.
تطرح معازف نوع جديد من المراجعات بعنوان المقارعة، يتشارك فيها أربعة محررين وكتاب في التفكير وإبداء الرأي في الموسيقات والألبومات الترندي والمختلف عليها. أولى المقارعات من نصيب ألبوم تووليت الأخير، بين كاظم الغيظ، حنين الشاعري، الطعس الشارد وأشجان عزمي.
مع بدايات غروب الثورة المصرية انتعشت موجة النوستالجيا على المستوى التجاري في الإعلانات، بالأخص في شهر رمضان، من باب رثاء الماضي أو لتشتيت الأنظار عن واقع مؤلم. تصاعد الأمر مع مرور الوقت لتطل علينا منى الشاذلي وإسعاد يونس من حين لآخر بفنانين من التسعينات بغرض إحيائهم. استمرت الإعلانات وإسعاد وباتت المعادلة التجارية ضاربة، لتصل إلى قمتها مع كثرة حسابات التيك توك التي تقدم محتوًى سريعًا متعلقًا بالقرن الماضي، إضافةً إلى أعمال فنية ناجحة مثل مسلسل ريفو.
يأتي ألبوم توو ليت بالفعل “توو ليت” على الموجة الاحيائية والاستعادية، فقد قرر سلوك طريق آمن بلا أي تحديات متجاوبًا بشكل متأخر مع النوستالجيا التجارية. عند أول مشاهدة لفيديو حبيبي ليه، حسبت أنه إعلان كوكاكولا أو براند جديد. بصرف النظر عن النوستالجيا، فالنوستالجيا قد تكون إيجابية أو سلبية بحسب كيفية التعاطي مع الماضي وتوظيفه، فالأغنية مسلية للسمع مرة واحدة مثلها مثل أية أغنية تحاكي جماليات الماضي، فالتُراب له سحر خاص.
يبقى السؤال هل نحن في حاجة لموجة إحيائية أو ألبوم تسعيناتي آخر والأرشيف المصري مدلدق؟ بجانب حبيبي ليه التي تخلو من أي مجهود، تأتي ما تيجي أعدي عليكي وليه بنخبي ومش بنقول ووبقيت وحيد مثل محاكاة ساخرة لرامي صبري الذي يعد بدوره محاكاة ساخرة لعمرو دياب. أما في عزبة الهجانة وعنيكي لون فيلجأ تووليت إلى صوت سبعيناتي أشبه بـ بينك فلويد أو كامل وفرق البروجريسيف روك، مع بعض أصوات سنثات ثمانيناتية.
الغريب في الأمر أن تووليت لم يعش بالضرورة هذه الفترات فيطرح هنا نوستالجيا بالوكالة، مجرد حنين تجاري شافي وعافي مثل برامج إسعاد يونس ومنى الشاذلي وإعلانات أورانج وبيبسي، أو للاستهلاك السريع على تيك توك. ليكتمل الأمر بصريًا، يأتي تصميم الغلاف كشريط كاسيت مصري، مثل شريط لحميد الشاعري أو علاء عبد الخالق. تأتي لسة بريء على عكس باقي الألبوم، جروف قوي ونبرة وإلقاء جيدان، كما لو كانت الأغنية تابعة لمشروع آخر.
تكتمل الدائرة التجارية مع إصدار الألبوم من قبل ميدل بيست السعودية، فالسعودية باتت تلتهم وتحتوي كل ما هو مصري مؤخرًا من حيث إنتاج وتصوير وتسويق الأفلام والمسلسلات وامتلاك الأرشيف السينمائي ورعايتها للعديد من المغنيين ومنتجي الموسيقى. بالتالي فمعادلة توو ليت التجارية الآمنة تلائم ميدل بيست بقوة.
حينما يعجز الحاضر عن إفراز أي جديد، يلجأ الفنان للماضي وهو أمر مشروع في حالة توظيف الخيال ومحاولة إعادة السياق أو تصوّر ما كان من الممكن أن يكون أو حتى البحث عن الإمكانيات الكامنة في الماضي. لا ينطبق ذلك على ألبوم كوكتيل غنائي. يكشف الألبوم عن فجوة كبيرة في المشهد المصري، وهي ظاهرة عالمية عامةً أطلقنا عليها كبوة الموسيقى في ملفنا الأخير. عاش المشهد المصري فترة انتعاش في المهرجانات والراب والتوليف بينهما، تلتها انتكاسة، مما يشكل تحديًا كبيرًا على الفنانين وقدرتهم على الاستمرار.
يكشف كوكتيل غنائي أنه ليس هناك مثير أو جديد في المشهد المصري، مع وجود بعض الاستثناءات. تمر مصر بفترة اقتصادية عصيبة وغلو في الأسعار وتحول كبير على مستوى الجماليات التي تحيط بنا يوميًا، ازدهار الكباري والتجمعات السكنية المغلقة وآلاف من الفوود بلوجرز وبلبن ووهمي. بالتالي ليست هناك معادلة تجارية “فنية” أكثر نجاحًا من ألبوم كوكتيل غنائي، البعض يتعاطى معها كـ “معيار عالٍ” أو هروب من واقع أليم كمن يتصفح حسابات الزمن الجميل على تيك توك أو في أحسن الأحوال استراحة مؤقتة من الحاضر.
ما أخذ إنستجرام عندي يومين إلا وبلّشت تطلعلي أغاني ألبوم تووليت الجديد بين كل بوست وبوست، مما دعاني للتنقيب بفضول عن الشخصية اللي وراهم. في إشي فيهم مكرر بشكل عفوي وبعلّق بالراس بسهولة، لما طلعلي تووليت ملثّم، حكيت لحالي لأ، بكفي الفنانين يتقمّصوا هذا النوع من الجماليات، واللي حتّى موسيقيًا استُهلك من أيام إم إف دووم وحتى دي جاي مارشميلو، لكني وبعد فترة تشكّل عندي رغبة ملحّة إني أرجع أسمع هاي الأغنية بشكل متكرر بالسيارة.
للوهلة الأولى بتفكّر إنه كل شيء في هذا الألبوم يدعو إلى العودة للتسعينات بشكل استعادي ومفرغ، ابتداءً من تسمية الألبوم كوكتيل أغاني، زي أيام الأشرطة التجميع وانتهاءً بالبيتس الكثيفة والصوت المكتوم اللي طالع من سماعة تلفون أرضي.
لكن كل ما نتعمق بالأغاني منلاحظ إنه الإلهام مش تسعيناتي بس، وإنما هو مزيج وتوليفة بتجمع بين بوب التسعينات اللي بيعتمد بشكل أساسي على خبطات الجيتار والدقات، وأوائل نماذج الموسيقى العربية المستقلّة من ٢٠٠٨، واللي منقدر نتّبّعها بطريقة ونبرة الغناء، وموسيقى اللو-فاي اللي بتخليك تنسى إنهم أغاني منفصلة وبتبلش تسمعهم كأغنية وحدة طويلة.
بتتميز الكلمات بأريحية وبساطة بتخليك تشعر بالألفة، بتذكرك بالمدرسة وبالشارع وساعة التسمّر أمام التلفزيون عشان تلعب أتاري مع صحابك. هذا الإشي بخليه الوصفة المثالية لأنه بشبك مع أكثر من جيل أولهم التسعينات اللي كبروا وتربوا على هاي الموسيقات، وجيل زد اللي بشكل عام بيشتاق لتجارب حسيّة ما خاضها بسبب الظروف السياسية وكارثة كورونا. هذا الجيل المنهمك بالتصنيف وإلصاق قالب عام على كل فكرة، كيف شكل الحب والحزن والوحدة والتخلي، بالإضافة إلى التفكير الدائم بالأسئلة الوجودية والتجوّل بعوالم الثيرابي.
أما عن طابع الحنين اللي بيطغى على الألبوم وربطها بنوستالجية مارك فيشر، إنه “الإشكالية تكمن في نوستالجية الشكل، حيث تُكرر الأشياء بشكل غير مُعلن”، المختلف في الألبوم إنه بجاهر بحالة الحنين بكل فجاجة ووضوح لتصبح مقصد لا وسيلة. من نفس المنظور ممكن يوصف البعض موسيقى تووليت إنها جافة أو بتنسخ البوب في فتراته الذهبية، وهذا الإشي تم تعزيزه بفيديو كليب أغنية حبيبي ليه اللي بتعيد تمثيل مشاهد من فيلم آيس كريم في جليم لعمرو دياب من سنة ١٩٩٢، وبوافقه في حالة الفيديو لكني بختلف مع هذا الرأي فيما بتعلق بالألبوم، اللي قدر يجمع ٣ حقب مختلفة من الموسيقى السائدة وما ركّز على نمط واحد، واللي بنظري بطلعه من الخانة الاستعادية الناسخة.
إذا قدر تووليت في الإصدار القادم إنه يطوّر من هذا المزيج ويستغله صح فيه احتمالية كبيرة يروح لمكان جديد وحلو. على هامش الألبوم، يمكن إجا الوقت اللي نرفع فيه شعار لا لشيطنة الحنين بعد الأن، ويمكن هيك زمن بده هيك معالجة.
بقناع كروشيه ووردة حمراء وخلفية من ستوديو تصوير تسعيناتي، يقدم تووليت ألبومه: كوكتيل غنائي للفنان تووليت حصريًا لحبايب قلبي، كمحاولة لكسر قالب مغني الراب الكول غير العابئ بغيره. لا يأخذ تووليت شيئًا على محمل الجد، حتى أن اسم الألبوم أطول من فيرساته. تراكات قصيرة نسبيًا، تنتهي كلها نهايات حادة وفجائية.
لا يوجد شيء مثير للجدل في الألبوم بخلاف البحث عن هوية الفنان نفسه – إن كان يهمك ذلك. خلف قناعه، لا يخجل تووليت من التعبير عن مشاعر مباشرة وتعكس قدرًا من الهشاشة، مثل الوحدة والتوهان ومعاتبة الحبيبة. لا يهمه حتى أن يكون القناع كوول كدافت بانك أو إم إف دووم.
المميز في ألبومه هو العودة للأغاني “الطيبة” كلمات ولحنًا، وهو المختلف عن إصداراته السابقة الأقل انتشارًا: مجهول وتووليت؛ حيث يستخدم مشاهد مزاجية مكونة من شرائط كاسيت، أجهزة ووكمان، والكثير من صور عمرو دياب وحميد الشاعري ويرى كيف سيستقبله الجمهور. الواضح – على الأقل من خلال السوشال ميديا – أن الجمهور أحب ذلك.
يبدأ الألبوم بتراك ما تيجي أعدي عليكي، الأشهر على تيك توك وريلز إنستجرام، مع حبيبي ليه الذي اختار تووليت تصويره كفيديو كليب مع متوازيات بصرية من فيلم آيس كريم في جليم. يعكس رواج هذه الأغاني افتقاد جيل زد هذا النوع من الموسيقى التي لم يتعرض لها أصلًا، وهو ما شهدناه مؤخرًا في إعادة انتشار أغاني شيرين وعمرو دياب القديمة مثلًا، بينما اتجه منتج موسيقي مثل آدم بورت لإعادة توزيع أغاني مثل حبيبي يا نور العين وصبري قليل ولاقت رواجًا واسعًا.
تراك لسه بريء محاولة للموازنة بين اتجاه التراب والحفاظ على أكوستيك الجيتار. يبدأ بجملة موسيقية متكررة يستخدمها تووليت بغزارة في هذا الألبوم كتوقيع له، كما استخدمها في إنتاجات قبله مثل بقينا غراب وليالينا، تشبه مطلع أغنية حبيبي الأولاني لرامي صبري. يذكرني بمحاولات موسيقى الأندرجراوند المصري في بدايات ٢٠١٠، معطيًا شعور تراك مسجل على ساوندكلاوند: كيو ميوزيك، كلمات بسيطة، نجرب ونشوف هيطلع إيه. جمل مثل “الطفل اللي جوايا لسه بريء” و”متسيبينيش لدماغي لوحدي” منتهية الصلاحية بالنسبة لي منذ دفتر مذكرات مراهقتي؛ وهو ما لا ينكره تووليت في طريقة تقديم الألبوم موسيقيًا وبصريًا.
من ناحية أخرى، يجرب توو ليت أنماطًا موسيقية مختلفة في أغنيات مثل نفس الكلام اللي بغنيه في اتجاه يشبه إصدارات ذَ ويك إند. محاولة غير مكتملة لكن يمكن أن تتطور لشيء مهم لاحقًا. محاولات أخرى مثل عزبة الهجانة فين كانت أكثر أغاني الألبوم تجريبًا. تجربة موسيقية فريش في جنرا السايكدليك روك الجديدة على الموسيقى العربية وتبدو وحيدة في الألبوم.
في عنيكي لون السما حاول تووليت المزج بين النوعين السابقين، الأغنية من الأفضل موسيقيًا في الألبوم في رأيي ويمكن البناء عليها لألبوم كامل من هذا النوع.
لا أعلم إن كان تووليت يستخدم هذا الألبوم لتجريب أنماط موسيقية لنفسه أو للمستمعين. اعتقادي أنه نجح في فتح باب التجريب لثلاثة أنواع على الأقل حتى ولو لم تكن تجارب مكتملة، ولم يتعمق كفاية أو يقدم شيئًا أصيلًا موسيقيًا في أي منها. الأكيد أنه نجح في تقديم شيء مختلف عن الموجود. يظهر ذلك في بقيت وحيد وليه بنخبي ومش بنقول، من أغاني الألبوم الأقل رواجًا لكنها من الأفضل و”الأطيب” في رأيي.
أول مرة سمعت تووليت كانت تجربة غريبة شوي، أنا آدمي عمري ما ارتبطت مع بوب التسعينات لأنه كان بالنسبة لي مكرر، وأنا ما أحب أسمع نفس الشي كثير. تقمص تووليت لنجوم البوب في التسعينات في البداية شفته شي ممكن يطلع منه بوتنشال، لكن بعد تفكير، قعدت أفكر قد إيش هذا الشيء مكرر وممل.
تووليت عنده إنتاج نظيف، وقدرة حلوة على التلحين، سواء بصوته أو بالعزف، وهذا الشي واضح، لكني تمنيت لو إنه هذي القدرة كانت مستغلة في شي جديد أكثر، مو مجرد محاكاة لموسيقى قديمة بدون هدف. ليش تحاكي فترة قديمة إحنا تجاوزناها موسيقيًا وإحنا قاعدين ندور عن التجديد؟
بعدين حسيت بالتناقض لأني أسمع مولتشات دوما واللي قاعدين يسوون نفس الشي بس مع البوست بَنك. في النهاية استوعبت شغلة جدًا مهمة، كل ما الناس يطفشون من التكرار في الموسيقى يرجعون للماضي، فلما يجي واحد ويسوي لهم موسيقى جديدة بس بأسلوب القديم، حيعلق معاهم.
هذي الأفكار العشوائية اللي دارت في راسي عن اللي قاعد يسويه تووليت وضحت أكثر لما أخذت رحلة استماع طويلة مع الألبوم. استوعبت إنه مش مجرد ألبوم يحاكي بوب التسعينات بشكل عشوائي، بل عالعكس، هذا ألبوم متماسك ومرتب.
في رحلة بحثي عن ألبوم عربي حقيقي مش بس تجميعة تراكات خلال هذي السنة، هذا الألبوم كان ثالث ألبوم من أكثر من ٢٠ ألبوم سمعتهم خلال الأشهر الماضية. ألبوم كوكتيل غنائي هو رحلة موسيقية قصيرة، مترابطة ومتنوعة في نفس الوقت. سواء عجبك الجو ولا ما عجبك، دار فينا تووليت بين البوب التسعيناتي والسنث ويف والراب وعدة أساليب أخرى، وكلها أعتمدت على تقديم النوستالجيا لكل المستمعين سواء كانوا عاشوا التسعينات ولا ما عاشوها.
بس الموضوع في النهاية مو بس نوستالجيا، فيه مشروع واضح لبناء شخصية فنان، وهذا الشي قاعد يرفع من قيمة تووليت في المشهد. عرف تووليت كيف يجذب الانتباه. فيه شغل واضح عالجروفات والألحان وهذا الشي بالنسبة لي رفع من قيمة الألبوم أكثر، الناس لها فترة طويلة ما سمعت حاجة فيها ألحان وجروفات متنوعة.