عربي قديم

تحفة كده؟ | ٨ من بروفات أم كلثوم

عبد الهادي بازرباشي ۰۱/۰۵/۲۰۱۸

مثيرةٌ رغبة البحث عن كل ما يرتبط بولادة أغنية ملكت أثرًا خاصًّا علينا، نحب أن يكون في الكواليس ما يُبرّر هذا الأثر ويدعمه، مثل قصة الساعات الأربع التي ألّفَ فيها القصبجي لحن رق الحبيب، كذلك قصة الصوت الإلهي الذي أملى على السنباطي لحن نهج البردة في ثلاث ساعات، بكت خلالها أم كلثوم من شدة الخشوع. ليست الأساطير أو ما يشبهها هي فقط ما يستطيع إشباع شغف البحث عن أسباب الجمال والكمال في أغنيةٍ ما، القصور والأخطاء والمشادّات خلال ساعات العمل الطويلة على أغنية قادرة أيضًا على زيادة تقديرنا لما سمعناه في نهاية المطاف. في هذه القائمة تسجيلات لثمانٍ من بروفات أم كلثوم، ننال معها فرصة التلصص على الكواليس، لنشهد ولادة فكرة، تطور لحن وتفاصيل تُضيف إنسانيّةً للأسطورة.

شمس الأصيل | ۱۹٥٥

سِحر هذا التسجيل في كوننا نشهد معه وصول مقطع “تحفة ومتصورة / في صفحتك يا جميل” إلى الكمال. تُنهي أم كلثوم المقطع أول مرة وتسأل السنباطي: “تحفة كده؟”، فيُجيب: “عال قوي. وما تنقليش من الراست ده. صوتك عامل زي البرلنت. عارفة البرلنت؟ زي الألماظ.” بعد ذلك يقترح أحد العازفين على أم كلثوم الإعادة من بداية الأغنية فتجيب: “لأ. شوف، يعني لازم نتفق على حكاية تحفة دي نقولها ازاي” وتبدأ بالغناء مباشرةً. بعد ثوانٍ يقول السنباطي ونقول معه: “أيوة كده. عال قوي ده. أيوة دي. أيوة كده أهه.”

حانة الأقدار | ١٩٥٥

مقدمة النسخة التي نعرف بها الأغنية عبارة عن لحن المقطع الأول ذاته، المقدمة هُنا مختلفة وأقصر. لكن تغيير المقدمة ليس التعديل الوحيد بين هذه النسخة والنسخة النهائيّة، فـ البونغوز و”الشخاليل بتاعة الرق” خفّت شويّة، أسرع الإيقاع بعد أن كان “فيه شوية ملل“، وعازف الكمان الذي لم يُحسن دوزان الأوتار أوّل مرّة عدِّلهم. كما نلمح هنا حساسية تعامل أم كلثوم مع صوتها، فحين تعلم أن هذه لن تكون النسخة النهائيّة لا تجهد صوتها كما تفعل أمام الجمهور، كغنائها حنانك والاختلاف في وضوح الحاء والجرعة الانفعاليّة بين البروفة والنسخة التي نعرفها.

على عيني بكت عيني | ١٩٥٥

في هذا التسجيل انتقالٌ احترافي وغريب بين حالة الأغنية ووسط الاستوديو. تغني أم كلثوم بيت “صحا من شدوه كأسي / وقد نام الخليّونا” وكأن الدمعة وصلت لحافة جفنها، ثم يتوقف العزف إثر خطأ أحد العازفين فنسمعها مخاطبةً عباس فؤاد عازف الكونترباص: “مش مدي شوية؟ لا يا عباس خليك معايا بقى خلاص أنا عارفة.” بكل لطف وارتياح وكأن من أطلقت المناجاة الباكية منذ لحظات لم تكن هي.

ثورة الشك | ۱۹٥۸

تفاصيل هذَين التسجيلَين تزيد تقديرك لأهمية الوقت الذي يقضيه السنباطي وأم كلثوم في الوصول بأغانيهما إلى الصورة التي نعرفها. يبدأ العزف ثم يتوقف بعد لحظات لـ خطأ عازف تشيللو افترض السنباطي أنه تداركه، ثم يُعاد العزف فـ يتكرّر الخطأ بعد غناء “أكاد أشك في نفسي”، ونسمع السنباطي: “مرتين. وبعدين!”، لتهدئه أم كلثوم: “معلش” وتُساعد العازف على ضبط أوتاره بصوتها. تنتهي الأخطاء وتبدأ الأغنية كما نعرفها، لكن شيئًا فشيئًا نلاحظ تغيرات في اللحن والأداء عما نعرفه، غناء خطى الشباب مختلف، اللازمة بعد مقطع “ولكني شقيت بحسن ظني” مختلفة، غناء وتشقى بالظنون يتغير في إحدى الإعادات، كما أن مقطع “يقول الناس” في ختام الأغنية يتميز باسترسالٍ وارتجالٍ أكبر، لكن يبدو أن هذا الارتجال لم يلقَ لاحقًا إعجاب أم كلثوم أو السنباطي أو كليهما، لذلك نجده محور التسجيل الثاني، حيث تتم إعادته وحده بلحنه الأصلي. في النهاية، كانت القرارات الأخيرة بالفعل هي الأجمل.

قصة الأمس | ۱۹٥۸

أكثر التسجيلات إثارةً وحميميّة، السنباطي وأم كلثوم وحدهما، لم ينته بعد من لحن الأغنية، ويعرض على أم كلثوم الجمل اللحنية التي وصل إليها حتى الآن لأخذ رأيها. في بداية التسجيل نجد السنباطي توقف لأنه نسي جزءًا من اللحن الجديد، ثم نغّم بصوته ليتذكر وأكمل. لم تكن اللازمة بعد غناء بيت “كنت لي أيام كان الحب لي / أمل الدنيا ودنيا أملي” موجودةً بعد، لذلك نجد السنباطي استبدلها باللازمة الواقعة بعد بيت “حين غنيتك لحن الغزلِ / بين أفراح الغرام الأولِ”. كان لحن بيت “وكنت عيني وعلى نورها / لاحت أزاهير الصبا والفتون” بعيدًا عن الذي نعرفه، وأقل جمالًا، كذلك لحن جملة “يترك القلب وحيدا” واللازمة التي تليها، ولحن جملةوسحابات خيالٍ“. لم تكن اللازمة التي تلي بيت “ذهبت من خاطري إلا صدًى / يعتادني حينًا فحينا” قد أُلّفت بعد، وكانت هناك إعادة أُلغيت لمقطع “وخان حبّي” في النهاية.

بعد الصبر ما طال | ۱۹٥۸

بعد تكرار خطأ في العزف تلتفت أم كلثوم إلى عباس فؤاد عازف الكونترباص: “عباس وريني الدوزان كده.” ليتضح أنها على حق وأنه مصدر الخطأ بقولها “يا سيدي ناقص.” ويبدأ فؤاد بشد أوتاره، يعطيه عبده صالح النغمة على القانون، وأم كلثوم تقول: “كمان حبة. شد شوية.” مما يذكرنا بـ حديث سيد مكاوي عما يجري وراء كواليس حفلات أم كلثوم وتأكّدها من ضبط الآلات كما يجب.

بطل السلام  | ۱۹٥۸

من الواضح أن هذه البروفة لم تكن الأولى ذلك اليوم، فـ السنباطي فقد صبره وبدأ البروفة بـ “ششش. سكوت. يا جدع اسكت!”، وبالفعل، ساد الصمت، وبدأت البروفة. يستمر كل شيء على ما يرام ويستعيد السنباطي هدوءه مطروبًا، إلى أن تفاجئه أم كلثوم بنسيان المقطع الأخير، لنسمع منه: “ليه يا سومة ليه؟”

أوقاتي بتحلو

الأغنية التي قدمها سيّد مكاوي لأم كلثوم بعد يا مسهرني، ويتضح من هذه البروفة ومن سلطنة مكاوي وهو يسمع أم كلثوم فيها أنها كانت في آخر مراحل التحضير. كان التسجيل قريبًا، لكن وفاة أم كلثوم كانت أقرب، لتُعرف الأغنية بعد ذلك بصوت وردة وتصبح محطةً كبرى في مسيرتها. لا يُمكن مقاومة الشعور بغصّة لدى سماع التسجيل، خاصةً في كوبليهَي “الله ع الحب أما يوفق بين قلب وقلب” و”إنت اللي بتدي القلب النور”، ويَصعُب تخيّل الغصّة الأكبر في قلب مكّاوي وهو يشاهد أم كلثوم الذابلة تُغنّي لجمهورها: “ويا روحي ساعة ما القاك / مش بس أوقاتي بتحلو / دي العيشة والناس والجو” وهو يشُك في احتماليّة تحقق هذا اللقاء مرةً أُخرى.

المزيـــد علــى معـــازف