردة بشكل ما في مجال الهوائيات الخشبية بالنسبة لمؤلفها. وتتفاعل الأوركسترا مع الفلوت قرب نهاية الجزء الانفرادي، ثم تظهر الجملة الافتتاحية مرة أخرى في إعادة عرض بالغة التميّز والتماسك والابتكار اللحني والتركيبي، وتتحول النبضات إلى صرخات مدوية، هي بين الصراخ والدمدمة، ثم تأتي كودا مختصرة لتنهي الحركة والسيمفونية في سرعة وإيجاز وبلاغة لا تملك معها إلا الإعجاب بهذه العقلية السيمفونية الفذّة. ومن الطبيعي بسبب كم وكيف هذه الأبعاد التركيبية عند برامز ألا يحب موسيقى الأخير موسيقار يتخذ البساطة دينًا مثل تشايكوفسكي. في الواقع هذه السيمفونية هي الدليل المباشر الناصع على براعة مؤلفها وسط عمالقة التأليف السيمفوني مِن كل عصور السيمفونية.
واحد من أفضل ما أُلِّفَ في مجاله. وكعادة كونشرتات برامز فهو يضحّي بالجانب المَهاري الذي يختبر قدرات العازف لحساب التماسك البنائي والدرامي. تبدأ الحركة الأولى باللحن الأساسي مباشرة مع الأوركسترا دون تقديم، ثم يتكرر اللحن في توزيع أكثر حيوية، ليصل إلى ذروة تمثّل افتتاحية العمل وإعلانه. تصمت الأوركسترا لحظة، ثم تظهر التيمة الثانية، وهي واضحة في ارتكانها على ذلك الابتكار اللحني البيتهوفني الذي نعتناه بـ التكرار الدائري سابقًا، وهو تكرار يقوم على أربع نغمات أساسية مشتقة من اللحن الأساسي. وحين يصل إلى قمة احتدامه يظهر الكمان ظهورًا مباغتًا دراميًا. يستمر الكمان في عزف وتنمية التيمة الثانية، حيث تصاحبه الأوركسترا بعزف اللحن الأساسي، حتى يلتقط الكمان هذا اللحن ويستمر في تنميته، مع تلوينات أوركسترالية جيدة، ثم يعيد الكمان منفردًا عزف التيمة الثانية في أعلى تصعيد درامي في الكونشرتو قبيل قسم التفاعل. تقطعه الأوركسترا باللحن الأساسي في استجداء وعاطفية جارفة تعطي لموسيقى برامز الناضجة طابعًا أُموميًا لا شك فيه. تستعيد الحركة الثالثة ذلك التصعيد الدرامي على ألحان مختلفة مرحة في صيغة الروندو كالعادة. لا يفوت المستمع المدقق كيف أن برامز استعاد توزيعات وتفاعلات بعينها من كونشرتو الكمان لبيتهوفن، بالذات في استعمال الهوائيات الخشبية. وهو– مثل كونشرتو بيتهوفن – يتدرّج من الدراما في الحركة الأولى إلى تأمّل متهادٍ في الحركة الثانية، إلى روندو مرح في الحركة الثالثة، لكنه يفتقد ذلك اللحن البطولي الشهير في الحركة الأولى من كونشرتو بيتهوفن، كما أن حركته الثالثة أكثر ثقلاً ودرامية من الحركة الثالثة في كونشرتو الأخير.
وهو كونشرتو للكمان والتشيللو، على غرار الكونشرتو الثلاثي لبيتهوفن للكمان والتشيللو والبيانو، حاول فيه برامز ربما إعادة رسم العلاقة بين طبقات الوتريات، دون تدخل آلة هارمونية كالبيانو. هو آخر الأعمال التي قادها برامز بنفسه، ويعبر عن تلك المرحلة من التماسك البنائي المتميّز. تتمتع حركته الأولى بثقل تركيبي هائل، وهو مع ذلك يعتمد على ميلودية واضحة، في تفاعلات وإنماءات ممتازة. تبدأ الحركة الأولى بجملة افتتاحية قصيرة، منها يشتق اللحن الأساسي، ثم يتدخل التشيللو سريعًا، لتقلّ صرامة الافتتاح، مما يمهد لدخول الكمان، الذي يتحاور مع التشيللو حوارًا حميميًا، يصل إلى ذروة، تستعيد معها الأوركسترا الجملة الافتتاحية، ثم تنميها في انطلاقة هي في حد ذاتها غريبة حتى على برامز، وتذكّر المستمع بقدرة بيتهوفن الفريدة على صناعة الامتدادات اللحنية، دون حدود تقريبًا. يستمر قسم العرض، وفيه تعود الآلتان الصولو في طابع أكثر جديّة لتعزفا هذه الجملة الافتتاحية، وتصنعا منها اللحن الأساسي. ويبدو قسم التفاعل، الذي تبدأه الآلتان الصولو، برامزيًا تقليديًا، هو –كما قلنا آنفًا– أقل أجزاء صيغة الصوناتا عند برامز أهمية. تتم إعادة العرض مع تغييرات توزيعية وبنائية يتدخل فيها الكمان والتشيللو. وكعادة برامز أيضًا تحتل الكودا مكانة هامة، تمثل الاحتدام الأعلى في العمل. أما الحركة الثالثة، التي تشبه في بنيتها العامة الحركة الثالثة أيضًا من كونشرتو الكمان للمؤلف نفسه، فهي مزيج بين الروندو والصوناتا، تأخذ من الروندو اللحن الدائر، الذي يعزفة التشيللو منفردًا تليه الكمان في بداية الحركة، وتأخذ من الصوناتا إعادة عرض واضحة في انتصاف الحركة. وهي سريعة حية باعتدال Vivace non troppo، ومن أفضل ما ألّف برامز عمومًا، وهي خير ختام لرحلة مؤلفها الإبداعية المتفردة.
يمكن إجمال نتائج هذا الاستقصاء التحليلي فيما يلي:
الحركة الأولى من خامسة بيتهوفن: أعاد برامز بناءها في الحركة الأولى من سيمفونيته الأولى.
الحركتان الثالثة والرابعة من تاسعة بيتهوفن: عالجهما برامز في الحركة الرابعة من السيمفونية نفسها. كما عالج أيضًا الحركة الرابعة من تاسعة بيتهوفن في استهلال كونشرتو البيانو.
الحركة الأولى من تاسعة بيتهوفن: عالجها برامز في الحركة الأولى من رابعته، خاصة بدايتها، وتتابع ألحانها، وقسم الكودا منها.
الحركة الثانية من تاسعة بيتهوفن: عالجها برامز في الحركة الثالثة من رابعته.
كونشرتو الكمان: عالجه برامز نوعًا في كونشرتو مماثل.
الكونشرتو الثلاثي: تظهر إعادة بنائه في الكونشرتو المزدوج لبرامز فقط في سياق هذا الإطار التفسيري، مثل سيمفونية برامز الثانية.
ويمكن تحليل هذه النتائج كالتالي: ظهرت إعادة البناء جليّة في بعض أعمال برامز، التي تمثّل ذراه التأليفية، كما خفتت في أعمال أخرى أقل أهمية نسبيًا، عدا الكونشرتو المزدوج. وفي هذه الرحلة العُمْرية، التي تمثّل مشروعًا حقيقيًا لإعادة البناء الموسيقية، تأثر برامز على طول الخَطّ بمعالم بيتهوفنية أصيلة، تابعها، وطورها، مثل التكرار الدائري، الذي تأثّر به برامز كثيرًا، ليكون ربما الوحيد الذي التقط هذه التقنية اللحنية من بيتهوفن على تميزها، ومثل التلوين الأوركسترالي الرمادي، الذي خالف فيه روح عصره، والذي يعود نوعًا لبيتهوفن المتأخّر بعد تزايد صممه، ومثل استعمال النحاسيات، فقد تطور استعمال النحاسيات في السيمفونية كثيرًا، خاصةً بعد دخول الروس حلبة السيمفونية، وكذلك الذهنية، التي لم تميز أعمال بيتهوفن في فترتيه الفنيتين المبكرة والمتوسطة، بينما تزايدت فعلاً في المرحلة المتأخرة، التي كان يعتمد فيها إلى الحد الأقصى على مخيلته وذاكرته، بعد تلاشِي سمعه تقريبًا، وكذلك الاهتمام الواضح بالتركيب، في توازنه مع اللحن، وهي خاصية بيتهوفنية أيضًا، صحيح أنها ميزت كذلك كلاً من شوبرت ومندلسون وشومان، لكن بيتهوفن هو الذي منح التركيب مكانة وجيهة غير مسبوقة. لا ننس كذلك في هذا السياق التصنيف العام لأعمال برامز، باعتبارها تعود بدرجة ما إلى الرومانسية المبكرة، التي قدمها بيتهوفن في أعماله الرومانسية الأولَى.
إعادة البناء مشروع، وليست مجرد تأثر بلا أصالة، وربما بهدف إبعاد هذه الشبهة الأخيرة عن نفسه قدّم برامز أعمالاً مهمة، مثل الكونشرتو المزدوج، والسيمفونية الثانية والثالثة، التي تحرر فيها إلى حد كبير من مسار هذا المشروع. هذا المشروع الذي يتطلب هو نفسه شجاعة وأصالة حقيقيتين. في النهاية استطاع برامز بنجاح استعادة بيتهوفن من ظلام الموت وطبقات تاريخ الموسيقى الرومانسية، التي كانت تتزايد وتتعالى في وقته بمعدلات خرافية، حتى وصلت إلى ذروتها النهائية تقريبًا مع فاجنر، ثم بدأ انحلالها على أيدي سيبليوس ورحمانينوف، أهم مؤلفين في حقبة ما بعد الرومانسية في القرن العشرين. إن برامز لَهُوَ مؤلِّف خطير، وأحد أقوى العقليات التركيبية التي عرفها التاريخ، ولا يمكن الاستهانة بموسيقاه بدعوى التأثر بسلفه العظيم؛ فإعادة بناء العظماء لا ينجزها سوى العظماء، وقَبل أن يكونوا عظماء لا بدّ أن يكونوا مُخْلِصين كالشُّهداء.
المراجع
Di Grazia, Donna M., Nineteenth-Century Choral Music, Routledge.
McCorkle, Margit L., Johannes Brahms: Thematisch-bibliographisches Werkverzeichnis. München: Henle.
Paxman, Jon, A Chronology of Western Classical Music 1600-2000, Omnibus Press, 2014, p. 401.
Schonberg, Harold C., The Lives of the Great Composers, W. W. Norton & Company, New York, London, 1981.
Tchaikovsky, Modeste, The Life and Letters of Peter Ilich Tchaikovsky, University Press of the Pacific, 2004.